265613212تمهيد:الدّين ضرورة حياتية يطبع الإنسان بل يسير حركة حياته ونمائه وفق قواعده، والتدين موقف أساسي من مواقف القيّم الإنسانية، بل من أعظمها والتي لا مندوحة له إلاّ به.
فنجد عبر الحقبة التاريخية للإنسان أنّه لا يوجد قوم عاشوا دون أن يتدينوا بديـن أو يناقدوا إلى رسوم وطقوس، لذلك فالفكرة الدينية منتشرة بين جميع الشعوب والأقوام البدائية أو المتحضرة، كالبابليين(بعل وعشتار) والسومريين(انـوو انليل) والفرس(امورامزدا) والهنود(برهما،سيفا،بودا...) ولهذا ذكر مؤرخو الحضارات وتاريخ الأديان كبنيامين كوستان: أنّ الدّين من العوامل التي سيطرت على البشر وأنّ التحسّس الدّيني من الخواص اللازمة لطبائعنا الرّاسخة، ومن المستحيل أن نتصوّر ماهية الإنسان دون أن تتبادر إلى ذهننا فكرة الدّين( ).
أمّا إذا رجعنا إلى نظرة الكتب السماوية(التوراة،الإنجيل،القرآن) فأنّها تؤكد على هذه الحقيقة السرمدية. فإنّ القرآن يؤكد أنّ الإنسان أو ما خلق خلق لدافع ديني(وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون) ( ).
أمّا الشعوب البدائية المتوغلة في التوحش فلكل منها قوّة غيبية تتقرب إليها وكائن أعلى تتضرع إليه بالإضافة إلى الديانات السماوية الكبرى اليهودية، المسيحية، الإسلام.

من هذا تعيّن على الفكر الإنساني الاهتمام بظاهرة(الدّين) وجعله من المعارف الأساسية لدراسته في إطار العلوم حتى ظهر كعلم مستقبل بمنهج واهتماماته العلمية كباقي العلوم.
ظهور علم تاريخ الاديان:
إنّ بداية ظهور علم مقارنة الأديان تظهر من خلال اهتمام الإنسان بالآخرين ومعتقداتهم بدافع دينه أو دوافع أخرى، ذاتية معرفية لكن الملاحظ عند مؤرخي الأديان أنّهم تضاربوا حول البدايات الأولى والتي مهدت لظهور هذا العلم.
ويمكن القول أنّ تاريخ الدّيانات هو علم جديد، ونعني بعلم الدّيانات الدراسة الموضوعية لمختلف الأديان، أصلها، نموها في الزمان والمكان ونستخلص أنّه علم نسبي وجديد فقد سجل لنا علماء تاريخ الأديان بعض البدايات التي أفرزها الفكر اليوناني القديم.

فقد تعرض الفلاسفة اليونانيون بكل حرية للمشاكل الكبرى التي جلبت اهتماماتهم كأصل العالم، العلاقة الإلهية بالعدالة، مصير الأرواح بعد الموت وعليه كانت هذه هي بداية النقد الذي تطور أكثر عند الصوفيين ومختلف الفلاسفة ومن ثمّ ظهرت عدّة مناهج تفسيرية للأديان وكان منهج(l’évhénérisme) هو أوّل نظام تفسيري ويعتقد(Evhémére) بأنّ الألهة في الميثيولوجية التقليدية هم أشخاص مميّزين كانوا فلاسفة وأمراء قدسوا من قبل الشعب، ونجاح هذه النظرية تعزّزه العادات الدينية للملوك خاصة في القرن II وIII قبل الميلاد وكان لكتاب(Euhémeros) صدى كبيراً في اليونـان، وترجـم إلى اللاتينيـة من قبـل(Ennius) كما أنّ هبرت سبنسر(Herbert Spencer) أعاد(l’évhénérisme) ضمن نظرية(moniste) ( ).
ثمّ تلتها بعض التطوّرات حتى ظهر آخر الأديان السماوية(الإسلام) الذي أعطى هذا العلم حقه في الظهور واستشراف طرقه ومناهجه، فقد جاءت إشارات قرآنية ساعدت علماء الإسلام في العصور الزاهرة للحضارة الإسلامية أن يظهروا هذا العلم، فأوجبت احترام أي دين واحترام معتنقيه عكس مابدى عند المسيحيين، في القرنIVX و IIVX( ).
وقد أعطى الإسلام لليهود والنصارى وضعاً متميّزاً في التعامل والعلاقات(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وألهكم واحد ونحن له مسلمون) ( ).
كما أنّه أباحمؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم والتزوج من نسائهم ويكون لهذه الزوجة الكتابية القيام بفروض عبادتها والذهاب إلى معبدها أو كنيستها لممارسة شعائر دينها(اليوم أحلت لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذيم أوتوا الكتاب من قبلكم) ( ).

لهذا ظهر علم تاريخ الأديان أو علم الملل والنحل والذي أصبح يعرف من بعد بعلم مقارنة الأديان بمنهجيته السمحاء وبعده الإنساني والعالمي على عكس الأديان الأخرى التي كانت تعتبر أي دين ضلالاً وبدعة، فإذا نظرنا إلى موقف اليهودية من المسيحية والمسيح فهي تعتبرها ضلالاً بل اعترت المسيح(عليه السلام) ضمن المسحاء الكاذبين....
فقد ذكر آدم ميتز(... أن تسامح المسلمين في حياتهم مع اليهود والنصارى وهو التسامح الذي لم يسمح مثله في العصور الوسطى سبباص في أنّ الحق بمباحث علم الكلام شيء لم يكن قط من مظاهر العصور الوسطى هو علم مقارنة الملل) ( ).
بل اهتم المسلمون أيضاً بدراسة الأديان غير السماوية(Les religions non biblique) والتي اعتنوا بها وبمعتقداتها وما أفرزته من أطر اجتماعية وثقافية، فكانت دراستهم من أهم ما أنتجه الفكر الإنساني وقتها، حتى أن كتب علم الكلام لا تخلوا من دراسة ومناقشة هذه الأديان(كالثانوية lA- ayiwanaht، المناوية ………المزدكية Al- Mazdakia، الهندوسية(البرهمية)L’hindouisme ، البوذية (أصحاب البوذ) boudhisme) ( ).
وهذا العلم كما يبدوا من المؤلفات التي تركها المسلمون الأوائل، علم قديم، وفي هذا يقول الشهرستاني أحد أساطين هذا العلم: (أعلم أنّ العرب في الجاهلية كانت على ثلاثة أنواع من العلوم: أحدهما، علم الأنساب والتواريخ والأديان).
كما ورد كذلك في رسائل إخوان الصفا: ( وأعلم ياأخي أنّ العلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان) ( ).
وفي هذا إشارة واضحة إلى أهمية هذا العلم وقدمه عند المسلمين.وأهميته تكمن في أنّ جلّ علماء المسلمين قد خصصوا له مبحثا خاصا حتى ولو لم يكونوا مختصين فيه.
كما أنّه برز فيه عدّة أساطين يستحقون تسمية لكل واحد منه(عالم الأديان)، فنذكر من هؤلاء، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني(479 –548هـ) الذي يعد من أشهر علماء تاريخ الأديان عند المسلمين وأكثرهم موضوعيةن فهو صاحب الكتاب المعروف باسم (الملل والنحل)، الذي يعد بحق أهم عمل في تاريخ الأديان عند المسلمين بسبب التزام صاحبه بمنهج علمي وموضوعي في دراسة الأديان والفرق وبأسلوب وصفي تحليلين كما يتضح عليه أنّه سعى لوجود منهج علمي لدراسة الأديان والفرق بعيداً عن الأهداف الدفاعية والمؤثرات الخارجية.
ولعل أهم ما يميّز عمله في تاريخ الأديان تلك النظرة المنهجية الواضحة النتي بدأ بها دراسته وذكرها في الصفحات الأولى من الملل والنحل وتقوم هذه النظرة على خمس مقدمات رتبها على النحو التالي:
1- بيان تقسيم أهل العالم جملة.
2- بيان قانون يبني عليه تعداد الفرق الإسلامية
3- بيان أوّل شبهة وقعت في الخليقة.
4- بيان أوّل شبهة وقعت في الملّة الإسلامية وكيفية تشعبها ومصدرها ومظاهرها.
5- بيان السبب الرئيسي الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب( ).
والمحلل لهذا المقدمات المنهجية الخمس يدرك أنّ هناك تصوراً منهجياً كاملاً لدى الشهرستاني جعله أساساً لدراسته الشهيرة ويتضح من خلال المقدمة الأولى إدراكه لاختلاف الأديان وانقسامها نظراً لاختلاف أهل العلم وانقسامهم إلى شعوب وجماعات.
كما يتضح لدارس الملل والنحل القيمة العلمية لهذا المؤلف في حقل علم تاريخ الأديان، فقد عالج فيه مشاكل منهجية، منها مشاكل تخص المقارنة بين الأديان والفرق ووسائل تفسير الظاهرة الدينية وكلّها من جوهر المنهج الحديث لعلم مقارنة الأديان.
كما أنّ القرآن الكريم يعتبر، أوّل من أعطى الإرهاص الحقيقي والإشارات الأولى في تناول الأديان الأخرى بمنهجية محكّمة وقد أعطى لدارس الأديان والناقد أشكالاً متعدّدة في النقد أعطى وسائل كثيرة لمعرفة ماهو صحيح ومتغير في الأديان.
فبيانه لموقفه من التوراة(الأسفار الموسوية الخمس) نرى أنّه استعمل وسائل لم تكن معروفة( ولا نعجب إذا عرفنا أنّ معظم المصطلحات النقدية القرآنية ووسائل التغيير النصي... أصبحت من مقومات المنهج النقدي للتوراة الذي تبناه علماء نقد الكتاب المقدس(العهدين القديم والجديد) منذ القرن التاسع عشر الميلادي) ( ).
فهذا العلم اجتمعت أسباب ظهوره من إشارات قرآنية وتوسع رقعة الأرض الإسلامية ودخول الأمم المختلفة في الدّين الإسلامي وببعده العالمي والإنساني فكان من العلوم الأساسية لدى المسلمين الأوائل في عصورهم الحضارية المزهرة، حيث كان ضمن مباحث علم الكلام والفلسفة حتى انفصل بمنهجه.
فعلم تاريخ الأديان أو علم مقارنة الأديان يعتبر من العلوم الأساسية في التراث الإسلامي وأن لم يلق العناية الكافية في عصورنا المتأخرة من الدارسين المسلمين.
فهذا العلم الذي عرفه الغرب في القرن التاسع عشر الميلادي(19م) هو من ابتكار البيئة الإسلامية في القرون الأولى للحضارة الإسلامية ويعد هذا العلم آخر ما وصلت إليه العقلية المنهجية الإسلامية في دراسة الدّين.
يظهر جلياً أنّ الفكر الإسلامي هو السبّاق لهذا العلم ولكن بعد ضعف المسلمين واستسلامهم لأدبيات التخلف اتّجه الفكر الغربي نحو هذا العلم مبرزه من جديد، فأصبحت كبريات الجامعات الغربية كجامعة شيغاغو(Chicago) التي فتح فيها قسم خاص سمي(الأديان المقارنة) سنة1893 م، وجامعة مانشستر(Manchester) سنة1904م ، وجامعة السربون(Sorbonne) فقد قرر البرلمان الفرنسي سنة 1885م فتح قسم سمي(علم الأديان)، كما فتح أوّل كرسي لعلم الأديان في ألماني(برلين) سنة 1910م.
وقد فتح كذلك بإيطاليا أوّل كرسي لعلم الأديان بجامعة ميلانو(Milano) سنة1912( ).
فأخذ، بذلك هذا العلم طابعاً معرفياً مميزاً عند الغرب، فظهرت عدّة تسميات لكن فضلت التسمية الألمانية عند علماء مقارنة الأديان بالغرب(Religions.Wissemschaft) بالمعنى العلمي الذي يريده علماء مقارنة الأديان لعلمهم، وضياع هذا المعنى في الكلمات المقابلة في اللّغات الأوربية الأخرى وخاصة كلمة(Science) الإنجليزية والفرنسية( ).
وقد تعرض علم مقارنة الأديان في الغرب لمقاومة شديدة من التيار اللاهوتي المسيحي ومن بعده الماركسي، لكن بالرغم من هذه المقاومة، فلم يمنعا نمو علم مقارنة الأديان نمواً واسعاً، ولاسيما منذ مطلع القرن العشرين، وبوجه أخص، منذ استخدام الطريقة الفنومنولوجيا كما جاء بها هوسرل(Husler) والتي استخدمت لأوّل مرّة في علم الأديان من طرف لهمان(Lehmann) ( ).
كما أظهرت بعض الدراسات في علم مقارنة الأديان أنّها لم تقتصر في تعاملها مع الفنومنولوجيا بل استخدم علم مقارنة الأديان علم الفيلولوجيا والأنتوغرافيا كما استفاد من نتائج الأنتروبولوجيا حتى أنّهم استعانوا بالعلوم الدقيقة مثل مافعل(لويس فريه)(Luis.Frey) في كتابه(تحليل ترتيبي للأناجيل المتشابهة)(Analyse Ordinaire des évangiles synoptiques) الصادر عن المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بالسور بون قسم الرياضيان وعلم الإنسان، فقد استخدم فيه الرياضيات الحديثة لتحليل الأناجيل المتشابهة( الايزائية)(متى، مرقص، لوقا) ( ).
التصورات الحديثة لتاريخ الأديان:
عرف لالاند(la lande) طريقة المقارنة(بأنّها الطريقة التي تعتمد على المقارنات بين مختلف الأشكال المنتمية لفئة واحدة أو لنوع واحد من الظواهر ومن أصل واحد كذلك) ( ).
وهذا التعريف يسمح بطرح عدّة تساؤلات مفادها:
هل هناك فعلاً منهجية أو طريقة مقارنة؟ ومن يستعملها؟ من المؤكد أنّ هذه الطريقة كانت من قبل وهي الآن موجودة تحت عدّة أشكال مختلفة ضمن طرق العملية للمختصين في العلوم الإنسانية.
تستخدم عادة المقارنة في مجال التاريخ والمقارنة الأكثر دقّة للجامعيين نجد جذورها العميقة في علم النفس الإدراكي وفي علم النفس النمو(مراحل النمو عند الطفل).
والمقارنة تبدو أكثر قدماً من الإنسانية وأكثر هشاشة منها ولم تتمكن المقارنة أو التيار الفكري المنادي بها اكتساب مركز في عصرنا الحالي كطريقة فكرية إلاّ بصعوبة( ).
وكان آدم أول من استعمل المقارنة عندما رأى حواء ليقارب بينه وبينها.
ووردت طريقة المقارنة في عدة كتب سماوية كالقرآن مثلا ، حيث رفض إبليس السجود لآدم باعتباره مخلوقا من النار وآدم من الطين .
(وعليه ، فالمقارنة تسمح بتعريف أو بسمو جهة الآخر من خلال الفوارق الموجودة أو لشيء غير المفهوم وغير المشروح أو المبين) ( ).
على العموم ، طريقة المقارنة تهتم بدراسة مختلف أنواع الظواهر الدينية على الخصوص بتعيين وتحليل العوامل التي تؤدي إلى التشابه والفروق في الأنواع المعينة.
وتحتوي طريقة المقارنة على المنهج التاريخي(Méthode historique)ومنهج الثقافات المقارن(Méthode interculturelle).
ومنهج مقارنة الأديان يتطلب وسائل وطرق لتبيان أوجه التشابه والاختلاف بين الظواهر حتى تظهر العوامل التي تنتج وتنمي هذه الظواهر وأوجه التداخل ما بينها وبداخلها( ).
والارتكاز على التشابه والاختلاف يعتمد عليه كلّ فيلسوف، ملّ عالم دين، كلّ مؤرخ، كلّ سوسيولوجي وكلّ سيكولوجي وكلّ فقيه ومفسر وحتى كلّ فيزيائي.
لكن الباحث في مقارنة الأديان يتعرض لجملة من العوائق والصعاب، فينبغي عليه مواجه المقومات الدّينية عند مقارنته للأديان.
فمقارنة الأديان لا بد أن نعتمد على هذه الطريقة كمنهجية عملية لأنّها تتعرض للتاريخ، وإذا كانت الصوّر السيوسيو- ثقافية تعرض نفسها بقوّة في هذا الميدان فإنّ فهم الغامض يتم عبر مراحل كتقريب الشيء من شبيهه وإبراز الفوارق بعد ذلك( ).
التفكير الفلسفي حول المقارنة:
التساؤل هنا يتعلق بالدخول إلى عقلانية المقارنة فالمقارنة كطريقة خاصة ترتبط أكثر بالمعرفة التاريخية وهو ما يسمح لها كطريقة بصياغة فرضيات جديدة وتوسيع آفاق الفهم والمقارنة تكتسب أو تلتقي من المقارنة مسؤولية خصوصية.
فقد تُمكن العديد من الفلاسفة من إظهار أهمية المقارنة في معرفة الحقائق، وهناك قول مأثور مفاده، أنّ المقارنة لا تعني العقل أو المنطق، وعليه فالمقارنة لا تكفي للتأكيد و التبرير ولا تسمح بالاستنتاج لأنّها لاتقدم إلاّ معرفة غير مكتملة( ).
ولهذا طرحت إشكاليات وتساؤلات حول عدّة آليات قد تلعب دوراً في المقارنة كعملية الخيال، فقد عارض باروخ سبينوزا(B.Spinozah) كل حكم قيمي أو وهم خاص بالمعرفة في عملية المقارنة، فهناك مبدأ يتعلق بقدرة أو كمال شخص ما كمال شخص ما وما هو مرتبط بحقيقة الشخص نفسه وكل حقيقة تبقي فرضية وإذا تمّ مقارنتها مع حقيقة أخرى أو مع فكرة أخرى ستقود إلى اغتراب المعرفة وتضييعها في الخيلل، ولا يمكن التفريق بين المقارنة الإيجابية والمقارنة القيمية(المعيارية) أو العمودية، وكل مقارنة تكون معتبرة أو غير معتبر، وفي حالة مقارنة مالا يجب أن يقارن فإنّ في ذلك خطأ معرفي( ).
لهذه العوائق المعرفية قد طوّر علماء مقارنة الأديان البحث في منهجه حتى يتفادوا السقوط في اللاموضوعية فكان عمل(Dumézil) في تاريخ الأديان المقارن موظفاً المنهجية الوراثية.
فقد كان بحثه في الديانة الهندو-اوربية والتي بدأها قبله ماكس مولير(M.mûller) وجيمس فريزر(J.frazer)فتبع طريقة العلاقات بين الكلمات والتي بحث من قبل من طرف(Veudryes) وفهم أنّه لابد التخلي على مقارنة الأعلام والاتجاه لمقارنة التصوّرات الدّينية للكلمات( ).
كما أنّ هيلر(Hiller) وأوتو(Otto)، كانت مقارنتهما المصنفة تعني الظواهر الرمزية ككشف للشيء ذاته(الصلاةن التصوف) ( ).
كما أنّ الباحث الكبير مارسيا إلياد(Mercea. lliade) اهتم بدراسة الأديان مبرزاً عدّة مراحل في دراسته للأديان.
المرحلة الأولى: دراسة التاريخ الدّيني من طرف مختصين.
المرحلة الثانية: الدراسة بواسطة الفينومولوجيا، دراسة ظواهر الدّينية كما هي حسب سلّمها.
المرحلة الثالثة: تفسير النّصوص إذا كانت الظاهرة الدّينية عندها معنى تاريخي( ).
لكن رغم هذه المجهودات المبذولة من قبل علماء مقارنة الأديان في العصر الحالي، فإنّ المقارنة تضمنت أخطاراً نذكر منها اثنين:
1- تفريق الأحداث عن المحيط الذي حدثت فيه يعني إقصاء الجوانب التاريخية والجغرافية والثقافية.
2- عدم الاعتراف بخصوصيات الكلام، فمعطيات التجربة أو الواقعة الدينية يعبر عنها بالكلام الخاص لكلّ ثقافة والشخص الذي له رؤيا فوق طبيعية يتحدث عن تجربة أو ممارسة بالكلام خصوصي خاص بمجتمعه وما يرتبط بذلك من معتقدات وأفكار( ).
نخلص، أنّ علم مقارنة الأديان قد سار معرفيا زمنياً منذ بدايته في الفترة الإسلامية حتى عصرنا الحالي، متطوراً ضمنياً وفق المعطيات العلمية المستحدثة، كما أنّ المقارنة رغم تخطيها العقبات الإبستمولوجيا ورغم مجهودات علماء علم مقارنة الأديان أن تكون مبيّنة على أسس معرفية صحيحة لكن مازالت هناك عوائق كثيرة مثل السوسيو، ثقافية أو غيرها.
كما أنّ علم تاريخ الاديان قد بلغ شوطاً كبيراً في أخذ مكانته اللائقة به في مصاف المعارف الحديثة والذي تشكل فيه العقلانية وسمو الإنسان للوصول إلى الحقائق المجردة الهدف الأسمى.
د/ بشير كردوسي
جامعة الأمير عبد القادر -قسنطينة-الجزائر.

anfasse.org1. تقديم
سنحاول، في هذه المقالة، تبيان ، أن تضارب التقسيم للهجات العربية سببه عدم وجود دراسات كافية ترصد تشابه واختلاف اللهجات العربية، وأن التصنيف الجغرافي للهجات المغربية، بشقيها العربي والأمازيغي، عام وغير دقيق، بدوره، نظراً لغياب مقومات الرصد من قبيل الأطاليس ، وتحديد النقط وحصرها في محلات غير شاسعة. وندافع، في مستوى آخر، على " نسبية" قرب أو بعد اللهجات من الفصحى، كما نناقش بعض التصورات المغلوطة حول اللهجات ووظائفها وتفاضلها، ونخلص إلى أن مناهج دراسة اللهجات العربية منحصرة في الوصف والتأريخ لغياب آليات الرصد الدقيق.
1.1. اللهجة العربية المغربية: مسألة التسمية
يطعن باحثون مغاربة في مصطلح لهجة عربية مغربية المرتبط بالتقسيم الجغرافي الذي يُقابل بباقي اللهجات العربية وذلك اعتبارًا منهم للأساس اللغويّ في التقسيم. في هذا الاتجاه، يذهب عبد العزيز حليلي حين يُقسّم اللهجات العربية إلى بدوية وحضرية.و يستدل على تصوّره بالوقائع اللغويّة، حيث تتميّز اللهجات الحضرية بخصائص لا توجد في البدوية. ففي الأولى، مثلا، انقرض التمييز بين المفرد والمثنّى والجمع، بينما مازال مستمرّاً في الثانية، وتُحقّق لهجات المدن القاف قافاً، على غرار الفصحى، في حين، نجده كَافاً في لهجات البوادي، كما أن هذه تتضمن الفعل شاف، وتلك لا تتوفر عليه.1
ويُؤكد حليلي مذهبه باتفاق اللهجات العربية عبر كل أنحاء العالم العربي في السمات الحضرية والبدوية، بمعنى أن لهجات المغرب واليمن قد تلتقيان في سمات لغوية، في الوقت الذي قد لا تتطابق فيهما لهجات اليمن والسعودية أو العراق. أي إن التوافق غير ناتج عن الصدفة أو الاحتكاك أو التجاور، طالما أن القسمين منتشرين في كل المناطق العربية. بل إن اللهجات البدوية غير منحسرة في البوادي، فقد توجد في بعض المدن العتيقة كبغداد ومراكش، كما أن اللهجات الحضرية تتعدّى المدن إلى بعض البوادي مثل اجبالة غرب المغرب.2

anfasse.orgحفظت الذاكرة تراثا إنسانيا هائلا في الأدب الذي كان في بداياته الأولى معبرا عن آمال ورؤى وتوجهات تتسم ببساطة التركيب الذي تسايره عبقرية المنحى والتصور ،لكن في العصر الآني مع توجه خارطة العالم نحو التوحد والانصهار ،واختفاء الحدود والهويات ظهر التساؤل حول أهمية الأدب الشعبي ودوره في تاْطير الرؤية الوجودية للإنسان ،وهنا يكون التساؤل:ما هو مستقبل الأدب الشعبي في ظل هذه الظروف الآنية والمتعاقبة؟.
تعامل العقل الإنساني بالإقصاء والإلغاء لأنماط تعبيرية مختلفة وفي طليعتها الأدب الشعبي،حيث همشت هذه الأشكال نظرا لوجود متعاليات مختلفة منها :المتعاليات النفسية أين كان العزوف وليد ضغط نفسي اطر رؤية الإنسان وفق ماتقتضيه الأهمية،إذ التهميش الذي وسم به الأدب الشعبي شكل هاجسا ومانعا نفسيا حال دون الاهتمام به،حيث نظر إليه في مقابل الأدب الرسمي نظرة دونية.
وأما المتعاليات الاجتماعية فقد تمثلت في ضغط المجتمع بفرض نظرة قيمية تخدم الأطر العامة وكل القيم والعادات التي رسخها منذ القدم ،وبالتالي ألغيت أشكال معينة وهمشت لأنها لا تخدم هذه القيم.بالنسبة للمتعاليات السياسية ففي طبيعته شكل الأدب الشعبي بديلا عن الأدب الرسمي وخضع لاهتمام الفئة البسيطة ،ولان كل سلطة تتسم بالجمود وتحاول الحفاظ على الثبات والنمطية أدى ذلك إلى محاربة هذه الأشكال التعبيرية.لكن يدعونا التساؤل إلى القول:هل شكلت هذه المتعاليات حاجزا أمام تطور الأدب الشعبي وموضعته في إطار من الحضور الفاعل ،أم لازال الحديث عن حضور الأدب الشعبي موجودا إلى الآن؟.

anfasse.org*  العولمة كضرورة:
تم الإتفاق على توحيد إستخدام مصطلح العولمة للدلالة على تحولات البنية العالمية في العقدين السابقين،خاصة في منطقة الشرق الأوسط عامة والعربية بشكل خاص،في المجالات السياسية والإقتصادية وربط كل ما هو محلي (داخلي)،بالعالمي (الخارجي).وما تم من خلق لمساحات إجتماعية إنسانية أكثر شمولية بواسطة العوالم السماوية المفتوحة أو العالم الإفتراضي المتجسد في شبكة المعلومات.
فالعولمة من حيث بنيتها الفكرية الأولى تعتمد على إزالة الحواجز الزمانية والمكانية،وتوحيد الهم الإنساني تحت المفهوم الكوني،مع تجاوز لكل العوائق القومية والعرقية والدينية والمذهبية بكل تجلياتها للوصول إلى أعلى مرحلة دمج ممكنة بين المجتمعات،في محاولة لتعديل المسار الإنساني الذي عانى قروناً طويلة تحت طائلة الصراعات الإختلافية.مما يُعطي للعولمة قيمة الضرورة لا مجرد حالة من الطرف الفكري.
ومن أهم المشكلات التي تصطدم بها العولمة الهوية بأشكالها المتعددة (القومي ـ  الديني)،فمن الناحية التاريخية فإن الهوية القومية من المشاريع السياسية والإقتصادية التي تكاملت مع المجتمعات الرأسمالية الحديثة في المجتمعات الغربية،وبداية المشروع الناصري والصراع مع الكيان الإسرائيلي في المجتمع العربي.فحاولت الحكومات إيجاد مساحات تعزز بها حالة الفصل بين (الأنا) و(الآخر)، وتوجيه الخطاب (المتجسد في إعلام وتعليم)،لإنتاج فكرة واحدة تهدف إلى الربط بين الفرد داخل إطار الهوية القومية .
ولكن مع ما وقع فيه الخطاب القومي من مشاكل سياسية (كحرب الستة أيام 1976)،وما استتبع ذلك من إنزلاقات إقتصادية،أدى في النهاية إلى إنهيار المشروع القومي ذاته.ومع ظهور الإتجاهات الإسلامية السياسية في المرحلة التالية ،وإنتشار ما يُسمى بالهوية الإسلامية،وأتى ذلك متزامناً مع مشكلة النفط والدور الإقتصادي الهام الذي قام به وتحوله إلى المصدر الأساسي والوحيد للطاقة،وتأثير كل ذلك على المجتمع الدولي بشكل عام والعربي خاصة.إنتقل الصراع إلى مرحلته التالية متجسداً في العلاقة بين النفطي(الإقتصادي)،والإسلامي (السياسي).وظهور ما تم تسميته بالإرهاب الديني وما شكّله من خطر حقيقي على المجتمعات الدولية،خاصة ما أنتجته الهوية الدينية من صراع بين القومي والديني.

anfasse.orgيتركز موضوع هذا البحث-الذي يقع في 820 صفحة (بجزءيه الأول والثاني)- حول ظاهرة الزوايا بالمجتمع المغربي، وهي ظاهرة لها أهميتها بالطبع وأصالتها التي تستمدها من عمق تجذرها في بنيات هذا المجتمع، وفي تاريخه الديني والسياسي. وانسجاما مع الإشكالية المطروحة للبحث، فإن أهمية الزوايا تتأكد بالنظر إلى ما اضطلع به هذا التنظيم الديني-السياسي من أدوار اجتماعية وسياسية حاسمة، في سياق مغرب ما قبل المرحلة الكولونيالية. هذه الفترة من تاريخ المغرب، التي ستعرف- وكما تطلعنا المصادر التاريخية- مجموعة من الأحداث والوقائع السياسية التي تشهد  بتأزم العلاقة، وعلى مستويات عدة، بين السلطة والمجتمع. وهنا بالذات ومن هذا المنطلق، سيرتبط تاريخ الزوايا وبشكل وثيق، بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للمغرب الماقبل كولوينالي، بحيث شكلت في هذا الإطار قوة سياسية وازنة، استطاعت أن تفرض نفسها على المخزن (كسلطة محلية قائمة بذاتها) تسندها قاعدة قبلية عريضة. وقد استفادت الزوايا في ذلك-وعلاوة على تنظيماتها المتجذرة من ذلك الامتياز الإيديولوجي القوي الذي كانت تمنحه إياها فكرة الانتماء الشرفاوي، ولا يخفى في هذا الإطار ما كانت تشكله من خطورة حقيقية على المخزن،  باعتبارها القوة السياسية الوحيدة التي كانت تنافسه في إحدى أهم رموز مشروعيته السياسية؛ ونعني بالطبع  (الإيديولوجية الشرفاوية) القائمة على فكرة الانتساب إلى آل البيت : (فكل من السلطان وشيخ الزاوية يعتبر شريفا، تربطه قرابة دموية بنبي الأمة).
لعل هذا ما يمكن التأكد منه على ضوء التجربة التاريخية للزاوية الخمليشية (موضوع دراستنا)، والتي نرى فيها نموذجا لغيرها من الزوايا في هذا الإطار. فقد شكلت هذه الأخيرة، منذ تأسيسها على يد الشيخ "سيدي يحيى خمليش" أواخر القرن 17م وإلى حدود الربع الأول من القرن 20م أكبر قوة روحية وسياسية على مستوى المجتمع الريفي؛ ولا أدل على ذلك من كونها كانت تؤطر إحدى أوسع وأقوى التكتلات القبلية بالمنطقة، والأمر يتعلق بكونفدرالية قبائل "صنهاجة السراير" التي كانت تشغل بقبائلها معظم مجال الريف الأوسط. وفي هذا الإطار، فقد كان شيخ الزاوية الخمليشية، وعلاوة على وضعه الروحي المتميز، بمثابة القائد السياسي والعسكري لهذه الكونفدرالية، ولعل هذا ما أعطى للزاوية خصوصيتها وتميزها، ولنشاطاتها بعدا سياسيا قويا وواضح المعالم، وربما هذا ما شجعنا أكثر على دراسة هذه الزاوية، وكان الدافع الأكبر نحو اختيار إشكالية البحث.

anfasse.orgيمكن القول ان للعولمة اجندتها المنطلقة من المركز – اميركا – الى الاطراف – العالم بما بدأت به او تروم عمله من تغيير جوهري .. ترغيبا وترهيباً – في طبيعة علاقات الانسان بتاريخه وتراثه او بيئته الحياتية بما في ذلك قيمه وسلوكه وعلاقته مع مجتمعه ، بل وبعلاقته بالكون ونظرته اليه .
قد يرى بعض المهتمين بموضوعة العولمة بانها تعود بجذورها الى قرون خلت لكن المفكر الامريكي (( ناعوم تشومسكي )) يعزو نشوؤها الى بداية ظهور النظام الرأسمالي في اوربا حيث يقول  ( لاجديد في النظام الدولي فالقواعد الاساسية مازالت كما هي قواعد القانون للضعفاء وسطوة القوة للاقوياء ) بينما ترى منظمة الامم المتحدة للتجارة والتنمية – وهي احدى اهم ادوات العولمة – بان العولمة ظاهرة متعددة الوجوه .. من ابرز مظاهرها النمو السريع في التجارة الدولية وتدفقات رؤوس الاموال وازدياد اهمية الخدمات في كل من التجارة والاستثمار الاجنبي المباشر على السواء .. وتكامل عوامل وازدياد اهمية الخدمات في كل من التجارة والاستثمار المباشر على السواء .. وتكامل عوامل الانتاج على الصعيد العالمي والتواؤم المؤسسي بين البلدان على الصعيد العالمي .. فيما يرى آخر بان المقصود بالعولمة هو : ( امركة مظاهر الحياة كلها ، سواء في الاقتصاد او العلوم او القيم والتقاليد وحتى الالعاب والفنون والامراض والجوع ) .. وهناك من يعتقد بان ثمة فرقاً بين العولمة التي تأتي نتيجة طبيعة للتطور العلمي والتقني وحركة الاسواق وتقدم وسائل الاتصال واعتماد التبادل .. وهذه تعد مرحلة متقدمة سواء في الصناعة او في آليات النظام الرأسمالي .. وبذلك تعتبر بهذا الشكل حتمية الحدوث .. اما من يعتقد بان العولمة نظام ايديولوجي شامل فانه يرى بانها تقف بوجه الايديولوجيات الاخرى التي تعبر عن خصوصية الهوية الثقافية .. وفي أي حال فان صحيفة (( النيويوزك تايمز )) تتنبأ بان البلدان التي ستقف في وجه قطار العولمة سوف تمنى بالانسحاق والتراجع الى خلف سكة قطار العصر الجديد .
لعل ما يتبادر الى الذهن بعد هذه المقدمة هو : هل ان العولمة تعمل على كوكبة الاقتصاد العالمي ؟ - أي هل هذا التوحيد سيكون حياديا ؟ والامر لايقتصر على الجانب الاقتصادي بل يمتد الى الجوانب الاخرى الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية فاذا علمنا بان العولمة مستمدة من الفلسفة النفعية / البراغماتية .. فهل يصح ما اشار له المفكر الفرنسي روجيه غارودي بان العولمة هي وجه آخر للاستعمار .. وان مايفعله الاميركان هو تذويب لثقافات الشعوب الاخرى . ؟

anfasse.orgI - إطلالة على النّقد القديم
1 ـ مقدّمة
يمتدّ تاريخ تطبيق مبادئ كلّ من النّقد الأدبي والنّقد التاريخي، في دراسة محتويات العهد الجديد وفي تناوله كوثيقة تاريخية، من القرن الثاني إلى أيّامنا.
أ ـ مرحلة ماقبل النّقد:
برغم أنّ نقد الكتاب المقدّس عمل تميّز به العصر الحديث، فقد خطا بعض الدّارسين في العصور الأولى للكنيسة خطى، باتجاه الدّراسة العلمية للعهد الجديد. والشّخصية البارزة في ذلك مرقيون (حوالي 150م)، الذّي تجاوز العهد القديم واليهودية وصاغ قانونا مستخلصا من العهد الجديد لدعم ما ذهب إليه في تعاليمه، ممّا دفع الكنيسة إلى معارضة مذهبه وصياغة قانون أرثوذكسي. رائد آخر من رواد نقد العهد الجديد، كان المهتدي السّوري طاسيانو (حوالي 175م)، يعدّ مؤلّفه ـ Diatessaron ـ أوّل ملخّص يقدّم الأناجيل الأربعة ضمن رواية موحّدة غير مجزّأة. وكانت لأوريجين (حوالي 185 ـ 254م) ـ الدّارس الكبير للكنيسة في الفترة السّابقة لانعقاد مجمع نيقية، وأحد رواد مدرسة الإسكندرية الشهيرة ـ مساهمتين هامتين في دراسات الكتاب المقدّس: تمثّلت الأولى في الهيكسبلا Hexapla، وهي المحاولة المسيحية الأقدم في النّقد النصّي للعهد القديم، والثانية في إيلائه الهرمنوطيقيا اهتماما، فقد خلّفت محاولاته التأويلية للنّصوص أثرا بالغا بين معاصريه بما أضفاه من دلالات مستجدّة(1).
ومن مؤلَّف "التّاريخ الكنسي" (324) لأوسيبيو (حوالي 260 ـ 340م)، مؤرّخ الكنيسة الأوّل، يمكن استخلاص عديد المعلومات الهامة عن العهد الجديد. حيث يقسّم الأناجيل إلى وحدات موجزة مرقّمة، تظهر في العهد الجديد الإغريقي لنيستلي، ووضع بينها مجموعة من التقسيمات لإبراز مظاهر التوازي الموجود بين مختلف الأناجيل.

أنفاسيعدّ بول تلّيش (1886-1965م) إحدى اللحظات المتوتّرة في التاريخ المسيحي الحديث. ذلك أن التشكّل الديني لهذا اللاّهوتي، فضلاً عن التحولات الفكرية العالمية التي كان وقعها مؤثرا عليه، طرحت أمامه عديد الأسئلة الحرجة بشأن علاقة اللاهوت بالثقافة وبالتحوّلات الاجتماعية والتاريخية. فضمن أي تأويلية يمكن للدين أن يجاري بنى التفكير الحديثة، خاصّة وأن التأقلم مع أنظمة الوعي المستجدّة مشروط بطروحات تأويلية مستجدة للنصّ المرجعي المأطلق قراءةً وفهمًا؟
بول تلّيش واحد من تلك الثلّة التي استشعرت مسؤولية التجديد في التاريخ، من خلال السعي لإعادة تشكيل نسق الحقائق الوجودية وصياغتها، بصفتها عملية مستجدة مع كل جماعة بشرية، تأتي ضمن الوفاء للمنطلق، للمرجع، والالتزام بالواقع وتحوّلاته، داخل توازن رؤيوي.
فليس خافيا أن مقاومة شرسة لقيها الدين في أوروبا خلال القرون الأخيرة، أخرجته من بنى التفكير الغربي، لتلقي به بعيدا داخل كهف المشاعر الخاصة، والحنين للفضاء الأسطوري المتخلّد في اللاوعي البشري. ومعاودة تأسيس خطاب الدين في العقل والوجدان الأوروبيين، هي إحدى المغامرات الشائكة، إن لم نقل الميؤوسة في ظلّ حملات الاجتثاث والمطاردة، الممتدّة من الظاهري إلى الباطني، أو بشكل أوضح من الاجتماعي إلى النفسي. ذلك أن الإبعاد المتواصل للدّيني من الحقل الثقافي، والمتأتي من افتقاد أواصر الثقة المعرفية والوجودية من الناطق والمنطوق الدينيين، خلّف اندحارا لكل ما هو روحي في الغرب، وولّد حصرا له داخل أقبية الأديرة والكنائس. وانطلاقا من واقع الهشيم الكارثي الذي بلغه الدين، حاول بول تليش بعثه مجددا داخل المنظومة الثقافية، بحسب ما يسمّيه لاهوت الثقافة. فهل من السهل بعد غياب تجربة الله، وحلول تجربة العدم، أن يحيي الميت من جديد؟
ضمن هذا الواقع الذي عاشه الدّين تشكّل المشروع التلّيشي، الذي بقدر إيمان صاحبه بالرسالة الدينية كان على التزام بالانخراط الواعي في قضايا عصره وتطلّعاته. حيث أن التساكن بين جوهر المسيحية ومنطق العصر الحديث، دون تضارب أو تقابل بينهما، مثّل أحد الزوايا الأساسية في العمارة التلّيشية. ولا يعني أن الوعي التليشي بالمسيحية كان وعيا براغماتيا باحثا عن تجاوز حال الفصام مع العصر، جراء الاستنكاف عن الدنيوي طيلة قرون خلت، ولكن الأمر نابع من إيمان بحدوث تشوّه في الجوهر الرسالي، تشوّه مسّ النص وتشوه مسّ الوعي بالنص، بفعل التحوير الكريغمي المتستّر عليه، الذي حدث في المسيحية ولم يلتفت فيه لنتائج مدرسة نقد الأناجيل.