أنفاسلم يكن راضياً. ها هي الساعة تقترب من الثامنة، ويكاد اليوم ينتهي، ولم يتجمَّع في علبة الإيراد ما يجلب الرضا. مرَّت عدة أيام على نفس الحال..في الصباح، وهو بطريقه للعمل، يفشل في التقاط أي راكب؛ ليس بسبب ندرة  الركَّاب، ولكن لأن اتجاهاتهم تتعارض مع خط سيره من بيته، في (الورديان)، إلي (الحقَّانية)، في ميدان المنشية، حيث يعمل في وظيفة كتابية، تحتِّم عليه التوقيع بقائمة الحضور، قبل الثامنة والنصف؛ وذلك يجعله يتهرَّب من كل راكب يطلب نقله إلى مكان بعيد، ليتوفَّر له الوقت، للبحث عن مكان يوقف فيه السيارة، بعيداً عن احتمال أن تقع عليها عين زميل، فتفشل محاولات الكتمان، وينتشر الأمر في المحكمة كلها. يأتي خوفه من المساءلة القانونية بالمرتبة الثانية، بعد تطيُّره من نظرات الحسد والحقد وألسنة السوء. لم يروا مكابدة السنوات الطوال، منذ خرج من الجيش، بعد الحرب، يحمل في يده رخصة القيادة (درجة أولى)، ويعمل عند أصحاب السيارات، الذين يشتركون – جميعهم – في اتهامهم الدائم للسائقين بعدم الأمانة في توريد  (الغلَّة)؛ ولن يصدقوا أنه اشتراها بالتقسيط، ولا يمكن أن يتصوروا القلق المميت الذي يقلب كيانه، وأيام الشهر تزحف إلى نهايتها، دون أن تقترب الجنيهات المقتصدَة من الرقم (300)، قيمة القسط الشهري.
  يعلم ويؤمن بأن الله يقسِّم الأرزاق.. وهنا، يجب أن يوجِّه التأنيب إلي نفسه؛ فهو، في حالات كثيرة، كان يركب رأسه، ويصرُّ على أن يحدد خط سيره في شريط الكورنيش، فقط، رافضاً العديد من طلبات التوصيل إلي الأحياء الواقعة في عمق المدينة، أو الضواحي.. السير في شوارع شتاء تلك الأحياء مخاطرة.

أنفاسأي شخصية فذة تلك التي هزّ حُراسها  (البودي غارد) بالرؤوس الحليقة أرجاء المطعم الهاديء في بهو الفندق( الكلاس) ، وكأنه هجوم مسلحٍ أو سطوٍ مفاجيء .. أقام المكان ولم يقعده.. ؟؟
عكّر علينا صفو سماع عازفة البيانو ، رجّ العصير في الجوف وأخرج القلوب الوجلة من بين الضلوع..
احتجت دقائق حتى أرخي أعصابي ، أعيدُ تنظيم دقات قلبي ،ويستقرُ زوغان عيني .. لأدرك ما جرى ومن يكون هذا المُهمّ الجائع الذي سبقه الوفد الشرس ليحتل الطاولات المقاعد والكراسي ..
يُمنع الدخول والخروج من عمالقةٍ، كل واحدٍ  منهم بحجم دب قطبي ، متجهم الوجه
كشيطان غاضب .. يحمل في يده (موبايل) و(توكي وكي) يتحدث بهمس ويتحرك كقرد أجرب ينظر إلى الساعة ويراقب وجوه الحضور .
أصوات مظاهرة صاخبة ، تكتكة الفلاشات تسبق الموكب ، صراخ أنثوي يتوسل ويتسول :  " أرجوووك ، دعني أمرّ .. يااااااي .. واوووووو ..بلييييييييييييييز ..!" .
تأهبٌ ، استعدادْ..  حانت لحظة الصفر ، هاهو (العظيم ) يقترب .. اصطف الحرس على الصفين ، هبّ الجميع.. (هرجٌ ومرجٌ) حتى عازفة البيانو قامت ترحب بالقادم المهيب و...  قيدتُ جسدي بالمقعد حتى لا أطير مع قلبي الذي هرب مني وتدحرج بين القلوب المتزاحمة أمام قدميه ..!!

أنفاسأتجول باحثا بين دروب أسئلة نصوص المدينة ، المغسولة الوجه ، بشيء من ماء الزهر المفقود و طلعة الملح القادم . إليك تشدني  الفراشات البيضاء ، و المشاكسة  في فراغات المعنى المحتمل و العميق عموديا  أقرأها زائرا و مسائلا ..و رافضا  لصورة جدل ، يدخن سجارة في مقهى عقيم . أخترق تفاصيل الحروف المرفوعة الرأس ، و الأخرى المنقسمة الأطراف . يصيبني شيب اللفظ حينا  بحجارة الدلالة المبتورة العين .فأقول لابأس ..، فلتكن بداية هذه السفرة ، عثرة قدم تشعل الضوء في طريقي إلى الأمام .
و حينا آخر ، أجدني واجما ، تعتريني نار الدهشى القصوى .
 و عبر احتراق الدخول السهل ، إلى تلوينات متعة حرف ، يسائل و لا يشكو لسلطان قبيلة الرقمي الفياضة ..،  و بمعية سواعد الأشجار الطالعة ، تحت هذي التكوينات الجارية ، أطرح سؤال البحر الحزين .. و المنتشر غريبا ، بين عطش المد .. ، و رمل الجزر العليل .
هي  ريشة حمراء ، أزرع بها أجمل الأسئلة الفاضحة ، في تربة تدير أكبر مقاولة لبناء الأقنعة ، و ربطات الأعناق الطويلة ، في مدينتي .. تربة شقراء و أنيقة .. ، احتلها القمر الهرم منذ كنت طفلا ، تستهويه اليوم أرجوحة الأجداد ، المشدودين بعمود رمال مخيمة حبلى بالمزيد من الجراح ..

أنفاسمنذ زمان لم أحكِ او أكتبْ شيئاً ذا بالٍ عن هذا اللامع في عتمةٍ وسط الضلوع كشمعةٍ بِعِدَّةِ ذُبالات .
رسمتُ يوماً شمعةً بذُبالةٍ واحدة فلم يُقِنِعْني المنظر !
فعدتُ فقرَّبتُ منها منقارَ بلبلٍ فوجدتُ أنَّ هذا حسنٌ ثم قرَّبتُ منها ورقةً من شجرة تفاحٍ خريفية فكان المنظر كثيرَ الشَّجا , فتمتمتُ قائلاً : لو بقيتَ هكذا أيُّها الوطن رَغم صدى المرارة !
واليوم وقد بدأ الشتاءُ هنا بترتيبِ حقيبتهِ الثلجية متهيِّئاً للرحيل الى موطنه الأصلي خلف السنوات والذكرى , أتذكَّرُ شتاءكَ المُتحلِّقَ حول المواقد وتنانيرِ الأمهات .
أتذكَّر شطراً من قصيدة لشاعر إنكليزي تعلّمناها في المرحلة الإعدادية بصيغة سؤال :
اذا كانت كلُّ الفصول فصلاً واحداً فماذا سيصبح هذا الفصل ؟
وانا أيضاً أسأل نفسي : حقّاً , ماذا سنطلق عليه ؟
أتذكَّرُ هبوط أماسيِّك , لم تكنْ أماسيّ وإنما نجوماً تجلس على أَسِرَّةٍ بَريَّةٍ وتَقطرُ الضياءَ كالقُبَل على أفواه الينابيع !
كانت دموعنا تمنح الصيفَ حرارتَهُ وتمنح الخريفَ معنى الراحة بعد العمل المثمر وتمنح الربيعَ فرحَ الولادة واخضرارَ النسائم .

أنفاسكـان يـمـسـك رأسـه بـيـن كـفـيـه ويـسـائـل نـفـسـه عـن سـبـب هـذه الـمـحـنـة الـتـي تـمـر بـه وكـأنـهـا عـاصـفـة هـوجـاء ، كـان مـن حـيـن إلـى حـيـن يـرفـع صـوتـه بـشـكـل مـفـاجـئ " تـفـو" يـصـاحـب صـوتـه ضـرب شـديـد عـلى الـطـاولـة الـمـوضـوعـة أمـامـه فـي الـمـقـهـى . لـقـد سـبـق لأصـدقـائـه الـمـقـربـيـن أن نـبـهـوه إلـى ضـرورة الـتـوقـف عـن هـذه الـحـمـاقـات خـاصـة وأنـه لـم يـعـد صـغـيـرا كـمـا أن الـفـتـاة الـتـي بـدأ يـلاحـقـهـا هـنـا وهـنـاك تـصـغـره بـأكـثـر مـن ثـلاثـيـن عـامـا ، هـي ابـنـة الـثـمـانـيـة عـشـر ربـيـعـا أمـا هـو فـقـد تجـاوز الـخـمـسـيـن مـنـذ فـتـرة لا بـأس بـهـا . إن أكـثــر مـا كـان يـؤلـمـه ويـحـز فـي نـفـسـه هـو هـذا الـتـغـيـر الـمـفـاجـئ فـي شـخـصـيـتـه وفـكـره ، خـاصـة وهـو الـشـخـص الـذي تـعـود أن يـأخـذ كـل أمـوره مـأخـذا جـادا عـقـلانـيـا ، مـحـلـلا ومـقـايـسـا ومـوازنـا . لـم يـكـن للـعـاطـفـة حـيـز يـذكـر فـي قـراراتـه وتـصـرفـاتـه ، بـل يـمـكـن الـقـول بـأن الأمـور الـعـاطـفـيـة لـم تـكـن ضـمـن بـرامـجـه بـلـه أن تـكـون مـن ضـمـن أولـويـاتـه . الـعـقـل ـ ولا شـيء غـيـر الـعـقـل ـ كـان سـيـد مـواقـفـه وتـصـرفـاتـه ، وحـركـاتـه وسـكـنـاتـه . لـكـنـه هـذه الـمـرة أحـس بـأنـه لـم يـعـد يـمـلك إرادتـه كـمـا لـم يـعـد يـتـحـكـم فـي خـيـاراتـه . كـانـت الأحـاسـيـس تـقـذف بـه مـن لـجـة إلـى أخـرى مـنـذ أن لـمـح تـلك الـفـتـاة الـغـضـة الـطـريـة ... اللـيـنـة الـمـلـيـئـة بـالـحـيـاة .

أنفاساشتدت غزارة المطر ، فأخذت السماء تنقر زجاج السيارة نقرات متواصلة وسريعة ، محدثة صوت خشخشة أشبه بصوت قضم الخبز المقرمش .. المسّاحات تجاهد كي تتيح لعيوننا الرؤية عبر الزجاج المبلول ، وبخار صدورنا المبثوث عبر أنوفنا وأفواهنا يتكاثف على زجاج النوافذ كالغبار ، ليحاصر نظراتنا ، وهيهات لها من النفاذ إلى الأفق في هذا الضباب الثقيل المنثور .
كنت اجلس خلف السائق ، امسح بكفي البخار وأترك نظراتي تتسلل وتلهوا بين حبات المطر القريبة ، تلاحقها أفكاري الصغيرة الهاربة بين زحام الأسئلة .. أسندت ظهري ، ونظرت إلى امرأة في ريعان الصبا ، كانت تجلس بجوار السائق ، وفي حجرها كافولة من قماش أبيض ناصع ، لا يعكر صفو بياضه سوى بقعة واحدة صفراء ، قد تكون مخاطا سقط سهوا إثر عطسة قوية ومباغتة .
داخل الكافولة نتفة لحم حية وبضة ، بلغت شهرها الثالث ، لها رأس أملس وصغير بحجم برتقالة ، وقد نبت به زغب ناعم ، بالكاد خرج من فروته الطرية ، وفم ضيق لا يتسع لحبة عنب ، فقد رأيته مفتوحا على آخره حين وأوأ : وأ .. وأ .. وأ ... لقد وأوأ  بإصرار وعناد ، كأنه قصد الإزعاج .. شعرت أنه يعاندني و يناكفني .
- أسكتي هذا الرضيع !
- إنه جائع ! لا أستطيع إسكاته .

أنفاسأفندم…
أنــــــا، رقم (5558050 ) – رقيب ( هـ. ع. ) مجنَّد رجب ســـعد السيد ؛ تجنيد 10 / 10 / 70 ؛ (رديف) 1 / 9 / 74 – يا افندم – حكمدار ( ف. سطع. كيما. – س. 2 كيما. – قيا. فر. 6 مش. ميكا. )، واحدة من فرق المجهود الرئيسى ، المشاركة فى عمليات أكتوبر 73 .. طالب مكتب يا افندم .. متظلِّم ، وعندي أقوال عمَّا كان، وما هو حاصل، من أحوال الوطن، بعد انقضاء ما يقرب من ثلاثين عامــــا، على أول معـــركة حقيقية (قاتل) فيها الجيش المصري ، في العصر الحديث…
     لم أشارك، من قبل، بمثل هذا الحديث، مكتفياً بما سجلته فى القالب الفني الذي أحبه : القصة القصيرة ؛ فأنا ( كاتب ) يا افندم ؛ والواضح، أن صوت الكتاَّب، وكتاباتهم الأدبية، شديد الخفوت بين بنى وطني، فلم يسمعني أحد. لهذا كان قراري – يا افندم – بأن أرفع صوتى، متخلياً عن القصة القصيرة الجميلة، آملاً أن أستجمع قواي ليكون صوتي عالياً، قدر الإمكان، فلا تغطي عليه جوقة الزاعقين في كل مكان، لعلَّ أحداً يسمعني..
     كنت راضياً بالصمت – يا افندم – حتى رأيت بعينيَّ، في برنامج تلفازى، مواطناً مصرياً، في سِنِّي، ولا بد أنه شاركني موقعة 73 ، وقد يكون من أبطالها، يتحدث إلى مقدِّم البرنامج عن جرَّاح قلب شهير، استنزف قدراته المادية، مستغلاً حاجته لخدمة علاجية، تتوقف عليها حياته، وحياة أسرته؛ ويا ليته أدى الخدمة، وقد حصل على أجره كاملاً، بضمير.. إذ عبث بشرايين قلب المواطن البسيط، الذي أخذ يعبر عن الواقعة بأن الطبيب أجرى لــه الجراحة بأسلوب خاطئ، واستبدل له شرايين قلبه بأخرى، أطول من المطلوب، ويصف المواطن الجراحة بأن الطبيب كأنما ركَّـــــــــب لــه (جــاكمــــان) ســـــيارة، ممتداً للخلف، دون أي حسابات، أو كأنه ركَّب له ( ليَّ) شيشة !!.

أنفاسكان البحر يرتمي تحت قدميّ موجة، موجة. و بين كل واحدة وأخرى، يتراجع. تركت ملح الماء يتسرب إليّ من حذائي الخفيف،  شيئا فشيئا. كأنه يتذوقني. كل موجة تستبيح قطعة جديدة من جسدي.. استيقظت باكرا ذلك اليوم. انتقلت بخفة من سريري إلى يوم جديد. انتقلت بخفة من ساعة إلى أخرى. تعلقت بالأمل  طوال اليوم. كيف وصلت إلى هذا الشاطئ؟ كيف انتقلت من النقيض إلى النقيض؟
درس تلو آخر، أتعلم في كلية الحقوق، مبادئ الحريات وحدودها.  لم أدرك انه سيكون علي أن أواجه حدود حريتي بتلك السرعة! تعلمت مذ كنت طفلة أن أتحايل لأحصل على قطعة خبز أكبر، ثم لأحصل على درس إضافي، ثم لأحصل على فستان أو حذاء.. وزعت ابتساماتي وبعض الغنج هنا وهناك.. لم أكن أتجاوز حدود الآخرين، كنت فقط أوسع حدودي. أستاذ القانون المدني، لم يكتف بالغنج. لم تشبعه ابتسامتي.. على مكتبه، توغل في أنوثتي باحثا عن سري الدفين.. صددته مرات عديدة، لكنه ذلك المساء تحين اللحظة جيدا، وحاصرني على مكتبه، دفن رأسه في صدري باحثا عن حليب يطفئ ظمأه. أمسكت رأسه بكلتي يدي ورفعته لأعلن اعتراضي لكنه طار إلى شفاهي يعضهما.. أشعرني وخز شاربه الكثيف بالغثيان، أردت أن أتراجع ثم كان أن تبادرت الفكرة إلى ذهني.. ألستُ امرأة حرة؟ ألست أعلن لكل من يرغب في الاستماع، أنني المالكة الوحيدة لجسدي؟ ألست التي تحتقر ذلك الغشاء الغبي الذي يحد حريتي؟ فلم لا أمنحه لهذا الرجل المتعطش مقابل ثمن أحدده؟