أنفاسكلما استمعت إلى صوت البيانو، تذكرت رغبتي القديمة في تعلم الموسيقى.. تلك التي نشأت ذات يوم حين سمعت البيانو لأول مرة. لكن العمر تقدم بي، ولم تتح لي هذه الفرصة حتى اللحظة، وقد كان على الدوام ثمة ما يمنعني من ذلك.. النشاط في حزب سري، والعمل في أوقات الدراسة مثل إخوتي الآخرين، والزواج أخيرا، وإنجاب الأطفال.
لكنني ما إن أرى بيانو في مكان ما، حتى أشعر بقوة تجذبني إليه، وكم تمنيت لو أتمكن من الجلوس ولو مرة واحدة أمام تلك المفاتيح، لكي أثبت أنني قادر على العزف من دون تدريب، نظرا لإحساسي القوي بالنغمات، ولثقتي العالية بقدرتي على معرفة المفاتيح الملائمة لها، حتى وأنا مغمض العينين! ثم نسيت الأمر تماما بعد أن امتلأ المنزل صراخا وعويلا، والقلب كمدا على عمر يتطاير مثل دخان السجائر من بين الأصابع.
كان أصغر أبنائي سيحتفل بعيد ميلاده السادس، وكنت مضطرا لإهدائه شيئا ما. ولأنني مللت  الملابس التي أراها الأفضل في المناسبات كلها، نظرا لما يوفره ذلك من استحقاقات يومية ـ أعتذر عن استخدام ( استحقاقات) التي هي من مخلفات العمل السياسي ـ ، فقد قررت أن أهديه شيئا لم يخطر بباله من قبل، من دون أن أحدد ذلك الشيء..

أنفاسسامية،يا جنونا ألم بي ذات نزوة على باب العمر المتهالك. أبحث عنك الآن في كل الوجوه, في كل نفثة دخان, وفي كل رشفة من فنجان قهوة سوداء.
التقيتك على قارعة الغياب. صدمتني عيناك الجريئتان في لحظة كنت أستجمع شتاتي من حب عاصف أودى بغروري.
أحقا خنت صديقتك التي عبرتها أنت مقتحمة تخومي في ثقة زائدة؟
في ذلك الركن الذي تغطيه الأشجار في أقصى مكان من الكلية, كنت أحضنها هي المتعاقبة على فصولي المشروخة مثل اللعنة, ألامس شفتيها الظامئتين أبدا, انبعثت مثل طيف لا أدري من أين لتصيحي:
-حصلتكم* أ لعفاريت, آش كاتديرو**؟
لم أكن أعرفك, هي كانت صديقتك المقربة. توقفت مشدوها والتفتت هي إليك مذعورة. لملمت شفتيها وابتسمت وقد احمر خداها وأنت تقهقين في صخب. نظرت إلي ومسحت قامتي كلها. كنت أقصر مني بكثير. توقفت عند عيني وابتسمت في عهر وقلت لها: هذا يصلح لي أنا وليس أنت.
ببساطة انكمشت إلى"هذا". لم أعر كلامك اهتماما. ألم أقل لك أن غروري قد أودى به ذاك الحب اللعين؟

أنفاسناداني فخرجت. حييته فأجاب.
ما كان الشارع معتماً تماماً، فتبنيتُ بعض ملامحه التي تشبهني.
أخبرته أني لا أعرفه فما كذبني.
كنت أرتدي بنطالاً عادياً، وهو يرتدي (الجينز) الغامق.
عاتبني على تقوقعي في البيت، وقال إن الشارع الشجري والهواء الصافي أجمل.
خالفته، وعزمت على العودة.
كُنا ما نزال أمام البيت.
عنفني بقسوة ثم شتمني.
ضربني على خدي الأيسر، فأعطيته الأيمن.
أحسست بالطنين في أذني، ثم في الرأس.
تأبط ذراعي وهو يضحك، ثم انطلقنا ببطء.

أنفاسعندما فتح باب شاحنته ، وجدها امرأة لم يرجمالا كجمالها ، قامة كالنخلة المثمرة ، وجه خجول ، يميل إلى شكل البيضة ،يغطي رأسها غطاء محترم أزرق اللون ، تلمع نجماته الذهبية ، في ضوء مصباح سقف الشاحنة . جلبابها الترابي و    المزركش ، يوحي بأنها فتاة تنتمي إلى طبقة متواضعة ، كطبقته تماما . لهذا لم يخنه حدسه هذه المرة ، و توقف لإنسان قريب منه ، في ليلة دامسة كهذه ، و بذلك يكون قد كسر جدار الموقف الصعب ، الذي اتخذه مع نفسه ، بأن لا يتوقف أبدا لأي  شخص يشير له في الطريق ، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بليلة سوداء ، تحتفي بالتيه و الضياع ، أكثر مما تكشف عن ملامح معاني معينة  . و ذكرى اللصين ،اللذين أشبعوه ضربا ، بعد أن أخذوا كل ما كان يملك ، من أتعاب شهر من العمل .. لن ينساها أبدا.
لكن ، ما الذي يدفع أنثى ، تخرج وحيدة ، في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ، و في مكان نائي و مخيف كهذا المكان . امرأة رفيقها الوحيد ، هو شجاعتها ، و حقيبتها اليدوية .و ربما وراء خروجها الغريب ، و رغبتها في السفر "بالأطوستوب" ، حكاية لا تقل غرابة ، من وجودها في هذا الوقت ، و في هذا الزمان ، و بهذه الطريقة الغامضة التي تطرح أكثر من سؤال ..

أنفاسفي هذه القرية الجبلية ، الغارقة في محراب الغمام الدائم . المنعزلة عن الرب والهائمة بعشقه . أرواح ساكنيها لاينزلون إلى السفح إلا مرة في السنة بعد جني خراج سخاء الأرض، لتبادل المشروبات الروحية بالجرر أو بعض الألات الموسيقية أو إصلاح عطبها . مشروبات يخيل لسابح في طعمها وعطرها أن فواكهها زرعت في حديقة جنة مصممها أريج خيال وأن عاصرها يد رب عظيم . . حتى عندما ينزلون لايصولون ويجولون في الكلام مع أهل السفح : وحده الحكيم له شرف الكلام .
والغريب ينزلون بأقنعة تخفي أجسامهم ووجوههم . لا أحد من أهل السفح زار القرية الجبلية . سرها المغلق نبع خوف وقلق : من يدخل لايعود إلى السفح بل حتى هذا اليوم الوحيد والذي لايتعدى إلا ثواني لن ينزل وإن كانت له في السفح شجرة من دم وحبل ذكريات .
هي مكتفية بذاتها لها حكيمها وهو من يتشرف بإعداد الأرواح على التيمم بالحروف والماء . لاأحد من أهل السفح يعرف سببا للموسيقى التي تأتي إليهم كندف ثلج وخصوصا عندما ينتصف الليل وكأن القرية الجبلية في عرس دائم . وهذه الموسيقى تجعل نفس المنصت إليها في حالة سكر دون مدام . وهذا يعرقل سير حياتهم ويربك نظام عملهم . البعض من عبيد المصلحة كان ينظر إلى قرية الجبل بعين الغضب والحقد . و البعض منهم يفكر في الإنتقام من أهلها وإجبارهم على النزول وإغراقهم في هموم حياتهم . لهذا السبب هذا اليوم من زيارتهم السنوية أو الحج .فرضوا قانونهم الجديد عدم التبادل والتعامل في السلع وخصوصا الألات الموسيقية مع سكان القرية الجبلية .

أنفاسفي الصباح الباكر ، تقدم الزبون من المحل ، سلم على البقال كعادته ، سأله عن أحواله وأحوال تجارته ... ثم قال بصوت خافت واضعا أصابعه على شفتيه بحركة تثير الضحك : الشيء المعلوم . كان قد تعود أن يشتري من البقال قرصي خبز وقطعتي جبن منذ أن استقر في هذا الحي مع زوجته ، كان قد قرر أن ألا تنجب زوجته حتى تستقر أحوالهما وتتحسن ظروفهما .
   وكعادته وضع قطعا نقدية معلومة على الصندوق الخشبي أمامه ، انتظر أن يأخذها البقال ويقول عبارته المعهودة :" الله يخلف عليك " ، لكن البقال صمت لحظة متأملا  تلك القطع النقدية ... ضحك ضحكة خفيفة ...قال : يا سبحان الله ، ما أسرع ما تتغير الأمور وما أغرب تقلبات الدنيا... نظر إليه الزبون ... حذق فيه ... قال بلهجة تحمل سخرية : ما تعودت منك أن تتفلسف ...لقد كنا نعدك بسيطا ، فها أنت تبدي حذلقة وتنتج معرفة ...
    مهلا مهلا ... قال البقال ... ما هذا الذي أسمع منك ، أنا ما أنتجت لحد الآن إلا فشلا ... فهل ما قلته الآن تعدونه أنتم معرفة ... فإن كان ما قلته قبل هذا فلسفة فإني أحمد الله تعالى على هذه النعمة التي أسبغ علي وإن كنت أتمنى لو يبدلها أموالا أو سلعة أروجها وأكسب منها قوت يومي ... وأتخذ منها رأس مال أستقل به عن صاحب المحل الذي يستغلني كما ترى ... فضلا عن أن الفلسفة من السلع التي لا يبحث عنها أمثالي ... وأنا إنما قصدت أن أقول بأن المبلغ الذي كنت تدفعه ثمنا لهذه السلعة لم يعد يكفي ، فقد زاد ثمن الخبز عشر سنتيمات ... وزاد ثمن الزيت والسكر ... وما كان بالأمس كذا لم يعد اليوم كذا...

أنفاسحديثٌ مع رَبَّةِ الشفاء
------------------------
إجعلي من رأسي موطئاً لقَدمكِ أيتها الربَّةُ وانتِ تنزلين الى الأرض ولا يحرجَنَّكِ ما قد يتمخَّض عن هذا النزول المقدَّس من اضطرابٍ في أفكار هذا الرأسِ فهذه الأفكار في النهاية لا قيمةَ لها فقد حفَرَ في رأسي ثغرةً قَدَرٌ مجنونٌ ضالٌّ ثمَّ دسَّها فيه وعاد لينسبَها اليَّ لذا فانني لا أخاطبُكِ من خلال هذه الأفكار فانا سحيق الغربة عنها وإنما أخاطبكِ من خلال روحي التي تتألَّم , التي تتطلَّع ,
وهاتان كفّاي أبسطهما عَتَبةً ثانيةً لسُلَّمِ نزولك وسأجعلُ من رُكْبَتيَّ عتبةً ثالثة .
أمَّا وقد بُتْنا الآن وجهاً لوجهٍ فتعالي معي الى حيث مُستقرّي الجديد في مشفاي لأريكِ شجوني من النافذة .
أُنظري , الحقولُ تزيَّنتْ احتفاءاً بمقدمكِ , وسأسمّيكِ من الآن باسم التي أحبَّتني وأحبَبْتُها ثم استجابتْ بلا وداعٍ لنداء الأبد وباتت تتنفَّسُ في جسد قصائدي ,
سأسمّيكِ باسم الصروح المفقودة : الأملِ , الحرية , الأخلاص , وأقول : الرياحُ مِهما تبلَّدتْ ستجدُ ذاتَ يومٍ غيوماً فتهرعُ لحملِها مبتهجةً ,
والنجومُ مِهما ابتعدتْ عن ناظرينا نحن البَشَرَ ستظلُّ على مرأىً من الآلهةِ , وعلى مرأىً منكِ ,

أنفاسارتضينا، مجموعة الزملاء والأصدقاء القدامى، أن نلتقي دورياً، مساء الجمعتين الأولى والثالثة من كل شهر، في مقر نقابتنا .. إخترناه كنوع من التأكيد على زمالتنا القديمة والطويلة، كخريجين في ذات الكلية؛ ودام ذلك لسنوات .. نتوافد إلى مكان انعقاد اللقاء، في حديقة النقابة، صيفاً، وداخل إحدى قاعاتها، شــتاءً؛ لا نفاجأ بأن تتغيب وجوه، ما دامت تعود فتواظب على اللقاء في المرات القادمة؛ ولكن المفاجأة الحقيقية تكون عندما يطل علينا وجه غاب لسنوات طويلة، أو كان – منذ البداية – خارج مجال الحلقة؛ ولكنها مفاجآت قليلة. وبمرور الوقت، بدأ التململ يدب بيننا. استهلكنا كل ما يمكن أن نتكلم فيه عن قضايا المعاش وتدخلات الحكومة في انتخابات النقابات، وغيرها من قضايا الوطن. واكتشفنا أننا نكرر كلام الصحف وبرامج الإذاعة والفضائيات، محلية وغير محلية؛ ونبدو ونحن نتكلم كأننا نقول كلاماً مختلفاً؛ ولكن أي مدقق من خارج الحلقة يمكنه بسهولة أن يلاحظ أن كلاً منا يعيد إنتاج نفس الأفكار، بكلمات مختلفة أحياناً، وبنبرات صوت مغايرة، وبدرجات مختلفة من الانفعال. كما أنه بمستطاع أي مراقب لجلساتنا أن يلاحظ تتعدد ألوان توجهاتنا السياسية؛ وهذا أمر لا غرابة فيه، فأغلب رواد اللقاء من أجيال متقاربة، ولدت عند النكبة – 48 – ونشأت مع الثورة، ودخلت الجامعة في سنوات النكسة، ثم شاركت في حرب أكتوبر 73، وعايشت التحولات الدرامية لأحوال المجتمع في سنوات حكم السادات، وبينهم عدد كبير نجح في الإفلات من وطأة هذه التحولات، فسافر للخارج ليجمع المال (إن كان ذلك يعدُّ نجاحاً)، وبينهم أيضا من لم يجد الفرصة، أو رضى بالبقاء، مشتغلا بالعلم أو في الصناعة، وتحقيق درجات مختلفة من النجاح. وفي خلال ذلك، كان أمراً طبيعياً، من وجهة نظري أنا على الأقل، أن تحدث انقلابات في المواقف السياسية، وأن تتلون التوجهات التي كانت قد خرجت كلها من رحم واحد.