أنفاسكثر الحديث في السنين الأخيرة عن علاقة الإسلام بالحداثة والمدنية، أو بما أنتجته الحضارة الإنسانية في القرون الأخيرة من خلال مقارنته بالأديان الأخرى أو من خلال تأويل نصوصه وملاءمتها مع العصر بالدعوة إلى الاجتهاد والخلق والإبداع. بيد أن الخوض في هذه العلاقة ليس بجديد على الثقافة العربية والإسلامية، بل كانت طرحت على مدى التاريخ العربي الإسلامي، إما في جدال فكري أو سجالي بين مسلم وغير مسلم دفاعا عن الإسلام كدين وثقافة وحضارة، أو في جدال بين مسلمين أنفسهم: بين من يحاول أي يفصل الإسلام عن الحضارات الأخرى، باعتبار الآخر وحضارته لا يمكن أن يقوما إلا بتدنيس الدين الإسلامي وتقويض دعائمه. أو بين من يحاول أن يجعل من الإسلام دينا وثقافة وحضارة جزءا من الحضارة الإنسانية فاعلا ومنفعلا مؤثرا ومتأثرا، علينا بالضرورة كمسلمين الانخراط فيها كمساهمين ومنتجين بالاعتماد على العقل والعقلانية متشبعين بفكر التسامح والاختلاف وحق الآخر في الوجود.
بين هذا الموقف وذاك ارتأينا أن نقف عند أحد المفكرين العرب الذي ساهم بفكره الإصلاحي –إلى جانب مجموعة أخرى من المفكرين – أواخر القرن 19 في تجديد ونهضة الثقافة العربية: إنه الشيخ محمد عبده.
ما يهمنا من محمد عبده ليس هو ما قاله في هذه المسألة أو تلك بل ما هي منطلقاته النظرية والفكرية أو بالأصح مرجعياته النظرية في حديثه عن علاقة الإسلام بالمدنية أو بالحداثة بشكل عام. إننا لا يمكن أن نفصل محمد عبده عن محيطه الثقافي والتأثر به والمتمثل في التراث من جهة وفي الإصلاحات والتحولات التي جاءت بها ثورة محمد علي بالإضافة إلى آثار ومخلفات الغزو النابوليوني لمصر من جهة ثانية. كما لا يمكننا أن نعزله عن التأثيرات الثقافية الغربية التي سادت القرن 19 المتمثلة في الفكر الليبرالي والنزعة الوضعية على الخصوص. إن هاتين المرجعيتين هما الموجهتان لمنطق تفكير محمد عبده إما في جداله مع فرح أنطون والجامعة من خلال مجلة المنار، وإما في جداله مع هانوتو ورينان من خلال كتابه "الإسلام دين العلم والمدينة"، فيما يخص علاقة الإسلام بالتسامح أو بفصل السلطتين الدينية والسياسية أو بموقف الإسلام من العقل واستعمالاته في الأمور الدينية والدنيوية، مما يجعلنا نقف على خطاب يتجاوز بكثير من حيث رؤيته المتنورة والمندمجة في عصرها، بعض الكتابات النكوصية الموغلة في النصية ومعاداة كل تجديد واجتهاد.

أنفاسخلال الخمس وعشرين سنة الأخيرة، خصّ اللاّهوتي السويسري الألماني هانس كونغ الأديان الثّلاثة باهتمام خاصّ، أنتج خلالها، إضافة إلى أعماله الأخرى، ثلاثيّة متعلّقة بالأديان الإبراهيمية، كان مستهلّها عملا بعنوان "اليهوديّة" (1991)، ثم "المسيحيّة" (1994)، وأخيرا "الإسلام" (2004)، وبمناسبة صدور التّرجمة الإيطالية لمؤلّفه الأخير، نوافي القارئ العربي بعرض وتلخيص لأهمّ الأفكار الواردة فيه.
من هو هانس كونغ؟ ولِد في سويسرا سنة 1928 ودرَس بالجامعة الغريغورية البابوية بروما، عيِّن كاهنا سنة 1954، وبين 1960 و 1995 اشتغل بالتدريس في جامعة توبنغن بألمانيا. هو رجل دين كاثوليكي تجاوز ضوابط المؤسّسة، أراد العودة بالكلمة المسيحية إلى نقاوتها وشجاعتها بعيدا عن وعثاء السّياسة التي صارت تتحكّم بصدقيتها، ولجرأته ونباهته عُدّ أعظم عقل منشقّ عن الكنيسة الكاثوليكية في الزّمن المعاصر، برغم أن الخروج عن فكر المؤسّسة مهلكة أحيانا، لكنّ الرّجل من تلك الطّينة الحسينيّة التي لا تبالي، فكأنّه يصدح عاليا مع الخيّام:
لو كان لي كالله في فلك يد ** لم أبق للأفلاك من آثار
وخلقت فلكا يدور مكانها ** ويسير حسب مشيئة الأحرار
****
داخل موجة الرّجعة لمقولات القرون الوسطى مع الإسلام، التي يمرّ بها وعي الغرب، يحاول هانس كونغ إصلاح ما فسد، فيصف حالة التراجع الخطيرة قائلا: بعد انتهاء الحرب الباردة، مثّل صموئيل هتنغتون دعامة إيديولوجية كبرى لإيجاد شرعيّة للآلة العسكريّة الأمريكيّة الضخمة، وبشكل أو بآخر لخلق مناخ ملائم لحروب لاحقة. عبر صياغة بديل تتحوّل فيه صورة العدوّ من الشّيوعيّة إلى الإسلام.

أنفاسفرضت صيرورة تشكّل الأسس الحضارية في بلاد العرب حضور الدّيني مكوّنا جوهريا داخل العملية، عرف التلازم خلالها تمظهرات عدّة. وداخل التبدّلات والتحوّلات الممتدّة عبر القرون، لايزال الدّيني يحضر في الفرد وفي الشخصية العامة بعد مسيرة حافلة بشتى التقلّبات، الأمر الذي يطرح سؤال تراكم الوعي من انعدامه في تلك العلاقة الجدلية، ومما يجوّز الحديث عن علاقة متأسّسة على تطوّر هرمي متصاعد من الجاهلية إلى العرفانية، أو بالأحرى متراجع نحو اندثار الوعي وتلاشيه.
فعبر القرن السالف تمّ جدل واسع بين النّخب العربية تناول عنصر الدّين، من حيث مشروعية حضوره على مستوى الذات وعلى مستوى المجتمع، من خلال التعرّض لمدى صوابية استهلاكه كرؤية معرفية تنشيطية، عبر استيعابه في الفلسفة الاجتماعية من خلال التربية والمعرفة والاستفزاز الشعبي. كما جرى التعرض بالمقابل للامشروعية حضوره –ودون التخفّي على ذلك أو التستّر عنه- سواء على مستوى الفرد أو الجمع، وما بينهما من تنوّعات تنزع إلى أحد النجدين قربا وبعدا. ولكن ذلك الجدل الواسع، نلفت إلى خاصية أساسية ومركزية فيه، فقد تميز بغياب المتابعة العلمية للظاهرة الدينية بمفهوم "علم الأديان"، التي ظلّت منعدمة، لافتقاد التقليد العلمي المتابع للمقدّس، وهيمنة المقاربة اللاّهوتية الإيمانية ونقيضتها المضادّة لها اللاّلاهوتية.
فبرغم أن العرب من أكثر الأمم، إن لم نقل في مقدّمتهم، من حيث إنتاج المقدّس واستهلاكه، وتوظيفه، والذي انعكس على مكوّنات هويتهم الحضارية الأساسية. فإن ذلك التعامل على ثرائه واتساعه، بقي الحديث عنه ظاهريا سطحيا، ولم يتعدّاه إلى الحصر والتقصّي، والإحصاء والضّبط، وتفسير احتشاد الدلالات والمعاني في ذلك الحقل، على خلاف ما هو موجود في بلاد أخرى أقل شأنا في ذلك، لكنها وفّقت في قطع شوط معرفي من حيث العلاقة الاجتماعية بالمقدّس. إذ تخلو الساحة لدينا حتى الآن من إحصائيات مضبوطة تتعلّق بالنّفاتيين واللاّإدريين، وبالمتشكّكين والمؤمنين، كما ليس هناك تصنيفات مضبوطة لتنوّعات المتديّنين وتنوّعات غير المتديّنين، من ممارسي الطقوس ومهمليها ومنكريها، كما ليس هناك تبويب لمفاهيم الدّين بين الناس، من حيث رؤاهم وتصوّراتهم عنه، وما نجده هو تعريفات للدّين والمتديّن، والمؤمن والكافر، والعابد والمعبود والعبادة، ضمن رؤى فقهية مغتربة.

أنفاس يعلو ضجيج صاخب حينا، يدعو لحوار الأديان وينادي بتنشيط التثاقف بين الحضارات، في غياب شروطهما العلمية اللاّزمة لهما، محوّلا بذلك المعرفة إلى خطاب استهلاكي سطحي مبتذل. ففي الفاكرة العربية، لا يزال التمثّل رهين التصوّر الخلقي والنوايا الطيّبة في هذا المبحث، والحال أن العملية ليست منعزلة عن تأسيساتها المعرفية اللاّزمة لها. إذ التنمية العلمية الثابتة من موجبات الولوج الموضوعي والمسؤول للحقل، وهو ما يتطلّبه الالتزام الرّوحي والفكري الحق في مستوى هذه المسائل الشائكة.
فلو بقينا في حدود الحقل الإبراهيمي، وفي مجال الأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، لهال المتتبّع والمنشغل بعلم الأديان، فقر الإمكانيات التي يحوزها المنتسبون للحضارة الإسلامية في ذلك في راهنهم الحديث، فالمعرفة باليهودية لا تزال رهينة مقولات "بروتوكولات حكماء صهيون"، وما خلفّته من عجائبي وأسطوري، مع أن الدّراسات والتنظيرات المنشغلة بالاستهواد تنوّعت في تلك الدّيانة سطحا وعمقا، وامتدّت حتى متابعة اللّغات القديمة والمنقرضة من الاستعمال، كالقبطية والآرامية والسريانية وعبرية التوراة والأكدية، فهل في الجامعات الدّينية وكلّيات العلوم الإنسانية والاجتماعية في البلاد العربية متوفّرة هذه القدرات؟ التي صارت من الموجبات الأولية في الغرب للمنشغلين بهذه الدراسات.
وليس بعيدا عن ذلك الإلمام بالمسيحية، الذي لا يزال مبتدئا، غافلا عن كافة التحوّلات العلمية المتعلّقة بها، مع علم نقد الكتب المقدّسة، خلال القرون الأخيرة إلى التأويليات المستجدّة. وعيا بهذه الفجوة الواسعة آثرت ترجمة بعض الدّراسات ذات الصلة باجتماعيات الأديان المعاصرة، وبالمناهج العلمية المتابعة للظاهرة الدّينية، أملا في لفت الانتباه لما يملكه الآخر من أدوات، وما تدور في خلده من انشغالات، وما تعترضه من تحدّيات.
-المترجم-

أنفاس لم أر إدوارد سعيد فى حياتى سوى مرة واحدة، كان ذلك قبل رحيله بشهور قليلة، فى محاضرة رائعة، ألقاها فى قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة فى مارس عام 2003، وكانت بعنوان: "فلسطين وعمومية حقوق الإنسان". بدا الرجل ساعتها ـ كما تخيلته دائما ـ عملاقا، رغم وطأة المرض ودنو النهاية! أذكر أن الحاضرين استقبلوه بحفاوة بالغة، تليق بمكانته الرفيعة، حتى أنهم ظلوا يصفقون له زمنا طويلا، وكانوا من مشارب شتى! وأذكر كذلك أنه بعد فراغ إدوارد سعيد من إلقاء محاضرته، أقبل عليه الكثيرون لمصافحته، وكنت أحدهم بطبيعة الحال، غير أنى لم أكد أقترب من المنصة التى كان إدوارد سعيد يجلس إليها، حتى خانتنى شجاعتى وتهيبت مصافحته، احتراما واجلالا للرجل، وهو ما سأظل أذكره بألم، وأندم عليه ما بقى لى من سنوات، طالت أم قصرت، فى ذمة الحياة!

    إدوارد سعيد لم يكن مفكرا فذا فحسب، ولكنه كان أيضا نموذجا فريدا، حتى أن الناظر إليه لم تكن عيناه لتخطيء أنسنيا فذا، أودع ذاكرة الحياة أروع ما يملك، وهو بصيرة ثاقبة، وقدرة عبقرية على النقد والإبداع! وأراني في هذا المقال قاصرا جهدى، على رصد وتحليل الاسهام الادورى المهيب فى مجال الفكر الأنسني، بكل ما ينطوى عليه من روعة وثراء، علاوة على سعيي لبيان مدى تأثير هذا الاسهام على رؤيتى للفكر الأنسني، على تواضعها، مقارنة بالاسهام الادورى! أفعل ذلك رغم قناعتي المحزنة والمحبطة بوقوف المناخ الثقافي المهيمن حاليا فى عالمنا العربي حائلا دون تحقيق أُمنيتي، وأظنها كانت أمنية ادوارد قبلي، أن يجد هذا الفكر له ملاذا آمنا فى ربوعنا، فعلى الساحة تتصارع تيارات ثقافية بالية، لا تُسمن ولا تُغني من جوع، يبرع أنصارها وهم كثر، بشكل لافت، فى الترويج لأفكارهم، المعلبة والمشفرة والمغلقة على النقاش، بدعوى صلاحيتها لكل زمان ومكان، هازئين بذلك من سنة كونية تقضي بديمومة التغير والتطور!

أنفاستقع الشعوب الشرقية ولاسيما العربية والإسلامية منها فريسة صراع مرير بين ثقافتين كان يمكن ان تكونا متوازيتين بدل تقاطعهما ألا وهما : الثقافة الثابتة – ثقافة الإيمان بالغيب – والإيمان (( هو التسليم والقبول والتصديق بموضوعات لا تخضع للدرس والنظر العقلي أو التجريبي ، فهو تسليم بغيب أخبر عنه صاحب الدعوة ، وهذا التصديق يعد مقياساً للإلتزام بالديانة من عدمه ، وصلاح الإيمان من فساده ، ونموذج ذلك في الإسلام ما أخبر عنه القرآن الكريم ، أو ما ورد في شكل أحاديث منسوبة للنبي محمد ( ص ) )) . ومن هذه الغيبيات الإيمان بالله سبحانه وتعالى كإله كامل مفارق للمادة أزلي وسرمدي ، والإيمان بالرسالات السابقة وبمعجزات الأنبياء (( كدلالة صدق تكسر قوانين الطبيعة لانها لا تخضع لنواميس العقل ومنظومته وقواعده )) .. كالإيمان بالملائكة وقتالها مع النبي .. والإيمان بوجود الجن من المردة ومن المؤمنين ... الخ ومثل هذه الغيبيات ترد في جميع الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل والقرآن .. وهذا الذي يؤمن به أتباع تلك الديانات والذي يعتقدون بصلاحه لكل زمان وفي كل مكان .. لأنه الثابت والموحى به من الخالق سبحانه . وقد جرى في أوربا والبلدان الغربية عملية درس ونقد الكتب المقدسة .. من حيث البعد التاريخي للنصوص وجذورها السياسية والإجتماعية والإقتصادية .
أما الثقافة الأخرى المقابلة والتي هي نتاج التطور التاريخي بمحتواه الإجتماعي والسياسي والإقتصادي والفكري .. التي إنتهت الى التقدم العلمي الهائل والذي أوجد مشكلة عويصة .. إذ كيف يمكن أن نوفق بين ثقافة ثابتة تستوعب كل المتغيرات المتسارعة تقوم على الغيب وتصلح لكل زمان وفي كل مكان .. وبين ثقافة تلاحق ما يحدث في الواقع تقوم على مفاهيم العلم وشروطه وتنتج من تفعيل وحراك قوانين العقل ومنظومته .. وأزاء ذلك كله إنصاع اللاهوتيون أهل الثبات على تسجيل تراجعات كبيرة حيال التقدم العلمي الهائل .. بعد أن تخلوا تماماً عن أسلوب المواجهة العنفية التي كانت سمتهم قديماً .. وصارت الثقافة الثابتة تنحصر في مجالات مخصوصة ( إيمانية قلبية عبادية كنسية ) .. وأخيراً ساهم رجال الكنيسة في توطيد هذا المنحى لترسيخ قيم الحرية والسلام الأهلي والثقافي .. لتسير الثقافتان  الثابتة والأخرى المتغيرة في خطوط متوازية الأولى في الخط الكنسي والإيماني والثانية في الواقع وتغيراته وتطوره العلمي والتقني والإجتماعي .

أنفاس"لم أع لحظة أتيتُ فيها الحياة..! ألا أى
قدرة فتحت عيني على هذه الأرجاء المجهولة،
كما تتفتح زهرةُ الغاب فى قلب الليل!..
عند موتى أيضا، سيلقانى نفس المجهول
كصاحب قديم، وسأحب الموت لأني أحب الحياة!
" طاغور
بداية، ولمن لم يقرأ كتاباتى السابقة فى مجال الفكر الأنسني، أقول بأن "الأنسنية" هى أن يحقق الإنسان أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للانسنية، والتى نُوجزها فيما يلي(1):
[1] معيار التقويم هو الإنسان.
 [2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
 [4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. 
 [5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية. 

أنفاسبعد أن خسرت الكنيسة الوافدة أغلب مواقعها في بلدان المغرب العربي، مع اندحار الاستعمار الفرنسي والإسباني والإيطالي، الذي كانت تتوارى خلفه، والذي حاولت لاحقا أن تجهد نفسها في التملّص من تبعاته والتطهّر من إرثه، لتسلك سياسة مغايرة تتلاءم مع حقبة ما بعد الاستعمار. تحاول أن تعرض رسالتها في الراهن تحت مبرّر الشهادة الاجتماعية. وإن لم تحقق الكنيسة في سالف عهدها اختراقا يذكر، يبرّر ويشرعن حضورها في المنطقة، بفعل تلاحم النظر للكنيسة والاستعمار في المخيال الشعبي، وهو ما حدّ من توغّلها في الأوساط الاجتماعية، برغم امتزاج أنشطتها الخيرية والتبشيرية، التي امتدت على ما يناهز القرنين، قبيل الاستعمار وأثناءه.
الكنيسة تستند في تبرير حضورها على ادعاء، يتلخّص في أن المنطقة تابعة تاريخيا لحيز المسيحية الرومانية، والحقيقة أن شمال إفريقيا ما تنكّر لماضيه المسيحي، فقد كان معقلا من معاقل هذا الدين الجليل، حيث صعّد عدة بابوات لسدّة البابوية وقدّم قوافل الشهداء والعلماء، بيد أن ما يجحده القساوسة أو يحاولون نكرانه، وهو التطور العقدي الذي مرت به المنطقة، من الديانات البدائية إلى التوحيد الخالص مع الديانة الإسلامية.
فقد فرضت حقبة الاستقلالات على الكنيسة سياسة جديدة، هيمن فيها التعامل مع المغرب العربي ضمن معطيين: أحدهما برغماتي والآخر استراتيجي، يتمثل الأول في التسليم على مضض بهيمنة الإسلام والطابع العروبي على المنطقة، والثاني في مواصلة نقض تلك البنية الحضارية الموسومة بسمة بالغزو، مما يحوّل الإسلام والبعد العربي إلى دخيلين وطارئين، أملا في العودة بالمنطقة إلى فترة ما قبل الفتح الإسلامي. هذا الطرح نجده متطوّرا بالأساس مع أسقف الجزائر السابق هنري تيسيي، خصوصا في كتابه غير المنشور بالعربية: "مسيحيون في الجزائر: الكنيسة الواهنة" 2004.