أنفاسالسكين لا القلم هو ما يكتب به محمد الماغوط أعماله، سواء كانت تلك قصائد أو مقالات أو مسرحيات، وهو يعمل القلم في ذلك الجزء الذي يبدو سليما من الجسد وينكأ الجراح المنتشرة فيه حتى لا تكون هناك راحة واسترخاء، وحتى لا تكون هناك طمأنينة إلى أن الجسد سليم معافى، فالجسد ليس سليما، بل مريض مثخن بالجراح من الرأس حتى أخمص القدم، والتغافل عن هذه الحقيقة يعني مزيدا من الجراح ومزيدا من الخراب.
السكين التي يكتب بها الماغوط هي سكين السخرية الجارحة القاتمة القاتلة المقطعة للأوصال، والجسد هو جسد المواطن العربي - بالمعنى الحرفي للكلمة - الذي أنهكته سياط الجلادين قبل أن ينهكه بؤس الحياة نفسها، والذي عانى من خيانات الأصدقاء أكثر مما عانى من طعنات الخصوم وهزمته الزنازين والأقبية قبل أن يهزمه الأعداء فتحول من "إنسان" يبحث عن مستقبل مشرق في وطنه الحر السعيد إلى "حطام إنسان" يبحث في حاويات القمامة عما يسد به رمقه.
وهذا البؤس وتلك القتامة ليست وليدة أخطاء هنا أوهناك، كما أنها ليست أخطاء في تطبيق نظريات التقدم السياسي والعدالة الاجتماعية حدثت في هذا البلد أو ذاك، بل هي وليدة خلل في المجتمعات العربية تراكم عبر تاريخ دموي مليء بالقمع والاضطهاد وتجريد الإنسان من آدميته، يتساوى في ذلك الحاضر مع التاريخ الحديث والقديم، والأمجاد التي يكثر الحديث عنها، هي مجرد قصائد تلقى وأناشيد ترتل وأغاني تؤدى، وهي في واقع الأمر نقيض الواقع والتاريخ معا، وما يزيد الأمر قتامة أن الذين يحاولون أن يغيروا هذا الواقع عادة ما يكونون حالمين أو انتهازيين، وإن نجحوا في إحراز نصر ما فإن هذا النصر محكوم بالوقوع في أيدي مجموعة من اللصوص وسارقي النصر والثورات والفرح.
في مسرحيات الماغوط يجد المتفرج نفسه وجها لوجه أمام التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا، وهي عديدة فهناك التناقضات بين طبقات المجتمع وفئاته؛ تناقضات الحاكم والمحكوم، الضحية والجلاد الثري والمسحوق المثقف والجاهل المناضل والانتهازي الثائر وسارق الثورة، وهناك تناقضات المجتمع مع قيمه؛ تناقضات بين الإنشاء الذي يملأ حياتنا عن واقعنا الزاهي وحياتنا الرضية ومجتمعنا المتكافل، وبين واقعنا الحقيقي الذي ينتشر فيه الفقر والجهل والظلم والاضطهاد ويسود التآمر وتكثر الوشايات والدسائس. تناقضات بين الإنشاء الفارغ الذي يتحدث عن المواطن باعتباره القيمة العليا في المجتمع وبين الحقيقة المرة التي ترى في المواطن عبئا ثقيلا يجب التخلص منه بالسجن (ضيعة تشرين)، أو بإقصائه خارج البلاد في غربة أكثر إذلالا من البقاء على أرض الوطن (غربة).

أنفاس"أبو سلمى".. هو عبد الكريم سعيد علي المنصور الكرمي. وإذا كانت كنية "الكرمي" تنسبه إلى بلدته الفلسطينية طولكرم التي أنجبته ذات يوم صيفي من عام 1909، فإن مدينة حيفا كانت حبه الأثير. فهو محاميها الشهير، وشاعرها الوفي. وتقتضي الأمانة الموضوعية أن نشير إلى أنه اختار لحيفا ضرّة عربية هي دمشق. فقد درس فيها المرحلة الثانوية. ثم لجأ من حيفا إليها بعد نكبة 1948، وعلى كثرة أسفاره في الدنيا شاعراً ومعرّفاً بالقضية الفلسطينية، فإنه لم يغير عنوانه الدمشقي، حتى بعد أن أغمض عينيه إلى الأبد في الحادي عشر من الشهر العاشر للعام 1980 في العاصمة الأمريكية، بين يديّ ولده الوحيد، الدكتور سعيد الكرمي، الذي حرص على نقله، بناءً على وصيته، إلى دمشق، حيث شهدت العاصمة السورية، في وداعه، واحداً من أكبر مواكب التشييع في تاريخها، وبدت مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك وكأنها ساحة يوم القيامة. وكان أبو سلمى من أسرة علم وأدب. فأبوه الشيخ سعيد من العلماء الأجلاء واللغويين الثقات وكان عضواً مؤسساً في المجمع العلمي العربي. أما أخوه أحمد شاكر الكرمي فكان من الصحفيين العرب الرواد ومن وجوه الوطنية والقومية حتى أن دمشق أطلقت إسمه على أحد شوارعها. وبرز أخوه حسن الكرمي "أبو زياد" كراوية علاّمة، وحقق شهرة مدوية من خلال برنامج "قول على قول" الذي كان يعدّه ويقدمه بصوته من إذاعة لندن. ارتبط أبو سلمى برفيقة عمره، المناضلة رقية حقي في عام 1935وقد تم الزواج في مدينتها عكا. ولم ينجبا "سلمى" ولكنه كان ينادى بأبي سلمى، لأسباب شعرية، منذ أن كان يدرس في معهد عنبر أيام المرحلة الثانوية في دمشق. وقد شكل أبو سلمى مع إبراهيم طوقان وجلال زريق ثلاثياً ظريفاً في الحياة والشعر. ولا يزال الرواة يتناقلون شفوياً قصائدهم الماجنة المازحة بألفاظها المكشوفة، وكثيراً ما لا يميز الرواة، في هذا المجال، بين ما كتبه إبراهيم وما كتبه أبو سلمى.
قد يسأل متسائل..لماذا أبو سلمى الآن؟.. يَرِدُ هذا السؤال، حسب وضع السائل، إما بحثاً عن مدخل للكلام، وإما جهلاً بطبيعة الشعر. لأن أبا سلمى حاضر فينا، أو لأنه الوفاء، أو لأن الانتفاضة تعيد إنتاج أيام أبي سلمى في النضال.. وتأتي هذه الأجوبة، حسب وضع المجيب، إما لأنه لابد من جواب، وإما تماهياً للمغني مع الأغنية، وإما جهلاً بطبيعة الشعر.
 فالشعر، في جوهره، لا يتوسل مناسبة للحضور، حتى لو نجمت بعض القصائد عن بعض المناسبات. ولا يقبل الشعر وساطة بين مبدعه وقرائه بدعوى أهمية المبدع في الذاكرة التاريخية. فتلك الأهمية من شؤون التاريخ أو الأخلاق. وليس معنى ذلك إسقاط المغزى النبيل، أو الرسالة، أو الفكرة المركزية التي نذر لها المبدع جهده دماً وحبراً. ولكنه انتصار لشعرية الشعر، وإصغاء للنبض العميق المبرأ من الزوائد، والمرشح للبقاء..

أنفاس " قراءة   في أضمومة ( اشتهاء)1 لمحمّد الهلالي "
منذ الإطلالة  الأولى على الأضمومة الشّعرية يتجلّى صوت الشّاعر الهلالي ممتزجا مع انشغالاته الثقافية المتعدّدة تارة في المجال الحقوقي وتارة في مجال الفكر والفلسفة وتارة أخرى في مجال الترجمة. إنّه صوت شعري آخر يعلن عن تحوّلات القصيدة الجديدة في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين ضمن مظلّة الحداثة التي تتسع دائما لتغطية
التّجارب الجديدة القادمة من عوالم الشّعراء الشّباب الذين يأبون إلاّ أن يواكبوا التحوّل عبر تشخيص الهاجس في حالته الفطرية الشفافة قبل أن تدخله المساحيق ومعاول الترميم والتوجيه.
المجموعة تقوم أساسا على حوارية الحسّ الشعري الذي يخاطب الوجدان الذاتي تارة والوجدان الجمعي طورا والوجدان الصّوفي طورا آخر.
 ولعلّ ذلك ما يستثيره ملفوظ العنوان لأول وهلة. فلفظة الاشتهاء تعلن مدلولها مباشرة ، وتربطه بمحدّدات مكانية ثلاثة هي : القرب والبعد والتيه. واللوحة الشعرية التي ترافق النصّ على مستوى غلافه تدعم أوجه الفرضية النصية القائمة على أساس التوق والرغبة في الامتلاك لعوالم تجاور الذات أو تجافيها بأبعاد مختلفة التقدير. فهي تبرز الذات الإنسانية في إهاب من اللين واللدنة ، ثمّ في حال من الافتتان بالبحث والتنقيب عن الحقيقة الثاوية خلف الواقع الذي تشطبه مكنسات الزمن الفسيح، بينما تحلّق فوقه أطيار ورقية لاتبدو لها أبعاد ولا أطراف.
هكذا يتّجه ا لخطاب الشّعري في هذه المجموعة  إلى تجزئة الذّات وتفكيكها إلى أجزاء موزّعة على زوايا مختلفة تنمّ  عن علائق وثيقة  تربطها بوجودها الخاصّ . ولعلّ في هذه الإشارة ما يدلّ على المنزع الوجودي المهيمن على الرؤيا الشعرية لهذا العمل. إذ يفرق الوجوديون بين الوجود في ذاته ، وهوالوجود الموضوعي المنفصل ،  والوجود لذاته ، وجود الأشياء في صلتها بالذات المدركة التي تحدد أبعادها بمقتضى  خصوصية الإحساس ونوعية الرّؤية..  
1.زاوية الوجدان الرّومانسي:  وهي تحيط بتيمة ( القرب) الذي يختفي حول لوحات تعبيرية تحفل بالإهاب الرّمزي الشّفاف،الذي قد يفيض على إشراقات الملمح الصّوفي بين الحين والآخر. حيث تبدو المرأة/ الأنثى التي يحيط بها هذا الإهاب،  في سماتها وأوصافها الأنثوية،  بعيدة عن كونها مجرّد أنثى طبيعية لأن لها أكثر من وجه وملمح. فهي تارة تعكس معنى النضوج:  ( قصيدة فردوس العين)
فاقتطفت من جنتك عنقودا
وعدت للجحيم

أنفاس قال محي الدين ابن عربي: (كلُّ معرفة لا تتنّوع لا يعوّلْ عليها).
غالباً ما تكون الثقافة في حالة هشة بعد زوال إي نظام شمولي، لان النظام الشمولي قد عمق مفاهيمه ورسخها إلى حدّ بعيد في مساحة ليست بالهينة في أي بلد يفرض فيه، ولكن ذلك الأمر سرعان ما يضمحل ويصبح البلد أكثر ازدهارا في الحرية أولا ومن ثم ببقية المفردات. وذلك الصراع يبقى في حالة ديمومة وتواصل دليلا على إن الأمور سوف تسفر لاستقرار حالة طبيعية مرت بها اغلب مجتمعات كوكبنا الأرضي، والثقافة عبر أية قناة إعلامية كانت مطبوعة دورية كانت أو غير، حكومية كانت أو غير، فإنها تقبل التلاقح الثقافي، وتؤمن بالتعددية الثقافية، تكون أول القنوات الإعلامية نجاحا، وغالبا ما تكون قد استحوذت على اكبر جمهور، وأفضل نخبة، وصارت الأوسع انتشارا، ترتكز اولا على شرط بان يكون محررها مثقفاً، فتكون مطبوعته مهمة ومتنوعة بقدر ما يسمح به، سعة افقه، لكونه منتخباً جيداً لجديد الأفكار، ومتنوراً، يقرأ ما يصله بشفافية وحسّ عالّي، يعرف بأنه كقارئ يريد جديدا، كما يعرف بان قراءه اليوم فيهم من يقرا ما لم يقرأه المحرر، وغالبا ما يدرك المحرر بانه قد انزاحت من جدلية الأفكار اغلب منظومات الثقافة الشمولية، إذ صار بمقدور القارئ البحث عن من يضيف إليه، ولم يعد لديه المتسع من الوقت ليقرأ شيء يهدر به وقته، فالعصر الحديث صار متعدد النوافذ، وصار النوافذ الأخرى منتبهة وحازمة بشان الإمساك جيدا بفرصتها، وكسب ثقة المتلقي، ولم يعد المحرر، اليوم يفترض بان كل ما يكتبه يرضي فيه السواد الأعظم من جمهوره، فيكون دائما المبادر الأول في الجرأة، وفي تحسس القضايا المصيرية. فـ(إعادة ما قاله الآخرون يحتاج تعليماً؛ وتحديه، يحتاج عقولاً - ماري بيتيبون بول)، وغالبا ما تكون الحرية (لا تعني الحصول على ما يرغبه المرء، وإنما تعني عزم المرء على أن يريد من خلال ذاته- سارتر).. ففي كل الأزمان والأماكن، وعلى مدى التاريخ ثمة احتدام واضح بين الثقافي والسياسي، على الرغم من إنهما يجوبان في أفق واحد، والأول يريد أن يقنع بفكرته جمهوره دون إجبار والثاني يفرض فكرته دون أن يهمه جمهوره، وغالبا ما تحتاج الفكرة الجيدة إلى إيصال بشكل جيد، ولا يحتاج المثقف عادة إلى فرضها كما يحتاج السياسي إلى فرضها، لأنه يطلب لها مجالا حيويا لأجل أن تحيا فكرته، فالفكرة تحتاج إلى حرية، يصعب على السياسي تحقيقها. فما قاله رينيه ديكارت (1650-1596) بشكل لا يمكننا تغيره (أنا أفكر إذن أنا موجود)، كان يشمل بان الفكرة نتاج عقل ووليدة وجود، فلا يمكن أن توجد فكرة خالدة ما لم تولد من فكرة مدونة استند عليها العقل وتطورت، حيث أفكار الإنسان وحدها التي صارت المدونة هي التي تتواصل بالعطاء وتنير للإنسانية الكيفية للاستدلال إلى الفكرة الحية، والفكرة وليدة الفكرة.

أنفاس العولمة صناعة الغرب هذا معروف، لم نشارك فيها، نحن العرب قدر جديد يهبط علينا، نتلقفه هنا، نرفضه هناك، نتماهى به، نستغرق في ظواهره ومظاهره، نقابله بخضوع، نحتج، نصرخ، نستسلم، وبرغم ذلك يبقى أن العولمة صناعة الآخرين. أو فلنقل انها، هذه المرة، هي صناعة الآخرين وتحديدا، كما يقال (حتى الآن) ويشاع، انها صناعة امريكية او على الأقل صناعة سيطر عليها النظام الامريكي واستغلها، وغزا بها العالم، بقيمه، واقتصاده، ومصالحه، وثقافته، ومطامعه ومطامحه. وهكذا علينا، ولأننا لم نساهم في هذا الحدث الكبير، أن نعتبره قدراً، من الصعب مواجهته، وفي أفضل الأحوال «ظاهرة» أمبريالية جدية علينا (أو يمكننا) إلحاق الهزيمة بها، لكن كيف؟ وأين، وبم؟ إذ كيف يمكن لمن اعتزل المشاركة في صنع التاريخ الحديث أو أي تاريخ، ان تتوفر لديه شروط المقاومة. مقاومة ما يفد، او ما يهبط، أو ما يفرض. لا سيما عندما يصير هذا «القدر» جزءاً من معيشنا، وتفكيرنا، وتفاصيلنا، ومأكلنا ومشربنا، وملبسنا، وأدوات رفاهيتنا، وترفيهنا، وجزءاً من «ثقافتنا» اليومية، وغير اليومية سواء وعينا ذلك أم بقي في غياهب اللاوعي... ربما لا شيء. وربما الكثير. وربما القليل، وربما الوهم أيضا، فلغة العجز متعددة. لكنها تبقى لغة العجز، لكن هل يمكننا ، (وفي حال رفضنا العولمة كما هي اليوم) أن نخفف من سطوتها! ومن آثارها، ومن جموحها، واين؟ في تفكيرنا؟ في مواقفنا السياسية؟ في معتقداتنا، في الصورة التي تريد العولمة أن تبرز فيها تواريخنا، ومعتقداتنا، وثقافتنا، ومآلاتنا!
  I
وإذا كنا عاجزين عن المواجهة «الشاملة» فهل يمكن اعتماد المواجهة الجزئية؟ أو الجانبية؟ أو الاستنسابية؟ بمعنى آخر إذا كنا عاجزين عن منافسة «الغرب» (وهنا امريكا) في ثورتها التكنولوجية والميدياتيكية والمعلوماتية والعلمية، فهل يمكن ان نختار جانباً «حميما» او عمومياً، لنواجه به وعبره ومنه هذه القدرية الجديدة؟
وهنا بالذات تبرز الثقافة، العربية وغير العربية، الحضارية (بما تشمل من ديني وموروث وعائدات ومكتسبات)، والثقافية بما تشمل من إبداعات، وانتاجات متينة، وكتب، وفكر وإيديولوجيا وسياسة... ورواية وشعر ومسرح.
لكن أي ثقافة يمكن ان تفلت من مرمى العولمة، او من طاحونتها؟
بات معلوماً ان العولمة عولمات. ليس هناك عولمة واحدة، او سمة معولمة واحدة، ومن خلال ذلك لا تجري أمور العولمات كلها في مسار واحد، ولا في نسق واحد، ولا في تاريخ واحد، وان صبت كلها في مصب واحد عند المنتج الأكبر لهذه العولمة، فهناك العولمة الاقتصادية (ولن نطيل الكلام عليها)، وهناك العولمة الجيوسياسية المرتبطة بالنمو الديموغرافي وبازدياد الهجرات العالمية.

أنفاس (الحاءات الثلاث) مشروع نقدي طموح
يعتبر مشروع ( الحاءات الثلاث ) القصصي والأدبي، على الإطلاق، أهم مشروع نقدي حداثي تشهده القصة المغربية المعاصرة، يقف خلفه شخص مثابر يسهم بشكل لافت ومثمر في مختلف قضايا الثقافة والأدب المغربي خاصة، والعربي عامة، وهو الأستاذ محمد سعيد الريحاني ، الذي راهن بقوة على أن يثبت مدى خصوصية القصة المغربية وتميزها وفرادتها، فسعى حثيثا إلى تحقيق ذلك المنال، عن طريق طرح هذا المشروع الأنطولوجي، الذي يؤرخ للقصة المغربية المعاصرة، قلبا وقالبا، دلاليا وجماليا، معنى ومبنى… وهو مشروع أطلق عليه (الحاءات الثلاث)، مختارات من القصة المغربية الجديدة، وينقسم إلى ثلاثة أجزاء، كل واحد منها خاص بموضوعة ما من الموضوعات الحاضرة بكثافة في القصة المغربية، وهي موضوعات: الحلم والحب والحرية، ثم إن تلك الأجزاء الثلاثة عبارة عن أنطولوجيات تتضمن مختارات قصصية لمجموعة من القصاصين والكتاب المغاربة، مع ثبت جانب من سيرتهم الذاتية والعلمية، مما يجعل منها مشروعا نقديا تصنيفيا، يحاول الأستاذ الريحاني نسجه بدقة تامة، ووعي عميق، سواء أعلى مستوى اختيار النصوص، التي تتميز بالتنوع من حيث المضامين والأساليب والتجارب، أم على مستوى المنهجية المتبعة في تشكيل هذا المشروع، إعلاميا حيث يعمل الأستاذ الريحاني كل ما في وسعه من أجل نشر وتعميم مشروعه الأنطولوجي، أو معالجةً حيث يعرف دوما بالمتن القصصي المختار، إما من خلال مقالاته التقديمية أو حواراته الكثيرة والمتنوعة أو غير ذلك، أو ترجمةً حيث قام بترجمة الكثير من قصص أنطولوجيا الحاءات الثلاثة إلى اللغة الإنجليزية، وينوي أن يصدرها كذلك في نسخة ورقية إنجليزية.
هكذا فإن الغرض الأساس من مشروع أنطولوجيا القصة المغربية الذي أطلقه الأستاذ محمد سعيد الريحاني، ليس هو فقط التعريف بطبيعة القصة المغربية المعاصرة وبحفنة من كتابها، وإنما أكثر من ذلك، وهو التأسيس لمدرسة مغربية قادمة، يقول الأستاذ الريحاني في مقاله التقديمي للجزء الثاني من هذه الأنطولوجيا، وهو أنطولوجيا الحب: ” “الحاءات الثلاث” مشروع إبداعي وتنظيري يهدف إلى التعريف بالقصة المغربية القصيرة عبر ترجمتها للغة الإنجليزية ثم نشرها ورقيا باللغتين العربية والإنجليزية، كما يتقصد التأسيس لمدرسة مغربية قادمة للقصة القصيرة من خلال المشترك المضاميني والجمالي المجمع بين النصوص الخمسين للكاتبات والكتاب الخمسين المشاركين في المشروع الأنطولوجي والموزعين على ثلاثة أجزاء: “أنطولوجيا الحلم المغربي” و”أنطولوجيا الحب” وأنطولوجيا الحرية”.” ص3.
وسوف أحاول من خلال هذا المقال، مقاربة الجزء الثاني من الحاءات الثلاثة، الذي هو أنطولوجيا الحب، وذلك بتناول أهم الأبعاد التي يتخذها متن هذه الأنطولوجيا، الذي يتركب من واحد وعشرين قصة قصيرة، لواحد وعشرين قاصا مغربيا، وهؤلاء القصاصون ينحدرون من مختلف الأجناس والتجارب والاشتغالات.

أنفاس "نموذج كتاب عرائس المجالس لأبي إسحاق الثعلبي"
مقدمة:

تاريخ السرديات العربية القديمة حافل بمرويات  نشأت في ظلّ سيادة مطلقة للمشافهة و طبعت وما زالت مخيالنا الأدبي والثقافي. موروث حكائي متعدّد الأغراض يحمل مواضيع  شتى  وباعثة في نفس الوقت على أسئلة كثيرة. ومن هذا المنطلق،  فالجنس الأدبي المسمى بـ "قصص الأنبياء"  هو عبارة عن  كمّية هائلة من السرد تتمحور حول الأنبياء  والشخصيات والأمم الغابرة السابقة لنبوّة رسول الإسلام. حكايات مشهورة داخل المخيال الديني الإسلامي بحضورها  في النص القرآني و التفاسير وكتب التاريخ وكتب قصص الأنبياء. فهناك نماذج عديدة لشخصيات مروية  تدخل في سياق تعبير ديني تولّى روايتها مجموعة من الرواة اختلفت مراتبهم المعرفية وطرق رواياتهم باختلاف انتماءاتهم وعصورهم.  حكايات غذّت، ومازالت، مخيال الملايين من المستمعين والقرّاء قرونًا عديدة.
 يلتقي قارئ هذه السرديات بلائحة طويلة من الأنبياء المشهورين في المخيال الديني التوحيدي ابتداء من آدم ونوح  ثم إبراهيم وهود وصالح وشعيب وذي الكفل وأيوب ويوسف ويعقوب وإسماعيل وإسحاق وموسى وسليمان ويونس وزكرياء  ويحيى وعيسى وغير ه مع ذكر بعض الشخصيات التاريخية المشهورة كالإسكندر و بوختنصر و  أخرى كالحكيم لقمان.
وابتغاء لدراسة مكوّنات هذا الجنس الأدبي  سيتمحور بحثتنا حول كتاب اشتهر بتتبعه لسرديات قصص الأنبياء  قديمًا و  مازال مقروءاً في أقطار عديدة من العالم العربي وخارجه. و قد عرف هذا المؤلّف  عدّة ترجمات إلى لغات أجنبية. إنّه كتاب عرائس المجالس في قصص الأنبياء ( العرائس) من تأليف أبي إسحاق الثعلبي (ت427/1035).
نظّم  الثعلبي كتابه على شكل مجموعة من الحكايات والقصص برمجها في خانات سردية سمّاها المجالس موضوعها الأساسي الدرس الديني والعبرة، بحيث يكون تصوير الخطاب الديني مستفاداً عن طريق المعارضة المُتمثّلة في نماذج قديمة كفرعون وهامان.  و تُصبح المُطالبة باتّباع الرسول وما ينجم عن ذلك من نجاة هو المقصد الأسنى الذي يتوخاه كلّ راوٍ لهذه القصص.  قصص  تُعيد نفس الموضوع لكنّ الأشخاص والديكور والتشويق والتخويف والتأثير في الوجدان تتغيّر من قصة إلى أخرى. فنحن أمام مشروع واضح المعالم يمكن وضعه بسهولة في خانة الوعظ والاعتبار.
لماذا وقع اختيارنا على الثعلبي ؟
 كتاب "العرائس" حلقة مهمّة داخل سلسلة الروايات والكتابات المتعلّقة بالسرديات الدينية في الإسلام الوسيط. فهو  خطاب  له خصوصيته بالنسبة للكتابات العديدة التي تطرّقت لنفس الموضوع قديما وحديثا.

أنفاسيذكر أحد المهتمين بالسرديات أن شجارا وقع  في سيسيليا في القرن الخامس قبل الميلاد بين شخصين في أرض خلاء، وتطور الأمر إلى معركة حقيقية، فكان أن عرضا في اليوم الموالي أمرهما على القاضي. ولم يكن القاضي يتوفر على أدلة أو قرائن تدين أحدهما، فالمعركة لم يشهدها أحد، ولم تترك آثارا على أحدهما، ولا ثقة في الحواس، فهي كثيرا ما تخدع الرائين أو تضللهم. ومع ذلك كان عليه، بحكم موقعه، أن يحكم لصالح أحدهما. فما السبيل إلى ذلك ؟ لم يبق أمام القاضي سوى وسيلة وحيدة لكي يتعرف على الجاني ويقيم " الحقيقة " : إنه الحكي. فالذي يمتلك ناصية السرد ويجيد بناء قصة، سيكون أقربهما إلى الحقيقة، ويكون بالتالي هو المظلوم (1).
استنادا إلى هذا، لم يعد الأمر يتعلق بالحديث عن حقيقة موضوعية، بعيدة عن " الشبهات" ومنفصلة عن ذوات الفعل؛ حقيقة يقبلها الجميع، وقابلة للمعاينة في الزمان وفي المكان وفي انفصال عنهما. لقد انقلبت الأمور، فالمطلوب الآن، كما كان عليه الأمر دائما، هو بناء " عوالم تخييلية " تبدو داخلها الحقيقة أمرا ممكنا، أو تكون، على الأقل، حالة محتملة ضمن حالات هي الأخرى ممكنة. وبعبارة دقيقة، يتعلق الأمر ببناء حقيقة يمكن أن تتعايش مع حقائق أخرى، رغم كل ما توحي به المظاهر الدالة على الفرادة والخصوصية. وهذا أمر بالغ الأهمية، فالحقائق ليست مفصولة عن السياقات التي تقود إلى بلورتها، ذلك أن كل حقيقة إنما هي بناء يتم وفق ما يقتضيه هذا السياق أو ذاك صراحة أو ضمنا.
فمن قلب هذه السياقات تولد " الخصوصيات " وتتنوع وتنتشر في كل الاتجاهات. فالخصوصية أمر ثابت في كل فعل فردي، فهي سمته وجوهره، إلا أن " الذاكرة المجردة " ( سابير)، تلك التي تحتوي على كل الذاكرات الفردية الممكنة، قادرة على توحيد كل التجارب ضمن وقائع إبلاغية تتفاعل داخلها النسخ وتقترب من بعضها البعض وتتميز وتتوحد. وبدون هذا التوحيد، سيستحيل الحديث عن تواصل إنساني.
ذلك أن الجمع بين هذه التجارب لا يمكن أن يتم إلا من خلال تخلي كل تجربة، بحكم مقتضيات التواصل الإنساني وإكراهاته، عما يخصصها ويفصلها عن التجارب الأخرى، لتتحول إلى صيغة لا يمكن فهمها إلا من خلال استحضار ما يوحد ويجمع، ويرد المتنافر إلى ضرب من الوحدة. حينها، وحينها فقط، نكون قد خرجنا نهائيا من دائرة التجربة المخصوصة ( المحدودة في الزمان وفي المكان )، لنلج عالم الإرث النفسي والاجتماعي المشترك الذي يبيح لنا الحديث عن الهوية والوجدان والطبيعة الخاصة بهذا الشعب أو ذاك.
والقصة قادرة على القيام بذلك، فالسرد، باعتباره أداة التشخيص الأولى يشكل قوة ضاربة في مجال التواصل والإقناع والسيطرة على كل المناطق الانفعالية داخل الذات الإنسانية، تستوي في ذلك انفعالات الكبار والصغار. فهو قادر على التسلل إلى وجدان المتلقي في غفلة من العقل وأدوات الرقابة داخله. فالسرد لا يقدم حقائق جاهزة، إنه يقوم ببنائها استنادا إلى تفاصيل الحياة وهوامشها.