وقف قبالة مبنى المحكمة من بعيد. كانت الشمس تشتعل فوق الرؤوس، و كانت العمامة تحمي رأسه من شرورها. تملّى في الجموع البشرية التي لا تني تدخل و تخرج دون فتور. رغم أن معظم مباني المحاكم في الجمهورية تتشابه إلا أن هذا المبنى بدا له مختلفا؛ و هو القاضي السابق الذي جال في البلاد وصال.
لم يرتدِ زيًّا أفرنجيًّا، بل آثر أن يلبس الجلباب والعمامة والمركوب المصنوع من جلد النمر. أراد أن يوحي أنه ابن بلد للقاضي. بصفته قاضٍ سابق فهو يعلم بالحقائق الصغيرة، و الحقائق الضغير رغم أنها كثيرة، إلا أنها تبقى دائما مثيرة.
طيور المجذوب – قصة: حدريوي مصطفى
مقدمة:
تعود فاطمة بعد أربعة سنوات حيث تقاطر عرقها حبات، حبات، وتعالى غناؤها وماجت أناتها صدىً، وهي تذرع المسارب والرفقة تجني حلو الثمرات، فرولة كالدم قانية، وحلوة كالشهد مذاقا، تداري الضنك وراء بسماتها الشاحبة، وتقوّم صبرها الواهن بحمدلاتها المتواصلة؛ وتقف على حدود عرزال متهالك، تتأمل الأرض الجرداء المنبسطة أمامها، ثم تغمغم:
ـ من كان يساوره أن هذه الضيعة تصير خالية على عروشها، وكأن لا ماء جرى فوقها، ولا يد قطفت ثمارها، ولا كان لها مجد وخبر.؟!
في اللحظة ذاتها تقف (مرسديس) بيضاء، يترجل راكبها ، ويقف قرب فاطمة، ثم يبادرها يالسؤال:
ـ أما زلت تحنين لتلك الأيام الخوالي، يا فاطمة، ليتها تعود ونبدأ من جديد، وأكون... أفضل مما كنت عليه...آه... مني آه..!
تلوذ بالصمت، وكأنها ما سمعت، بل وكأن الحاضر لا وجود له...!
طيف ابتسامة...! – قصة: محمد ايت علو
الساحةُ جرداءَ محفرة، والتَّضاريسُ منبسطة والهضاب والتِّلالُ تغيرت بشكلٍ مفاجئٍ فأصبحت حادة ومدببة، وأكوامٌ من الأتربةِ تمترسَتْ في كلِّ مكانٍ، كروابي فوقها طفيليات وأشواك وبقايا قُمامة ظهرَت على حينِ غرَّةٍ كحاجزٍ رماديٍّ خَلْفَ الأبنيةِ المشَكِّلَةِ لأحزمةٍ حمراءَ تبدُو متراميةَ الأطرافِ هُناكَ...
وسطَ السَّاحةِ قُبالةَ السُّوقِ جلَس "لْعَرْبي" القُرفُصاءَ واضعاً حصيرةً بلاستيكية وعليها بضعةُ ملاعقَ وفُرشاة أسنانٍ وساعة يدوية بالية، قناديل، وعملات ورقية قديمة، ونقود وميداليات وأطباق فضية، وقفلا بدون مفاتيح، وأنابيب مكسرة، وقطع نقدية قديمة، وبعضُ العقيقِ، وصور ألبومات، وطنجرة سوداء، وتماثيل برونزية وفضية، وأخرى متوسطة الحجْمِ مذَهَّبَةَ اللَّونِ، وأقراص مدمجة باهتة، ولوحات، ودمية صلعاء شاحبة بلا أعين، وبعض المجلات وصور إعلانات فقدت ألوانها من أثَرِ الغُبارِ وحرارةِ الشَّمسِ....
زنزانة لا تضيء – نص: محمد ايت علو
هناك أنا آخر بداخله، أنا هذا يشده حتى كأنَّهُ لا يستطيعُ التنفس، يجرُّهُ إليه، يسحبه إلى الداخلِ، إلى أعماقه بقوة وبلا هوادة، صرخ بكل قواه، فردَّ عليه الصَّدى القابعُ وراءه...
تغوص أناه، تسحب أظافرها التي كانت قد غرَسَتْها حول رقبتهِ حتى كادت تزهق روحه...صارت تنظر إليه شزرى من داخلِ عينيهِ الجاحظتين، ولم يكنْ ليرَى وهو داخل في أعماقه...!! وبكثيرٍ من الريبةِ والهذَيان يتساءلُ: لم هذا البناء الشامخ بدون باب أو فتحة؟ وكيف وجدت هنا؟ كأنَّه عالمٌ بلا منفذ، احتجز فيه وأحاطه من كل جانب، استرجع ما شهدته جدرانُ زِنزانَتِه من خربشات وخطوط ظل يرسمها دهراً طويلا، يُفْرِغُ فيها ضَمارَهُ الداخلي، وينفثُ فيها آهاتِه المحمومة، أما نوره الباهرُ الذي يمحو ويبدِّدُ الظَّلامَ فكان من الأعلى....
مناجاة - قصة: أحمد العكيدي
يلاطفها ويهمس لها بكلمات، تهرب منه ويركض نحوها، يناديه أحدهم؛ فيمتنع. يصعدان منحدرات الحديقة سويا ثم يتزحلقان سويا، يتبادلان الكرة والنظرات، يزعجهما أحد الشباب بدعوى مشاركتهم اللعب؛ فينصرفان عنه ويتركان له الكرة وأشياء أخرى.
من بعيد أتأمل حركاتهما وأراقب تصرفاتهما وأتساءل كيف لهما أن ينجذبا إلى بعضهما في أول لقاء، في محطة الاستراحة هذه، في مدينة أعلم أنها أول مرة تمر حولها؟
لعلها الأوهام يا سيدي ليس إلا؟ ابنتك ما زالت صغيرة، وما تلك الحرارة المنبثقة من جسديهما سوى هلوسة رشحت من ماضيك البعيد، هما يلعبان فقط لم تنفرد به وهو لم يفعل.. فقط هي الذكرى لم تنفك تتجسد أمامك في كل لحظة سعادة لتحولها إلى بؤس وشقاء...
أصفر،أحمر،أزرق – قصة: ميمون حرش
يفتح باب سيارتي، يجلس إلى جانبي بكبرياء شهي، أَنطلقُ بسرعة، تمر لحظات دون كلام، أنسى أنّ أحداً معي ،أنظر في مرآة سيارتي،ورائي سيارة مُحاذية،لستُ أدري لماذا بدت لي بدون سائق(تهيؤاتي التي لا تنتهي حين أتعب في عملي)،هو ينشغل بالبحث عن موسيقاه المفضلة من هاتفه، يستقر على أغنية أمازيغية لـِ خالد "إيزري"، تكسر الصمت المخيم ،تنداح من حولنا "رالابويا"، راح يدندن معها؛أغنية جميلة،لكن صوته نشاز..عكرها تَماماً.
تكلمتُ أخيراً : "ماهي أخبار ميمونت "
يصحح لي " ثميمونت .. كم مرة أنبهك..."
(قال أنبهك، وليس أصحح لك.)
الغريب - قصة : الحسين لحفاوي
على ضوء ضئيل منبعث من فانوس متشبث بالجدار لم يفارقه منذ عُلِّق عليه، انكبت سارة على الرسالة التي وصلتها هذا المساء تقرؤها وتعيد قراءتها، تتوه بين حروفها وكلماتها، تتنكب المعاني وتلهث وراء الرموز المبثوثة فيها، تحاول جاهدة فك الطلسم الذي خطه المداد على بياض الورقة. لم تجد صعوبة في القراءة والفهم، فقد تعلمت أن تقرأ الرسائل منذ زمن رغم أنها لم تذهب يوما إلى المدرسة ولم تتلق تعليما، لكنها تعلمت، وهذا القدر من التعلم يكفيها ويحقق لها متعة الاطلاع على الرسائل التي تصلها.
نداء من المدافن - قصة : أحمد العكيدي
وأنا بين الألحاد، أتنقل بين واحد وعشرين ميتا، ربما ازدادوا أكثر أو لم يعد منهم أحد.. أشكو لهم قلة حيلتي وهموما أثقلتني وأخرى كادت تقتلني...
من تحت التراب، صوت يجرح سكون الليل ويقتل نور القمر:
أخرجوني من عتمة البئر...
نظرت حولي وتفقدت كل الثقوب وجميع الجحور؛ فوجدتها خالية إلا من نسمات ليلية تنثر أوراق الخريف فوق الأحجار وعلى رؤوس أهل القبور.
عدت إلى تأملاتي وفكرت بحال المدافن:
لعلها تستجدي التفاتة. حدثت نفسي.