mortetvie"العاقل يعقل بالعقل معقوله"[1]
جاء في "الإمتاع والمؤانسة" للتوحيدي "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة" أن أحد الشخصيات السردية طرح عليه السؤال التالي:"ما العقل وما أنحاؤه وما صنيعه؟" فجاء جوابه كشفا عن التقصير وإبرازا لأهمية الإيجاز والتوضيح والتمييز والتقريب وقد كان على هذا ا النحو:" العقل هو قوة إلهية أبسط من الطبيعة...وهو خليفة الله وهو القابل للفيض الخالص الذي لا شوب فيه ولا قذى"[2] كما أن العقل "نور في الغاية لم يكن ببعيد"[3] و"اسمه مغن عن نعته"[4] وإذا لوحظ في ذروته فإن حديثه يوجب طرح الوهم ورفع الحدود الحاجبة للمعارف والمقصرة للمدارك والموقعة في الأخطاء والمتمثلة للبسائط في صورة أصنام .
فهل يدرك العقل الوحدة أم الكثرة؟ وهل هو في اتفاق مع الشرع أم يخالفه؟ وألا ينبغي الذهاب إلى بلاغة التأويل لتدارك هذا الخلاف مع النص؟ وهل في مقدوره إدراك المغيبات أم أنه محدود متروك ذلك للنفس؟
يرى التوحيدي أن آثار العقل كثيرة ولكنها تدرك موحدة لأن "من كثر الواحد فهو اشد خطأ ممن وحد الكثير لأن تكثير الواحد انحطاط إلى المركز وتوحيد الكثير استعلاء إلى المحيط"[5]. وبهذا يكون التوحيد اعتلاء نحو الجوهر والتكثير انحطاط نحو المادة. كما يأتي التكثير من التمييز بين الأسماء والحروف والأفعال بوصفها آثار العقل ويحصل التوحيد بترادف الكلمات وتصاحب الصفات.
في هذا الصدد نراه يخبرنا:"فأما إذا فحص عن آثاره في حضيضه فإنه تمييز وتحصيل وتصفح وحكم وتصويب وتخطئة وإجازة وإيجاب وإباحة."[6] وهو في عمله يشترط استواء اللفظ بالمعنى لأن أحسن الكلام ما رق لفظه ولطف معناه وتأييد السماع اللغوي للقياس العقلي بالطبع وتبادل الفن والطبيعة الإلهام والخلق وتوحد العقل بالحس والشعور قصد اجتياز درجة المحاكاة نحو الإبداع والذوق ويمكن تطويع النثر لفائدة الشعر وتركيب الكلام هو تأليف بين النظم والنثر حيث ترد العبارة إلى الجملة والى سياق الكلام.

yurgen

لم يحظ فيلسوف ألماني معاصرـ ضمن رموز المدرسة الفلسفية الألمانية العريقةـ بمثل ذلك الاهتمام العالمي الذي حظي به "يورغن هابرماس". هذه إطلاله ـ في ظلال ذكري عيد ميلاده الثمانين ـ علي رؤاه وأفكاره، كعلامة فارقة في الفلسفة النقدية الألمانية، بل والعالمية.
وفق "برهان غليون" هناك عدة عناصر تبرر الاهتمام بفكر "هابرماس" والتعريف به: الطابع التوجيهي الذي تتميز به فلسفته النقدية، وسعيه لربط النظرية بالممارسة، وتطرقه لـ"مفهوم الفضاء العمومي" الذي يُشكل مفتاح الممارسة الديمقراطية في نظره.
فلنحو خمسة عقود..  كان "يورغن هابرماس" Jürgen Habermas (المولود في 18 يونيو 1929 في دوسلدورف، عاصمة ولاية شمال الرين ووستفاليا) رائداً للخطاب الفلسفي النقدي، الاجتماعي منه والسياسي، والصوت الأكثر حضوراً وتأثيراً على الحياة الثقافية الألمانية. فهو يُعد أحد أقطاب حركة الإصلاح الألماني، و"مدرسة فرانكفورت النقدية". وكونه عالم اجتماع وفيلسوفا، سمة ميّزت أسلافه من فلاسفة النظرية النقدية، والذين يستحضر دوماً تراثهم الفلسفي كأساس لكل فلسفة نقدية.. اجتماعية وسياسية ممكنة. وعموماُ يعتبر "هابرماس" نفسه "نتاج إعادة التربية" التي شهدها المجتمع الألماني خلال التطبيق المنهجي لسياسة "إجتثاث النازية" من قبل سلطات الاحتلال بعد استسلام ألمانيا النازية.

 

45يرجع التفكير السيميائي رؤية ومنهجا إلى أعمال الفيلسوف المنطقي والرياضي الأمريكي شارلز ساندر بيرس، وكذلك إلى افتراضات العالم اللساني البنيوي السويسري فرديناند دي سوسير، ومن خلال هذا الاختلاف والتنوع في الإبدالين النظريين لكلي الرائدين، نتج اختلاف في التصور بين الانتصار للسيميولوجيا (Sémiologie)الفرنسية التي تعد، كما بشر بها دي سوسير في محاضراته في علم اللسان العام، جزءا من علم النفس العام، وستدرس كل الأشكال غير اللفظية، كعلامات المرور، ولغة الصم البكم ...إلخ.
وهناك من انتصروا للسيميائيات(Sémiotique)بوصفها دراسة للتجربة الإنسانية كما يراها بيرس، حيث يمكن النظر إلى كل النشاطات الإنسانية من وجهة سيميائية، سواء كانت لعبا أو فيزياء أو رياضيات أو سياسة أو اقتصادا...إلخ، فالسيميائيات إذا نظرية للعلامات، خصوصا أن العلامة في التحديد البيرسي، هي كل ما يقوم مقام شيء ما ويمثله، ومنه فالكون كله علامة، والسيميائيات دراسة لهذا الكون العلامي، وبالرغم من اهتمام كثير من الباحثين السيميائيين بالتمييز بين هذين المصطلحين، إلا أن غالبهم في الأخير استقر إلى أن التمييز بينهما إجرائي فقط، بل إن المصطلحين معا مترادفان.
انطلقت الجهود المختلفة للباحثين السيميائيين في تطوير هذا العلم، بناء على التصورين السابقين معا، فقد اعتمد الكندي توماس سيبيوك دراسة العلامات استنادا إلى التصور البيرسي لعلم السيميائيات، وأخذ رولان بارت على عاتقه دراسة الأنساق الدالة البصرية اعتمادا على ثنائيات دي سوسير(الدال والمدلول/ التقرير والإيحاء...إلخ)، خصوصا منها أنساق الموضة والإشهار، ومختلف المغامرات السيميولوجية، لذلك عرف هذا الاتجاه السيميائي الفرنسي بسيميولوجيا الدلالة، المرتبطة أيضا بكريستيان ميتز، الذي اشتغل على بنية التلفظ في الخطاب السينمائي خصوصا، ومختلف تجليات هذا الخطاب، بالنظر إلى اعتباره بنية تلفظية.

126" إن الظالم لا يكون ظالما لغيره حتى يظلم نفسه... والعادل مع الناس إذا هم بالعدل وتحراه فقد عدل مع نفسه قبل أن يعدل مع غيره"[1]
يعاني بني الإنسان من دائرة الناطقين بلغة الضاد في زمن العولمة من الفساد الوجودي والتدحرج الأخلاقي ومن التفاوت الاجتماعي الصارخ واللامساواة على صعيد توزيع الخيرات والمنافع وتضخم درجات المظلومية وانكماش دوائر العدالة ،ورغم المحاولات المبذولة من أجل إصلاح ذات البين وتنقية الأجواء المشحونة وتهذيب التدافع بالتي هي أحسن من طرف بعض الجهات الرسمية والهيئات المدنية إلا أن دار لقمان بقيت على حالها والأوضاع تفاقمت نحو الأسوأ وانسداد الآفاق بالنسبة للشبيبة الأبية قد ضاعف لديها درجات الإحباط وأفقدها الأمل في تعمير الأرض واستصلاح الفعل، والمدهش أننا نعثر على الظالمين في كل مكان تقريبا حيث هناك سلطة ومصلحة من السياسة إلى الاقتصاد مرورا بالاجتماع والتربية والثقافة وأنهم ليسوا على وعي بذلك بل يعتقدون أن ما يقيمون به هو قمة العدل والاستقامة.
فماهي دلالة الظلم؟ وماهي الأسباب الموقعة فيه؟ وماهو تعريف العدل؟ وكيف السبيل إلى التقيد به على مستوى المبدأ وفرضه على صعيد الواقع؟ وهل يمكن للمحبة أن ترفد العدالة في سعيها إلى زرع الأمل والحث على العمل الصالح؟ وماذا ستضيف المحبة والصداقة إلى هذا الوضع المتأزم؟
ما نقصده من خلال هذا الاستشكال ليس تبرير الأفعال المشينة بالاحتماء بالحتميات القهرية وإنما اقتلاع المظلومية من جذورها وتحميل أولى الأمر في الإنسان سواء العقل على الصعيد الفردي أو الدولة على الصعيد الاجتماعي المسؤولية الكاملة في وقوع ذلك وتبعاته العاجلة والآجلة.
1-    دلالة الظلم:

I-    في بعض المنطلقات :

- الحجاج لصيق لتاريخ الفلسفة و فنّ الخطابة .  درّسه السفسطائيون منذ القرن الخامس قبل الميلاد و كان يرمي إلى اقتناص مواقف الجمهور و دفعه للانخراط في موقف سياسيّ أو دينيّ أو فكريّ ما .

- من مظاهر الممارسة الحجاجية في الموروث الإغريقي
- محاورات إفلاطون
- مساهمات بروتاغوراس و جورجياس من خلال تأسيسهما لما يسمّى بالخطاب المزدوج : مع/ضدّ في معالجة كلّ مسألة فلسفية أو سياسية
- دور الجدل الأرسطي و خاصّة في تأسيس طريقتيْ :
الاستنباط و الاستقراء . كما حاول تقنين الخطابة في ثلاثة أجناس يوضحها الجدول التالي :

 

الأجناس الخطابية
مُشاوري قضائي بياني
العمل القولي النصح/النهي الدّفاع/الاتّهام المدح/الذمّ
الهدف نافع/مضرّ عادل/ظالم جميل/قبيح
النتيجة أو الغاية المستهدفة أخذ القرار إجباريّ لا يوجد قرار
المقرّر
عضو من أعضاء الاجتماع القاضي الجمهور
الزّمن المستقبل الماضي الماضي/الحاضر/المستقبل

peinture111.jpg"لا ينبغي أن نطلق اسم الفن إلا على ما نتج عن حرية أي بصفة اختيارية تجعل العقل أساسا لأعماله."[1]
لئن ارتبطت الفلسفة بالعقل وتكلم العقل لغة المفاهيم وصورت لنا المفاهيم أحداث الواقع ولئن انغمست العلوم في التجربة وتكلمت التجربة بلغة الرياضيات والأرقام والمعادلات ونقلت لنا هذه المعادلات العلاقات بين الأشياء وصاغت قوانين الظواهر فإن الفنون ترتبط بالأحاسيس الدافئة والمتوترة والخيال الخلاب والمنتج وبالذاكرة العميقة والجماعية وستتكلم لغة الأهواء وستعبر لنا هذه المشاعر عما يدور داخل الذات من جموح نحو المطلق وثورة على السائد وإرادة لتجاوز الحدود نحو اللانهائي.
ربما كان مصطلح الفن غامضا بعض الشيء وآيتنا في ذلك أنه يطلق على التقنية وعلى الفنون الجميلة على الرغم من الاختلاف الكبير بين عمل الحرفي الموجه من قبل أهداف نفعية أداتية وعمل الفنان الممارس لذاته والهادف إلى قيمة نوعية متعلقة بالجمال أساسا. لذلك يشير الفن في معناه العام إلى الإنتاج الانساني الذي يجمع بين الحرية والعقل والإبداع. على هذا النحو يشير لالاند في معجمه إلى أن:"الفن أو الفنون تعني كل إنتاج للجميل بواسطة الآثار التي يبدعها كائن واع." وبالتالي يتميز الفن على الطبيعة تميز الفعل عن الحركة والحرية عن الضرورة من حيث أنه كما يقول فرنسيس بايكن "الشيء الذي يضيفه الإنسان إلى الطبيعة".
 كما يتميز الفن عن العلم تميز المعرفة النظرية عن المعرفة العملية إذ لا يعرف الإنسان بالضرورة كل ما يقدر على فعله ولا يصنع بالضرورة ما يقدر على معرفته، وقد برهن كانط عن ذلك بقوله:"الفن هو العمل الوحيد الذي لا نملك مهارة صنعه حتى وان كنا نعرفه على الوجه الأكمل." زد على ذلك أن الفن متميز عن المهنة لأن الفنان هو الصانع الذي يمتلك فكرة عما سيبدعه ولكنه يتحرر من كل غرض مادي.

fr2.jpgأن للجمال إتصالية والهة بمعشوقته الأثيرة (الروح الفنية) .. إذ أن النتاج الإبداعي يكون ميدانه ( الصورة الفنية ) .. التي تفصح عن المنطق والحدس الجماليين .. للكشف عن الرؤي من خلال إضاءة ( المتخيل ) ومقاربته .. غير ان البعد المادي للصورة ينبغي توافره لتتجه بحركة جوهرية نحو الجمال - ( أن المادة تمتلك في جوهرها حركة مستمرة بواسطتها ترقي الي الكمال ) - لكن التوجس من مضاعفات النظريات العلمية والأفكار الفلسفية في الفن ، وجعلها مسوغاً شـــــكلياً عن خوض الجدل فيــــها ، لا يــــــؤدي إلا الي تشرذم مكونات التجربة الجماليـــــة .. والاكتفاء بالجانب العلمـــــي المجرد عن محتوي الفـــــن وشاعريته . ذهب أصحاب النظرة المادية القديمة الي أن الجمال ليس صفة من صفات الطبيعة .. ويرون إليه بمنأي عن اكتشاف حقائق الطبيعة .. إذ أنه في نظرهم لايمكن أن يلج ميدان الجدل العلمي .. ومع أن الجمال خاصية الفنون البديعة إلا أن الماديين نفوا أن تكون قواسم مشتركة بين الفنون والعلوم .. ويشيرون الي واقعية العلوم مع أنها قريرة المشاعر .. فيما يسِمون الفنون بدفء المشاعر .. لكنهم يفرغونها من أي مضمون .. وحيث أن هؤلاء يقصرون الخواص الكمية علي المادة .. ويجردونها من أية سمات أخري فأنهم يرققون الجمال الي درجة أن جعلوه صناعة ذاتية - تختلقها ذات الأنسان -لاصفة من صفات الطبيعة ، يقول رينيه ديكارت (1596-1650) : ( لايدل الجميل ولا البهيج علي أكثر من موقفنا في الحكم علي الشيء المتكلم عنه ) .. ويشاطره باروخ سبينوزا (1632-1677) الرأي ذاته: (الجمال ليس صفة في الشيء المدروس بقدر ماهو الأثر الذي ينشأ في الإنسان نفسه الذي يدرس ذاك الشيء) .. ونحا المنحي نفسه تشارلز داروين (1809-1882) معبراً عن وجهة نظر هؤلاء الماديين وموقفهم من الجمال : ( من الجلي أن الإحساس بالجمال يتوقف علي طبيعة العقل بصرف النظر عن صفة حقيقية في الشيء محل الأعجاب ) .. أما سيغموند فرويد (1856-1939) .. فأنه وجد نفسه منصاعاً الي عد الجمال أسير الغريزة الجنسية : ( من دواعي الأسف أن التحليل ليس عنده مايقوله عن الجمال وكل ما يبدو مؤكداً أنه مستمد من مجال الشعور الجنسي ) .. وبذلك فأن أصحاب النظرة القديمة يعتقدون بأن عناصر الجمال هي ليست من قوانين الطبيعة .. بل هي من قوانين العقل البشري .

anfasse.orgفي حضارتين متجاورتين متواصلتين متحاورتين متدافعتين علي مدار التاريخ.. يبرز في إحداهما "الرازي" كمؤسس من مؤسسي منهج التفكير العلمي والتجريبي، وإنجازاته العلمية، ومن ثم الثانية يتسلم المشعل ـ بعد قرون ـ "برنار" فيواصل المسير، ويراكم الخبرات، ويبدع الاكتشافات، ويثري الإنجازات.
 
أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (ت 313هـ)،"أبو الطب، وإمامه في الحضارة العربية الإسلامية"،"جالينوس العرب".. ولد في الري من أعمال إيران، ودرس الرياضيات والطب والفلك والفلسفة والكيمياء والمنطق والأدب. تعلم طب "علي بن ربن الطبري(800-870م) في سن متأخرة. للرازي نحو 200 كتاب ومقال ورسالة في الطب والفلسفة والصيدلة والكيمياء وغيرها، وظل ما تـُرجم من مؤلفاته إلى اللغة اللاتينية مراجع هامة في الطب حتى القرن السابع عشر الميلادي، ومن أهم كتبه:"تاريخ الطب"، و"المنصوري في الطب"، وقد خصصه لأمراض الجسم، ثم تممه بـ"الطب الروحاني"، وله "الحاوي في الطب"(ترجم إلى اللاتينية سنة 1279 م، وعرف باسمContinens :)، و"الجامع الكبير"، و"الجدري والحصبة"، و"القولنج"، و"الأدوية المفردة" (سليمان فياض: عمالقة العلوم التطبيقية وإنجازاتهم العلمية في الحضارة الإسلامية، مكتبة الأسرة، 2001م، ص 57-62).
 
حلُـم بالعمل في المسرح، لكنه اصبح طبيباً وفيلسوفاً. اشتغل في مجال علم التشريح، ويعد رائدا ومؤسسا لعلم الفسيولوجيا الحديث.. ذلك العلم الوسط بين العلوم العقلية والطبيعية. كلود برنار(1813- 1878م) باحث وفيلسوف فرنسي نهم للمعرفة، بحث كثيرا، وكتب كثيرا، واعتزل كثيرا في منزل أسرته في "بوجوليه"، جد دؤوب، رغم اعتلال صحته، يدفعه فضول كبير للعلم، ورغبة في إعادة النظر في أسس التفكير العلمي والطب التجريبي. له عدة كتب في ميدان البحث العلمي والتجريبي التي كان يقوم بها. أسيء فهمة عائليا، وعارضته زوجته "المتدينة" التي لم تكن قادرة علي تفهم الشرف الذي سيعود علي زوجها من وراء"وحشيته" تجاه حيوانات المختبر. وقد عبر عن مبادئه العلمية في كتابه الشهير:"مدخل إلى دراسة الطب التجريبي"(1865م). ثم اصبح هذا الكتاب كتاب الفسيولوجيا المفضل.

anfasse.org"إن المبدع لنتاج يدين به لعبقريته لا يعرف هو نفسه كيف توجد فيه الأفكار الخاصة بهذا النتاج"[1]
أثار غياب الفيلسوف عن دائرة حضارة اقرأ منذ ابن رشد وابن خلدون حفيظة المثقفين والقراء حول الصفة التي تليق بمقام هذا الكاتب المنتظر والعالم الموعود والصفة التي يمكن أن تنعت بها المجهودات التنويرية التي يفترض أن يبذلها لتفادي حالة الضعف وموقف العجز ولكسب وسائل المنعة وإعداد القوة الفكرية. ولئن وصف بكونه متفلسفا حرا يسهم في تحريك العقل العربي ويعيد الاعتبار إلى الفلسفة الإسلامية وفق مناهج وآليات معاصرة فإن البعض الآخر قد يقللون من شأنه ويتعاملون معه على أنه مجرد مفكر ابستيمولوجي ومربي أناسي ومؤرخ للأنساق المعرفية. أما الفريق الثالث فقد يعتبره مصلحا دينيا وقارئا هرمينوطيقيا جيدا للقرآن والمدونة الشعرية والنثرية ومفجرا لثورة ثقافية تطال أهم العلوم الإنسية والصحيحة وتطرح من جديد إشكالية التراث والحداثة والخصوصية والكونية من منظور تقدمي.
 لكن الفرضية التي يمكن اختبارها في هذا الصدد هي مدى استحقاق مثل هؤلاء الأساطين المصلحين صفة العبقرية، فهل يجوز لنا أن نعتبر محب الحكمة عبقريا ؟ وماذا تعني كلمة عبقرية لغة واصطلاحا؟ وكيف يمكن التصرف فيها دون الوقوع في نظرة عنصرية أو حكم ثقافي متعال؟ وهل هناك عباقرة أخرون مازلوا على قيد الحياة ويمكن للمجتمعات العربية أن تستفيد من اجتهاداتهم وعلمهم؟ وكيف تتعامل الأنظمة السياسية معهم؟ وهل تشجعهم أم تتفادى آراءهم؟  وهل العبقرية  تحصل بالطبع أم يرتقي إليها المتعلمون بالاكتساب؟ وهل هي الذكاء والفطنة أم المهارة والصنعة؟ وهل تتجلى في الاختراع المادي للوسائل أم في التخطيط النظري للغايات؟ والى أي مدى يسمى كل مبدع عبقريا؟  وما الفرق بين الذكاء الاصطناعي والعبقرية ؟ وهل نشجع الإبداع من أجل الرقي أم نحاصره خشية الفتنة والاضطراب الذي يحصل في النفوس؟ فمن هو الذي يستحق شرف تسمية عبقري؟ ألم يعتبر عباس محمود العقاد النبي محمد (صلعم) والخلفاء( رضع)  بدرجة أقل من عباقرة الإنسانية؟ وهل يمكن أن نعتبر العبقرية بعد ختم النبوة صفة بشرية يجوز إطلاقها على الكائن الآدمي المتناهي؟

jabri2.jpgإنه محمد عابد الجابري فيلسوف العرب الذي غادرنا عن خمسة وسبعين عاماً، وأربعين كتاباً، ومئات من الأسئلة المتعمقة المقلقة حول التراث والحداثة والعصبية والدولة والتعليم وحقوق الإنسان، وقضية مركزية أخلص لها وأفنى عمره في الانشغال بها هي قضية النهوض العربي. لطالما جسّد الجابري قيمة فكرية والتزاماً سياسياً تتضاءل إلى جوارهما أية ألقاب أو درجات علمية حصل عليها. وفى زمن عربي تعطى فيه الدرجات العلمية الرفيعة أحياناً لأسباب ليس من بينها بالضرورة الجدارة العلمية يدرك المرء كم هو مجحف أن تتساوى «دكتوراه» عابد الجابري مع غيرها من درجات الدكتوراه الأخرى! كان لقائي الأول والأخير مع الراحل الكبير في منزله الهادئ في الدار البيضاء. احتفى بي بكرم عربي أصيل. كدت أسمع في منزله صوت السكوت في هذا المساء المغربي الشارد بينما صدى صوته يتردد من حولي. ما زلت أذكر جيداً كلمته وهو يحكي عن عزلته التي صنعها لنفسه في السنوات الأخيرة.
(1)
لا ينتهي الكلام عن مؤلفات «الأستاذ» محمد عابد الجابري تأييداً أو نقداً. إنها سمة المفكرين المجددين الذين لا يتوقفون عن إثارة الجدل والتأمل ويظلون قادرين دائماً على رؤية الأشياء ذاتها ولكن من زاوية أخرى لم تخطر لنا على بال. كتب كثيرون وسيكتبون عن مؤلفات الجابري والقضايا التي أثارها والأفكار التي طرحها. لكن تبقى ملامح شخصية المفكر الراحل جديرة بتسليط الضوء عليها.

jabri.jpgيعد المغربي محمد عابد الجابري من بين المفكرين العرب ذوي المشاريع النظرية الأكثر لفتا للانتباه، واجتذابا للنقاش والجدل في اللحظة الراهنة.
وإذا أردنا جمع هذه المشاريع حول سؤال مشترك، يمكن القول إن الهاجس الغالب عليها هو التفكير في سؤال النهضة، كما جاء في مقال للباحث الطيب بوعزة بموقع "الجزيرة نيت"، مع اختلاف في كيفيات طرق السؤال والإجابة عنه، بسبب تعدد واختلاف المداخل المنهجية التي توسل بها أصحاب تلك المشاريع.
أما المدخل المنهجي، الذي اختاره الجابري فلم يكن مدخلا سياسيا ولا اقتصاديا بل إبستمولوجيا، إذ يرى أنه لا نهضة دون تحصيل آلة إنتاجها أي العقل الناهض.

ولا يمكن تحصيل هذا الفكر القادر على صناعة النهضة دون نقد للعقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته، من أجل بيان الحاجة إلى عصر تدوين جديد يؤسس للعقل نظاما معرفيا قادرا على الاستجابة لتحديات الراهن.
هذا المطلب هو الذي اشتغل المفكر محمد عابد الجابري بقصد إنجازه طيلة ما يقرب من نصف قرن، متوجا ذلك بإنتاج موسوعته "نقد العقل العربي" وهو الإنجاز الذي رأت اليونسكو أنه يستحق أن يكرم في الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة سنة 2006.

من الرياضيات إلى الفلسفة

كثيرا ما تلعب أقدار، تبدو صدفا في مسار حياة الناس، دورا رئيسا في تشكيل مستقبلهم، وبالرجوع إلى حياة الجابري يستوقفنا حادث كان هو المنعطف نحو توجهه إلى التخصص في الدراسات الفلسفية، لأن الرجل كان في ميوله الدراسية عاشقا للرياضيات.