anfasse.orgفي مدينة الخليل، ليس بعيدا عن الحرم الإبراهيمي.. بينما كان عبد الرحيم الفلاح الشاب البسيط واقفا قرب نافذة غرفة المعيشة،المطلة على حديقة منزله الموروث عن أبيه.. يحاول بأنف متأهب استنشاق أكبر قدر ممكن من رائحة ورود القرنفل الفائحة بإغراء شهي، وقد كانت تتدفق بعذوبة باذخة عبر النافذة المفتوحة على آخرها كفم إنسان يتثاءب في كسل هادئ وديع.. مدّ عبد الرحيم رقبته كما الإوزة، وأخرج رأسه بكاملها ودلاها إلى أسفل تحت شمس ساخطة كانت تنظر إليه بغضب جامح، وتحط أشعتها بعصبية على شعر ناعم ناصع السواد وقصير، وبقسوة أخذت تنقر أذنيه وصفعت قفاه الرفيع الخمري. ثم بدأ بشغف يقرب أرنبة أنفه العريض من ورود تحملها فروع تطاولت أغصانها بإسهاب، ليشم بنهم أكبر عبيرها الغزير المنساب في سطوع يدغدغ الخياشيم.. مستحوذا على معظم الرائحة، باذلا أقصى جهده لئلا يفلت شذاها ويبتعد عن طاقتي أنفه الواسعتين.. وترك جسده مقوسا في الداخل.
وظل عبد الرحيم في وضعه هذا يشم ويستنشق حتى هدر أنفه وفرقع بعطسة شديدة طيرت الحمام عن أغصان شجرة الأكاسيا المنتصبة في آخر أطراف الحديقة. وقبل أن ينتهي من حمده لله لأن روحه لم تطلع، ولم يقف قلبه مع قوة عطسته الشديدة المدوية.. لحظتها سمع صراخ ابنته الصغيرة وقد أفزعتها الفرقعة.. والتفت عبد الرحيم وهو يمسح أنفه بمنديل كرمشه في جيبه، فرأى زوجته تهب لتلتقط صغيرتها وتسحبها من تحت الطبلية، حيث اعتادت أن تحشر جسدها الطري لاهية عن الدنيا ومن فيها.. واحتضنتها، وطبطبت عليها.. ومع هذا دشن فمها أول ابتسامة مكتملة التكوين تألقت في شفتيها منذ الأمس.. وبان نابها الناصع البياض النافر عن بقية الأسنان.. واستمرت تهدهد وتطبطب حتى هدأتها.. فسكتت.. وعادت الدنيا إلى سجاها.

anfasse.orgللماضي نفحات رخوة تتجمع في ليالي التأمل، فتبدو كجراح مستعذبة، أو كسهام من ورود تدوس القلب فتنعش روحه إنعاش النسيم  للزهور الأقحوانية البيضاء.
وشيئا فشيئا يسيح الماضي في محيط الكلمات القاتمة . التي تغادر الأفواه بأناة ودلال ، لتلامس قطيرات المطر المتداخلة – بداهة – مع هدوء الزمان والمكان ، والمحدثة طقطقات تلاعب الفؤاد : فقطرة تحيل على ماض بئيس ، وقطرة تلي فتحمل في جوفها حاضرا مضطربا لعوبا ، وتعقب ذا وذاك قطيرة مطرية ينقبض لها القلب الجاثي تحت شعاع القمر .
وفي هذا الليل المنساب ، وعلى مرأى من النجيمات الرقراقة ، ومن تحت الأرض الرطبة من جراء منسوب المياه ، تتمرد يد على قرارة الأغوار ، وتخترق نمطية الانبساط ، فتبدو وكأنها يد ميت ترتفع تأوها من آلام العذاب في العالم الآخر ، أو دعوة للأحباب أن سارعوا إلى نعيم الخلود السرمدي.
وتبدو اليد ل"أمل" من بعيد ، وكأنها يد الحقيقة تتجبر على أرض الباطل . كيد النور المنسي تذكر الناس أنهم يستنيرون بالعتمة منذ زمن طويل...
كانت راحة اليد الجبارة تتسع ، و تتفرق الأصابع بسرعة ثم تعود للانقباض ، كأنها تتماوج طربا بسمفونية صاخبة ، تنطلق من تحت أقدام صاحب اليد. هذا إذا كان مخلوقا يفترض أن تكون له أقدام.

anfasse.orgײַ في هذه المدن الصغيرة يخاف الإنسان شيئين:الملل و الرقابة ײַ
حيدر حيدر
لم يكن هناك هاجس محدد يفرض علي نفسه ساعة ولوجي مقهى أم الربيع في تلك العشية التائهة.
فقط كنت أريد تخفيف بعض من قلقي و نسيان ما بي من ضيق. بالمقهى لوحات بشرية دائمة التعليق تثير فضول البصر، تؤثث لذاكرة، تحتضن ثلة معكوفة على الدوام على لعب الورق. تتعالى أصواتهم مهللة بالاحتجاج، ضجيجهم السرمدي يفتض بكارة الفضاء. دائما كانت تأسرني هذه الجغرافيا السفلى، أحس بأشياء من الأعماق تطفو على السطح، أحمل مآسيها و أحزان أعماقي الجارحة.
في البدء عندما طوح بي في هذه المدينة ، كان الحلم بعالم حميمي، بنبض جماعي يحتضن الصراخ العنيف للذات، بأيادي دافئة متشابكة على خاصرة الغد. كنت أحلم بفضاء تمتد أبعاده داخل القلوب يمارس أحلامه علانية في فضاء داخلي مكشوف مع بشر من نفس الكوكب الوجداني.

anfasse.orgليس عندي ما أخفيهِ
ما أنا إلاّ فضيحةٌ مُتوارثةٌ
ولن تنفع حوّاءَ أو آدم ورقةُ توتٍ
حتى ولا غابةُ توت !
---------
كان مستغرقاً في الإصغاء لموسيقىً شرقية تراثية يتصادح فيها العود والطبلة عندما دخل شقته المُطلِّةَ على نهر دجلة الذابل الآمل ! صديقُهُ القديم الذي يسكن معه منذ إسبوع بعد أن قام بزيارة لبغداد مدينتهِ لأول مرة منذ ما يقرب من ثلاثة عقودٍ قادماً من منفاه البارد , واليوم يدخل شقة صديقه راجعاً من زحام بغداد وحزن شوارعها وهو يتأفف ثم جلس قبالته وفيما كان صديقُهُ الموظف العاطل منذ شهور يسكب من زجاجة العَرَق القوي على مهلٍ في كأسه وكان الوقت مساءً , سمع صاحبَهُ النحَّاتَ يقول : حقيقة أعجبُ من لامبالاتك وقدرتك على الإحتمال فها أنت سادرٌ في نعناعياتك وتتفاوحُ كحديقة !
فردَّ الموظف بانكسارٍ : تمنيتك الآن أن تطرق أبواب قلبي فلن يستقبلك بابتسامةٍ إلاّ الجروح ! ولكن ما جدوى أن أشكو ؟

anfasse.orgها هو القمر يطل بوجهه النحاسي من خلف الجبال الداكنات. قرص كبير يشق السماء بسلاسة ليعتلي كبدها. لا غيم يعكر صفوه الليلة. سيضيء ويضيء حتى آخر رمق في ليلته هذه.
صوت إغلاق باب حديدي يصدر من مكان قريب. إنه "وسام" خرج من منزله ليستنشق هواء هذه الليلة القمرية المنعش، وليخفف شيئا من ثقل الحرارة على جسمه. إنه فصل الصيف، فصل الحرارة والبعوض الفاقد للحياء، والذباب الذي ينام ليستعد ليوم جديد من الشغب والمغامرات مع الأواني المتسخة ببقايا الطعام، وزجاج النوافذ، وفخاخ العناكب المثبتة في زوايا المنزل.
خطوات حثيثة على الرصيف تصاحبها فرقعة الأصابع كعادة "وسام"؛ فهو يحب أن يمشي ببطء كي يستمتع بمحيا السماء تعلوه حبيبات النجوم اللامعة ويتوسطه القمر الساطع. وما فرقعة الأصابع سوى عادة لا تفارق " وسام" فحسب. سار هذا الأخير في خط مستقيم إلى أن بلغ جدار حديقة لمنزل كان يسكنه أحد أصدقائه القدامى أيام الدراسة، إلا أنه الآن غير مأهول، ومالكه وضعه تحت رحمة البيع.
أسند ظهره للجدار متكأ رافعا رأسه قبالة السماء، قائلا للقمر « طاب ليلك يا قمر ». هذا الأخير قد تقلص حجمه في مشواره كي يتوسط قبة السماء. كأنه كان في حمية لينقص وزنه. ومن يدري.. ربما كان يود أن يكون وسيما وهو وسط السماء. محياه لم يعد نحاسيا كما كان. لقد صار ذا لون فضي مشع. أكان القمر يضع مساحيق وأقنعة كي تكتمل وسامته ! ؟ لا أظن.. فالقمر صريح مع عشاقه..

anfasse.orgالطقس بارد يبعث على القلق والقرف ولا زال منير يسير في دروب خافتة الضوء بخطى متهادية يتهدده السقوط في كل حين.دماغه مشلول بفعل الجوع وتأثير مخدر"السيلسيون" القوي.في طريقه يتراءى له المارة كالذباب.على عينيه غشاوة جعلته غير قادر على التمييز بين البشر والذباب.وما كان أحد لينتبه إليه لأنهم جميعا ألفوه في تلك الحالة منذ زمن ليس بالقصير لذلك لم يستطع وهو ثمل منهار أن يميز بدقة بين أحاسيسه،فمعدته تكاد تتقلص وأنفه يسيل ورجلاه المقوستان جعلتاه يبدو كغراب أراد أن يقلد مشي الحمام.
منير يشعر بالجوع،بالإنهيار،بالغثيان، لكنه لازال ماضيا في طريقه يقاوم انقراضه ليشهد على سفالتنا وضعتنا،يسير دون هدف.لعنة الجوع جعلته يفكر في استجداء صاحب الدكان  الملتحي المنكمش كالقنفد في جلباب صوفي،كان منهمكا يراجع الفواتير لما وقف منير أمام واجهة دكانه وطلب منه خبزا.على الفور أجابه في كلمتين بأن الخبز قد نفد،لكن منير بقي متسمرا في مكانه أمام الواجهة كأنه تمثال محارب قديم،أخذ نفسا من الخرقة المبللة بالسيلسيون ثم عاد ليطلب من البقال درهما ليشتري شيئا يأكله وعندها ثار عليه البقال ولعن أمه ثم نط إليه يدفعه باحتقار....وتابع منيره طريقه،إلى اللامكان
....

anfasse.orgإلى حبيبتي المهاجرة صوب عدمي :
  سأحرص دون إضاعة السطور على الديباجة إذ لم يتبق للجمال مساحة بعد أن ساقتكِ رياح الهجرة المنبعثة من فصول الكراهية المتعاقبة إلى مصير الغربة، وأنا هنا أحترق وأتحول إلى رماد في كل سطر أخطـّه عن إضاءات شوقي للقائنا المكتوب في سفرينا منذ الأزل رغم أنهم منعوا عنا فرصة التهيؤ لهذا اللقاء..
  حبيبتي ... أيتها الحبيبة السريّة - وقد خبأت هويتك تحت قميصي في مكان مقدس لا يجوز خرق حرمته- هل سأنال فرصة الثأر لحظي؟ ينتحب قلبي إذا جن الليل فأغرق في تأملاتي، أدور باحثاً عنكِ بين النـُصب الباقية لرموز بلادي، أشعر بجثمان جسدي قد سيق بمراسيم جنائزية بعد أن عارض بصرامة مغادرة البلاد، يأبى أن يتلقى التعازي رافضاً توشيحه بالأكاليل، تتقدم بي خطى الأعوام متخلفاً عن عصري، لكنني ما زلت حياً، أو هكذا يبدو لي وأنا شاهد على تنفيذ ما تقرفه روحي ويشعرني بالغثيان من تطبيق للعدالة لغايات ذات نوايا مبيتة غير عادلة.
  أقف أمام نصب الحرية وأحسبه شرفة الحبيبة، أعزف كماني المنفرد هناك وموسيقاه هي الصديق الخفي الذي يؤنس وحدتي.
  تمتم بمرارة نحّات الجدارية الحالم: قد أبدلوا هيئتي من نصب مهيب إلى ورق مقوى تقطعه المطاوي العمياء.

anfasse.orgالمطر..وحده المطر ,  لاشيء غيره...لازلت حتى الآن اعشق هذا الساقط من السماء.رغم انه لم يعد يبعث الرائحة التي كنت اشتمها فيه .  كلما سقط مطر المدينة يأتي موحلا .كأحلامنا المتعبة ...
كأن السماء تبكي وحدتي وتحدث صمتي .أضواء الشوارع المعتمة تحاول كسر هذا الليل الجاثم على الصدور ..وكنت أرقب عجزها .. 
كنت كما كنت تعرفين أحرق الليل بسجائري المتسابقة إلى شفتي  ..المتسابق دخانها إلى صدري .لأتعلم لعبة القتل .
 طعم اليتم من الذات أكل أفراحنا ..الوقت هو الوحيد الذي استطيع قتله ..حتى هذه الكتابة تحولت مع الأيام وسيلة لقتل الوقت ولاشيء أكثر.
أيها الليل المتقارب على الانتهاء تمدد.. ففي صدري وقت لم تغشه..تمدد لأفك لغز القول, أمسك سري ,أكتشف ذاتي أتملى وجهي قليلا وجهتي المقبلة
كأن السماء تبكي , أذكر الرمل الذي طوق الخطى .وبقى غصة القدم المتعبة ..أذكر الرمل والمطر ..كان للمطر رائحة الكبريت ..كنت أجري خلف أسراب السنونوات .التي تمضي بخيوطنا المعطرة إلى الجنة , هي تحجز لنا مكانا في الجنة ..هكذا تقول أمي .. - هكذا كنت أقول –
كان للمطر رائحة سرقتها المدينة من أنفي ..المدينة عجزت عن سرقة سمرتي..لكنها غيرتني حين تكشفت أمامي , غلقت الأبواب ,  قميصي لم يقد من دبر فقط قلبي قد من كل الجهات......