أنفاسمنذ تجليات مرحلة محمد علي باشا في مصر، وعودة رفاعة رافع الطهطاوي من باريس في وقت لاحق، يحيا العالم العربي في ظل شعور قوي بأن هذا هو عصر النهضة العربية، أو مرحلة اليقظة العربية/الإسلامية. لقد بقي هذا الشعور مذاك سائداً لا يقبل النقاش لأسباب عدة، منها ما هو متصل بما سبق في الحياة السياسية والثقافية، ومنها ما هو متصل بما تمخض عنه التالي من الأعوام من نتاجات فكرية وتطورات سياسية قادت نحو تغيرات جذرية نحيا اليوم بعضاً من آثارها المتأخرة. ولكن، ألم يأتِ الوقت المناسب الذي يسمح لنا، ابناءً لما جاءت به النهضة العربية، أن نتساءل: هل نحيا عصراً حقيقياً للنهضة، أم إنه عصر لا يختلف عما سبقه من العصور المظلمة التي نقلل من شأنها متخذين من تغزل أحد شعرائها بـ"مخدة" أو بإبريق شاي دليلاً على التردي والنكوص الذي كان يحياه العقل العربي في ذلك العصر المظلم.
    لقد قدم الطهطاوي، ومن ثم السيد جمال الدين الأفغاني ومريده محمد عبده، عدداً من الأسئلة، كان أهمها هو: لماذا نحن متأخرون أو متخلفون في العالم العربي الإسلامي، مقارنة بالأمم الغربية؟ وقد تمخضت محاولات الإجابة على هذا السؤال حصراً عن الكثير والمضني من الجدل والمناقشات التي ملأت الكتب والمجلات، كما هي الآن تملأ الدنيا ضجيجاً عبر الفضائيات وسواها من وسائل البث الأثيري. لقد كان المبدأ الأول الذي إعتمده "أساطين" النهضة المشار إليهم أعلاه هو إستمكانهم للتراجع والخنوع لهيمنة الإمبراطوريات الأجنبية، العثمانية خاصة، كواحد من أهم مسببات وتجليات العصر المظلم، كما نفضل أن نطلق عليه، ربما بتعسف. لذا دعا هؤلاء المفكرون إلى تحرير الأقطار العربية والإسلامية من الهيمنة العثمانية ومن سيطرة سواها من الإمبراطوريات الأجنبية، فعد الإستقلال السياسي شرطاً مسبقاً لأنطلاق نهضة عربية أو عربية إسلامية جديدة تتبلور، ليس فقط في التحرر من ربقة الإمبراطوريات، ولكن كذلك فيما سيقدمه العقل العربي الإسلامي من منجزات إبداعية ومبتكرة تذكرنا بالعصر الذهبي لحضارتنا على سنوات الدولة العباسية.

أنفاسد. مصدّق الجليدي
لقد تناولنا في الفصل الأول من هذا الكتاب قضية بناء العلمانية في السياق الإسلامي واقترحنا حلاّ لها مفهوم " العلمانية المؤمنة"، إلا أنّ تناولنا لهذه القضية يظل على الأرجح ناقصا إذا ما غضضنا النظر عن الأطروحة التي تضمّنها كتاب "الدين في الديمقراطية" للمؤرّخ والفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، الذي اشتهر خاصة بكتابه عن خيبة أمل العالم في الماورائيات بعد فكّه لطلسم الأديان Le Désenchantement du monde ، أي علمنته. أطروحة "الدين في الديمقراطية" الرّئيسية كما تبيّنّاها، هي التبشير بثورة الإيمان أو «الانقلاب الكوبرنيكي للشعور الديني [...الذي] يعمل على أن يصبح بنظر نفسه على شاكلة ما عابه عليه مهاجموه بالأمس بطريقة خفية وهو: نتاج للعقل البشري، في خدمة غايات دنيوية بحتة»(ص. 136). يستتبع هذا ضرورة دنيوة الدين وتنسيب الإيمان وعلمنته وبالتالي إقحام الديمقراطية في صلب المعتقد. يقول مارسيل غوشيه في هذا الصدد: « إنّ نسبية الإيمان الخاصّة هذه هي النتاج المميّز لعصرنا الحالي، إنّها ثمرة تغلغل الرّوح الديمقراطية داخل فكرة الإيمان نفسها » (ص. 119).
  وفي كلمة نجد أطروحتنا عن "العلمانية المؤمنة" وجها لوجه مع أطروحة مارسيل غوشيه عن "الإيمان العلماني"، فهل يتعلق الأمر بمجرّد اختلاف شكليّ بين الأطروحتين أم توجد بينهما نقاط اختلاف جدّية؟ وفي كلّ الأحوال هل أن الطلاق بينهما بائن، أم أنّ علمنة الإيمان تظل إمكانية مفتوحة أمام الأفراد حتى في ظلّ العلمانية المؤمنة؟
I-الإيمان المطلق والإيمان النسبي
لنعد بداية إلى مفهوم العلمانية المؤمنة. علينا أن نشدّد هنا على مفارقة هذا المفهوم لمعنى تديّن العلمانية. ولقد سبق أن أكّدنا في مطلع الفصل الأوّل أن الحداثة في الإسلام لا تعني أسلمة الحداثة وإنما تحديث الإسلام، أي تحديث القديم ليظل متجددا على الدوام ولا جرّ الحداثة إلى منطق القديم، فهذا مما يناقض مفهوم الحداثة نفسه.

أنفاسينظر الكاثوليك إلى كنيستهم بصفتها تجلّيا لوحي الربّ على أرضه، تسعى لتثبيت سلطانها في الأرواح، ويغلب نعتهم لها بالدين بدل المذهب، ويراها غيرهم مؤسسة عالمية للمقدّس، تتطلّع جنب السلطات الزمنية للفوز بمغانم للمؤمنين بها. ويخبر واقع الحال أنها مؤسّسة مركّبة، قائمة على شرْعة فيها من التميّز والتماثل مع غيرها من شتى الملل والنحل، تشكّلت قداستها عبر الدهور، ضمّت بداخلها مكونات عدة. يبلغ عدد الحركات المنضوية تحتها والتي تحوز اعترافها في الوقت الراهن 120، إضافة إلى تجمّعات دينية صغرى، 226 منها رجالية و900 نسائية.
وقد بلغ عدد الكاثوليك المعمَّدين في العالم بحسب التقرير الإحصائي الأخير، الصادر عن مكتبة الفاتيكان سنة 2006، 1098366000 سنة 2004، ما يعادل 17،2% من العدد الجملي لسكّان المعمورة.
سمعان بطرس: صخرة الكنيسة
تُعَدّ كنيسة القديس بطرس في روما أكبر كنيسة كاثوليكية في العالم، وهي تمتد على مساحة 15000 متر مربّع، وتتّسع لثمانين ألف زائر، حيث تستقبل سنويا قرابة عشرة ملايين. يعتبر الحواري سمعان، الذي صار القدّيس بطرس في التقليد الكاثوليكي، بابا الكنيسة الأوّل، استنادا إلى ما ورد في إنجيل متى (16: 18) من خطاب السيد المسيح (ع) له: "أنت صخر. وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي". جرى تنصيب 264 بابا بعده، بل بالضبط 262، لأنّ بندكتوس التاسع أنتخب ثلاث مرات. من هؤلاء نجد 205 من إيطاليا، و19 من فرنسا، و14 من اليونان، و8 سوريين، و6 ألمان، و3 من شمال إفريقيا، وإسبانيين، وواحدا من النمسا، وواحدا بولونيا، وواحدا فلسطينيا، وواحد أنجليزيا، وواحدا هولانديا. ويسمّى بابا مزيّفا من يغتصب كرسي البابوية دون رضا الإكليروس، وآخر هؤلاء فيليشي الخامس 1440-1449م. بقي بيو التاسع أطول مدّة، 32 عاما، وأقصرهم ستيفانو الثاني، دامت حبريته يوما، جرّاء إصابته بسكتة قلبية. ويعود استبدال البابوات أسماءهم الأصلية بأسماء التعميد، إلى عام 553م، حين قرّر يوحنا الثاني التخلي عن الاسم المدنّس إلى الاسم المقدّس.

أنفاستقديم:
قسمت فرنسا تعليم المرحلة الاستعمارية لإنجاز أهداف، منها نشر الفرنسية، وجعلها لغة العلم والعمل. ولم تستطع سياسات تعريب تعليم ما بعد الاستقلال تصحيح الوضع اللغوي بتمكين العربية في القطاع. سنحاول تبيان أن السبب يتجاوز الاستراتيجيات إلى القرار السياسي، والثورة الثقافية الشاملة، والتفتح الفعلي، وليس الخطط الفرنسية التي تختزل التعدد في الفرنسية والعربية واللهجات (الفصحى، بالمعنى التقليدي، واللهجات العربية والأمازيغية، و الفرنسية لغة التفتح الوحيدة).
2. سياسة فرنسا: التعليم نموذجا
قسمت فرنسا تعليم ما قبل الاستقلال إلى التعليم الإسلامي، والإسلامي الأمازيغي، والإسرائيلي، والأوروبي. وفيما يلي، نفصل بعض مكونات كل تعليم على حدة.1
- التعليم الإسلامي: تضمن المدارس القرآنية، والتعليم الإسلامي، بنوعيه، العالي والعصري، والمدارس الأمازيغية.
كان الفقهاء يدرسون في المساجد الأطفال القرآن. وكان الآباء والمدرسون يشعرون بعدم جدوى هذا التعليم ونفعيته، فحاولوا تجديده بإضافة مقررات مثل التربية الإسلامية والنحو والحساب، كما أخضعوا المدرسين لامتحان العلماء (ouléma). إلا أن ذلك لم يُخرج المساجد من الأزمة.
تمثل التعليم العالي في جامعة القرويين، التي تعد من أقدم الجامعات في المغرب، إذ أُسست حوالي 859. كانت في القرون الوسطى تُدرس الآداب وعلوم الدين والأحكام القضائية والبيولوجيا والرياضيات والمنطق، وكانت تستقطب الطلبة من المنطقة المتوسطية العربية، وأوروبا. ساهمت في تكوين العلماء من كل التخصصات التي كان يعرفها العصر آنذاك. إلا أنها سقطت، بالتدريج، في الاستهلاك العقيم، وقل فيها الإبداع والقدرة على التجريد.

أنفاس1. تقديم
نحاول في هذه المقالة رصد مواقف المختصين، وغير المختصين من اللغة. ثم نعرِّف بالتعيير اللغوي، وأهدافه ومزاياه، وتقاليد المحافظة عليه، وسلبيات وحدوده في واقع اللغة والاستعمال. بعد ذلك، نناقش، على ضوء ما أوردناه، مواقف القدماء من الفصيح والفصاحة، ونقف على عدد من الثغرات.
2. مواقف الناس العاديين من اللغة
تسير المواقف العامة التي يعتقدها الناس، بصفة شخصية، في اتجاهين.1 الأول معاكس لاتجاه المختصين من اللغويين، والثاني مضاد لمعتقدات الناس أنفسهم، ولما يمارسونه، فعلاً، ويُظهرونه من خلال سلوكاتهم اللغوية. وتتجلى التصورات المعاكسة للمقاربات المختصة فيما يُصدره الناس من أحكام قيمة (value-judgement). فقد تعود الناس منذ قدم الزمان على تصور اللغة رمزاً لما تشير إليه في الواقع الخارجي. ولعل الاعتقاد بوجود تلك العلاقة هو ما يجعلهم يتجنبون الكلمات التي يظنون أنها تتوفر على خصائص سحرية، أو أنها موضوع للمحرم والطابو (tabu) أو أنها تحيل على الإله أو المرض أو الجنس أو الموت. ويدخل في هذا الإطار تجنبهم الكلمات التي تقترن بالوظائف الجسدية، ويستبدلونها بأخرى لائقة في السياقات غير الرسمية، وتقنية في السياقات الرسمية ( غائط، مثلاً ). وحين يرى الناس الخنزير يتمرغ في الوحل يعتقدون أن اسمه ينطبق عليه، وأنه ما سمي بذلك إلا لعادته المقرفة تلك. وكما يتصورون وجود خصائص السحر والمحرم والسلطة في الكلمة، يذهبون مذاهب أخرى أسبابها مجتمعية وثقافية وطبقية، فيعتبرون بعض اللهجات أجمل من أخرى، وبعض اللغات أحسن من أخرى، وبعض البنيات النحوية والصوتية أكفى من أخرى.
ولقد ذهب اللسانيون وعلماء النفس الاجتماعيون الذين درسوا المواقف العامة إلى أن الناس يُصرحون بأشياء، ويُمارسون أخرى. فقد يُدينون استعمالاً لغوياً معيناً إذا سمعوه من آخر، في الوقت الذي يستعملونه، هم أنفسهم، وقد يُجيبون على جامعي المعلومات بكونهم يستعملون المتغيرات المعيار، أو النطق المعيار، أو اللغة المعيار، مع أنهم، في الحقيقة، يستعملون النماذج غير المعيار. ويُفسر الدارسون السوسيولسانيون مفارقة استعمال نموذج، وادعاء غيره بوعي الناس وإدراكهم بما يتفق مع النمط العام، أي ما يُعرف بمصطلح المُقَْولَبات المجتمعية (social stereotypes)، وبالقيم التي تُلصق بالاستعمالات اللغوية واللغات. إنهم حين يظهرون عكس ما يُمارسون أو يعتقدون يتجنبون وصف الآخرين لهم بالجهل أو الدونية وعدم الرقي، وغير ذلك من الأحكام التي تقترن باستعمال "أحسن الناس" أو "أفضل الناس" في المجتمع.

أنفاسباتت السلفية الشغل الشاغل الآن للباحثين والدارسين والإعلاميين على حد سواء، خاصة لدى الدوائر الغربية ومراكز صناعة القرار بعد هذا الانتشار الذي لقيته والمد الذي تتسع رقعته بمرور الأيام.. وهو نفسه ما دفعني لكتابة هذا الموضوع إضافة إلى ما وجدته من تجافي أو قل (الهوة) بين الإعلاميين والباحثين من جهة وأصحاب ودعاة المنهج السلفي من جهة أخرى حول فهم "السلفية" كمنهج إسلامي.. فهي محاولة لتقريب الأفهام حول هذا التيار الأصولي الآخذ في التمدد، نقف من خلالها على معالم ومحددات المنهج السلفي كما يراه السلفيون.
تعريف: تمثل السلفية منهج محدد المعالم لفهم الإسلام بالتزام الكتاب والسنة وفق فهم "سلف الأمة" وهم أصحاب القرون الأولى من صحابة النبي والتابعين وتابعي التابعين، وأئمة الإسلام كالأئمة الأربعة، وسائر أصحاب السنن كالبخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي. حيث يقول أصحابها إن "السلفية" ليست من تأسيس بشر، وإنما هي الإسلام نقياً، لأنها تتلخص في التمسك بما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه. وهو ما يشير إليه د. مصطفى حلمي ـ أستاذ الفلسفة الإسلامية بدار العلوم ـ بالقول: "إذا كان المسلمون يلتمسون اليوم طريقاً للنهوض فليس لهم من سبيل إلا وحدة جماعتهم، ووحدة الجماعة ليس لها سبيل إلا الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح مصدره القرآن والسنة وهذه خلاصة الاتجاه السلفي، عودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله".

الخلفية التاريخية:

ظهر مصطلح السلفية كمحصلة لأحداث تاريخية وأوضاع ألمت بالأمة الإسلامية بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالأمة على عهده لم يكن لها مسمى غير "الإسلام" وقد بقيت على ذلك في ظل حكم الخلفاء الراشدين، إذ أن الأغلبية المتمسكة بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة كانت هي الأصل، والأصل لا يحتاج إلى سمة خاصة تميزه، ولم تكن التيارات والفرق المنشقة فيما بعد من الخطورة بحيث تحتاج إلى اتجاه محدد لمواجهتها.

أنفاستجربة الحوار الكاثوليكي مع البلدان المغاربية تجربة متفرّدة، من ناحية تعويل الكنيسة على نتائجها ومقاصدها، ما جعل تلك التجربة واعدة من طرف واحد، من الجانب الكاثوليكي. فالطرف المغاربي، المفتقد لاستراتيجية علمية أو دينية، قد جُرّ جرّا إلى ما يسمّى بالحوار، على مدى أربعة عقود، ولم تنبع المثاقفة من مطلب أكاديمي أو استعداد مؤسّساتي له، بل كان استجابة للمواكبة والمجاراة. كان أوج تلك المثاقفة بتأسيس مجلة "إسلاموكريستيانا" المسماة بـ"إسلاميات مسيحيات" سنة 1975، بإشراف وتسيير لاهوتيين من الآباء البيض، حشِد لها رهط من الجامعيين من تونس بالخصوص، بغرض صنع وعي ديني ليّن وطيّع. غير أن الآباء البيض، الذين ارتبط منشأهم ودورهم بالكنيسة الاستعمارية، لم يوفّقوا في تجاوز الحوار العُصابي مع الإسلام، عبر ذلك التجمّع، الذي سعوا في تشكيله.
كان الطرف المغاربي ولايزال، يحسب الدخول في حوار مع الكنيسة "جلسة شاي"، يعرب فيها عن اعتداله وسماحته وتقبّله للآخر، يَجري فيها حديث عن الأخوة الإنسانية ووحدة العائلة الإبراهيمية. ولم يُدرَك حتى الراهن أن الكنيسة الكاثوليكية، لاتزال تنظر بعين الغيرية للإسلام والمسلمين، وأن الذي يجمعها أساسا هو بأتباع التوراة، بناء على مفهوم "الإخوة الكبار"، الذي اصطنعته وأزاحت منه الجانب الإسلامي، متجاوزة في ذلك الواقع الإناسي والأصول اللاهوتية في الدينين، والتأسيس التوراتي "لأباركنَّك –إبراهيم (ع)- وأكثرنّ ذرّيتك فتكون كنجوم السماء وكرمل شاطئ البحر، وترث ذريتك مدن أعدائها" التكوين(22: 18).
لمتسائل أن يتساءل عن مغزى التقارب الكاثوليكي من الإسلام المغاربي، أو بعبارة أدق مفاوضاته، التي لا يخفى ما ترنو له من استعادة للمواقع القديمة بعد رحيل الكنيسة الاستعمارية، وأرض المغرب تخلو من أهالي أصليين مسيحيين، وحتى إن تواجد أنفار من الناكصين مع تحوّلات العقود الأخيرة، فإن الكنيسة لا تجرؤ على عرضهم وخوض الحوار باسمهم ولأجلهم؟ فالكنيسة لتقريب المسيحية من الأهالي، سعت لاستبدال وكلائها في بلاد المغرب برجال دين مسيحيين عرب، المطران مارون لحام أسقفا في تونس، خلف الأسقف فؤاد طوال، وغالب بدر أسقفا في الجزائر، بدل الفرنسي هنري تيسيي. كل ذلك لإخفاء الطابع الغربي عنها، وتيسير تمرير الحوار التفاوضي عبرهم، الذي يدور حول نقطة محورية تدعو لانفتاح الواقع المغاربي، في تشريعاته وواقعه بحسب ما ترنو له الكنيسة، لا الحوار المعرفي.

أنفاسمما لامراء فيه أن اللغة ــ بصفة عامة ــ لها أهمية قصوى في تحديد الهوية للقومية لمجتمع معين من المجتمعات عبر عصور التاريخ . وذلك لما تتميز به من خصائص تشترك في تكوين بنيتها الدلالية والتركيبية  كما أن لها علاقة بنيوية مع الفكر . إذ أن الكيفية التي ينطق بها الإنسان  ويتواصل مع الآخرين هي تقريبا الكيفية التي بها  يفكر. وقد   قيل في هذا الصدد  إن الأسلوب هو صاحبه .
ولعل تساؤلات كثيرة تطرح نفسها هنا بإلحاح :
فما علاقة اللغة بالقومية ــ باعتبار أن اللغة بنية فوقية  ــ ولا تمس البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي هي أساس الوحدات القومية لأي مجتمع ؟
 ثم ما الفرق بين القومية  بمفهومها الواسع ، والقطرية بمفهومها الضيق ؟ وهل المجتمع الذي يدعو إلى تقزيم وحدته داخل القطر الواحد يحدث قطيعة  فعلية مع  المجتمعات التي يشترك معها في عديد من الخصائص ( مثل  اللغة ، التراث، التاريخ ، والجغرافيا ، ووحدة المصير ) ؟؟
هل القضية القومية ( وخصوصا العربية ) أصبحت في خبر كان . بعدما كانت الشغل الشاغل والمطلب الأساسي لكثير من التيارات الإيديولوجية في القرن الماضي  ؟؟
هذه التساؤلات وغيرها يجيب عنها الواقع المادي الملموس . فباستقرائنا للواقع العربي الراهن يتبين بالملموس أن المجتمعات العربية المعاصرة اختارت النهج القطري على النهج القومي لاعتبارات سياسية ومصلحية بالأساس .
 فالتنمية الاقتصادية والاجتماعية في غالب الأقطار العربية اختارت سيرها وصيرورتها بمعزل عن الأقطار الأخرى .
فالبعض شرق .. والأخر غرب . ولاتجد نهجا بنيويا يربط دولة عربية بأخرى في سائر المجالات . بل نجد الهوة سحيقة بين نظام اقتصادي عربي وآخر متجاور . وبرزت إشكالية التقدم والتخلف  بين دولتين عربيتين متصلتين جغرافيا  ( السعودية مثلا واليمن . المغرب وموريطانيا. سوريا ولبنان. مصر والسودان وقس على ذلك )..