تتسم رواية " الساعاتي " للكاتب المغربي حسن إمامي بوفرة الشخوص ( أكثر من 50 شخصا) ، وإن تفاوت حضورهم داخل نسيج الرواية حسب قيمة ما أوكل لهم من مهام وأدوار في ارتباطها بأحداث لا تقل هي الأخرى غزارة ، وما عرفته من تداخل وتشابك أغنت به المتن السردي ، وشرعته على آفاق تزخر بحمولات ذات طابع تأويلي علقت مآلاته على أفق انتظار تغذى من امتدادات سيرورتها في تفاعلاتها وتقاطعاتها وتناقضاتها وتوافقاتها.
وتبقى شخوص من قبيل الساعاتي علي بودحان ، ولطف الله ، وصديقه عبدالله ابن الساعاتي ، وحياة النفوس ، وعمر بدوي ، ومفتش الشرطة عزيز ، وماريا ، ورشيد الأمراني المحامي ، وصالح الطباخ ، وإلى حد ما فريد شقيق حياة النفوس بحكم أنها شخصيات أمسكت بخيوط النسيج الروائي ، وساهمت في بناء الأحداث ونموها ،وما عرفته من متغيرات ومستجدات تأرجحت بين الثبات والتحول، والسكون والانزياح في ارتباطها بأمكنة تميزت هي الأخرى بالوفرة ( فاقت 20 مكانا) ، وإن كان لبعضها قيمة أكبر من حيث مجريات الأحداث كمحطات احتضنت وقائع مؤثرة مثل حي المحيط ، وأكدال، وحي الرياض ، وحي حسان ، وأخرى خارجية بحضور أقل تأثيرا ( ميلان وصقيلية بإيطاليا ، وفارو البرتغالية) . وقد منح هذا الكم الوازن من الشخوص والأمكنة الرواية نفسا انزاح بها نحو الطول والامتداد عبر الخوض في تفاصيل وجزئيات بشكل يتخذ منحى استطراديا لا يخلو من إطناب وإسهاب لم ينل من البناء العام للرواية لما يميزه من إحكام ومتانة تجنبه مغبة السقوط في نواقص وهنات من قبيل التفكك والتهلهل.
وسنحاول التركيزعلى " تيمات" محددة داخل المنجز الروائي لإضاءة بعض جوانبها ، وكشف جزء من مكوناتها السردية وما تزخر به من جمالية وعمق إبداعي ودلالي.
ومن " التيمات" البارزة التفاوت الذي كرس فروقات سافرة بين الشخوص ، تعمقت مع سيرورة الوقائع ، وتوالي الأحداث : ( عبد الله بودحان أصبح مدير مشاريع يمتلك مكتبه الخاص. يسافر كل مرة إلى بلد جديد مرة للسياحة ومرة للعمل ) 63، فعبد الله بودحان صديق لطف الله استفاد من وضع والده المادي، وارتقى بمستواه الاجتماعي لمرتبة أفضل لما تلقاه من تكوين بفرنسا ساعده على تسيير مشاريعه الاستثمارية ، عكس لطف الله المنتمي لوسط فقير لم تسعفه شهادته الجامعية للحصول على وظيفة مما زج به في دوامة من الإحباط واليأس: ( تختلف الشخصيات مثلما تختلف المسارات المقدرة لهما . لطف الله ما زال يناضل من أجل وظيفة ... عبد الله يصارع قدرا راكب فيه عقدا وخالف فيه مراده وقيمته) 78 ، تفاوت كانت له العديد من التجليات والتمظهرات مثل عشق لطف الله للموسيقى الغربية خلاف معشوقته حياة النفوس التي تهوى الموسيقى الشرقية : ( كانت محبة للموسيقى الشرقية في حضرته ، وأنه كان ميالا للموسيقى الغربية) 100 ، وما يفتأ هذا التفاوت أن يأخذ منحى تحول مع توالي الأحداث ، وما نجم عنه من تغير في المواقف والمآلات : ( عبد الله الذي بدت عليه ثقافة استهلاك ونمط عيش خارج عن مألوف العائلة ) 131، بل تمادى في تجاوزاته بتمرده على أعراف العائلة والعشيرة مؤسسا قناعة شخصية في اختيار شريكة حياته، متى قرر ذلك، خارج نطاق العشيرة كتقليد أصيل ومتجذر في منظومتهم الأسرية ، وإن كان قد انغمس في مغامرات جنسية متعددة حادت به عن الانصياع لمؤسسة الزواج. نفس التحول نلمسه لدى حياة النفوس التي ارتفع منسوب طموحها ، وسما سقف غاياتها في علاقتها بعمر بدوي رجل الأعمال النافذ ، وإن ظلت علاقتها به موسومة بالغموض في شقها العاطفي ، إلا أنها حققت طفرة نوعية بوأتها وضعا اجتماعيا فاق حجم أحلامها وأمانيها: (حياة النفوس التي أصبحت المديرة المباشرة لأعمال السيد عمر بدوي) 179. وتشكل "تيمة" الدين موضوعا أساسيا في الرواية لما يتضمنه من نزعات قيمية وروحية تتوزع بين ماهو شعائري :(وما الذي تبقى لهم من بعد أداء صلاة الفجر وقراءة ما تيسر من القرآن الكريم؟) 27 ، وما هو روحاني جواني : ( ترجعه مناجاة ربه إلى وعيه وواقعيته) 58. وازع خلقي مشبع بقوة الإيمان بمبادئ الدين وتعليماته يحصن صاحبه من غواية الجشع ، وإغراءاته كما هو حال الساعاتي علي بودحان الذي لم ينسق لتشجيع سماسرة العقار من خيانة الأمانة استجابة لنداء الدين بضوابطه الروحية والأخلاقية : (لم يخل وعيه من توجيه ديني ، وهم الملازم لأوقات الصلاة ولدروس المسجد وخطبة الجمعة)56 ، مما لم يتزعزع معه ثباته أمام سلطة الإغراءات وغواياتها : ( كل الملايين التي عرضت علي إغراء أو رشوة أو دعوة للتزوير وخيانة الأمانة ، كلها لم تنجح في جعلي أتنازل عن مبدئي وأمانتي وعهدي) 58،فالترية الدينية التي نشأ عليها بمنطقة سوس قوت حسه الأخلاقي ، وقومت سلوكه نائية به عن مزالق الموبقات مما حذا به ، بعد انتهاء عملية البحث في الاعتداء الذي تعرض له عمر بدوي بدكانه ، إلى اتخاذ قرار القيام بعمرة تماشيا مع قناعاته الدينية الراسخة : (بعد توقف البحث في هذه القضية ، اختار السيد علي بودحان ، بعد حادث الدكان والمبرد الدموي الذي كاد يودي بحياة عمر بدوي، أن يذهب في رحلة إلى الديار المقدسة ، هو وزوجته) 161، فإلى جانب موضوع الدين تتضمن الرواية التاريخ ك " تيمة" تغني المتن السردي ، وتوسع آفاقه ، وتنوع مواده : ( وإذا كانت مدينة الرباط حصنا مشهورا منذ القرن الثاني عشر الميلادي من طرف الموحدين) 13 ، حقائق تاريخية توثق لأحداث حاضرة كانت مسرحا لوقائع الرواية ارتباطا بمعالمها الحضارية والعمرانية : ( ذلك البرج الموجود أسفل المحيط قبالة البحر والذي بني في عهد الحسن الأول نهاية القرن التاسع عشر) 14، دون إغفال صومعة حسان كمعلمة حضارية باذخة تشكل أثالتها وشموخها علامة مضيئة لإشعاع حضاري راسخ وأصيل : ( الذي يخلد لمعلمة صومعة حسان . فمنذ 1196حيث أعطي القرار ببنائها ) 137. ورغم ما طبع الرواية من ميل إلى الطول والرحابة على مستوى النفس السردي ، وزخم الأحداث والوقائع في تشعباتها وامتداداتها وتعدد شخوصها وفضاءاتها فإنها لم تخل من سمات حدت من هيمنة خطية السرد بلجوء السارد إلى كشف جوانب خفية في طبيعة الشخوص كانزياح عن سيرورة وقائع الحكي مثل عشق عمر بدوي للفن رغم كثرة مشاغله العملية ، والتزاماته الاستثمارية: ( هو الذي أحب الشعر في بعض المناسبات القليلة فيما مضى ، وأحب الرسم في أخرى ، وأحب الساعات الكبيرة والتحف النادرة دائما) 8، أو شخص طباخ الجنرال صالح بنحدو الحاصل على الإجازة في اللغة الإنجليزية : ( بدايتي كانت جامعية . حصلت على الإجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها ) 197،ورغم تحوله إلى طباخ للجنرال وعنصر من شبكة المخابرات لم يتخلص من غواية الأدب وهوسه : ( بالتقدير والاعتبار للكلام الذي سمعه من السيد صالح ، والملقب بطباخ الجنرال . ربما لأول منذ لقائهم الثلاثي أخذ يشعر بأنه يجالس الإنسان والمثقف والمبدع والمرهف) 20، أو ما يخترق خطاب لطف الله مع حياة النفوس من نفحات رومانسية حالمة في بوحه العاطفي المترع عشقا وصبابة : ( أنا حالم بالنظر في عينيك ، أسافر داخلهما فيحملاني كزورق فوق هذا المحيط الذي يقابلنا. أجدف برمش جفنيك وشفراتك، أقاوم تصاعد أمواج تنفسك وآهاتك . ألا يكفيني هذا في أن أكون أكبر الحالمين؟) 21ــ 22 ، ورغم استيفاء الرواية لأهم عناصر العمل السردي من حوار ، و" مونولوغ" ، واسترجاع ، واستباق...يبقى للحدث ، في تقاطعه وتصالبه ، مع الشخوص هيمنة ملفتة داخل نسيجها ، بحيث أن أول مشهد يطالعنا في مستهل الرواية والمتمثل في محاولة قتل عمر بدوي داخل دكان علي بودحان الساعاتي وما أحاط به من ملابسات وتأويلات ساهمت في طرح الحدث بسلطته المحورية في استقطابه وتفاعله مع باقي مكونات الحكي ، وانفتاحه على وقائع خارجية بات معها أكثر تشعبا وامتدادا في تعالقه مع " مافيات" أجنبية بسلطات مالية وعلاقات أخطبوطية يصعب الإمساك بخيوطها ، وفك شفرة شبكة علاقاتها المتداخلة والمتشابكة ، حدث يزداد اتساعا وتشعبا مع أشخاص أجانب يمتلكون سلطة النفوذ والمال ، ومغاربة ينحدر جلهم من أوساط اجتماعية دنيا باستثناء ماريا التي تنتمي لطبقة متوسطة (والدها مدير شركة ، وأمها صيدلانية ) ، سعوا لتغيير أوضاعهم عبر مسلكيات زجت بهم في نفق قيمي متردي بشغل مهام داخل شبكة مخابرات ، وإن اختلفت نزعاتهم وطموحاتهم بين تحسين الظروف الاجتماعية ( حياة النفوس ، لطف الله ، عمر بدوي ، وإلى حد ما صالح الطباخ) ، ومسعى يشوبه الغموض والالتباس المشروط بحس وجداني وذهني فضفاض ( ماريا التي مرت بتجربة زواج فاشلة). ويبقى علي بودحان الشخصية الوحيدة التي ظلت ثابتة على موقفها متمسكة بالوازع الديني في ثوابته السلوكية والأخلاقية عكس باقي الشخصيات كلطف الله الباحث عن دخل من عمل يضمن له عيشا كريما مما ورطه في إحياء علاقته مع حياة النفوس التي أغرته ماديا لمساندتها فيما مرت به من ظروف شائكة ومعقدة لينخرط بعدها بإيعاز من ماريا في شبكة مخابرات ، ومساره العاطفي المتذبذب بين تجربته الأولى مع حياة النفوس وما وسمها من نكوص وجفاء ، والتي عاد للتفكير عاطفيا في تجديدها، وتجربته مع ماريا التي ، رغم فيضها الوجداني ، خبا إشعاعها ، وخمدت جذوة توهجها.
وقد شكل موضوع الساعة ، في خضم وقائع متشعبة ومتباينة، " التيمة" الأبرز في تعالقها بشخصية الساعاتي علي بودحان ، ولطف الله الطفل الذي دأب على تفكيك مكوناتها وإعادة تركيبها بشغف عارم ، وعشق جارف، وعمر بدوي الذي خاتلت حسه وعقله ، وأحيت فيه عشقا ثاويا في ذاكرته ووجدانه كجزء من تحف نادرة تستأثر باهتماماته إلى جانب الشعروالرسم .
رواية " الساعاتي " ببنائها الفني ، وتركيبتها السردية القائمة على العمق والغنى والتشعب تستدعي مقاربات متعددة لاستجلاء خفاياها الإبداعية ، والإحاطة بمقوماتها الدلالية والجمالية ونأمل أن تكون هذه القراءة المتواضعة قد حققت بعض ذلك.
عبد النبي بزاز
ــ الكتاب : الساعاتي ( رواية )
ــ الكاتب : حسن إمامي
ــ مطبعة بلال / فاس 2020