أنفاسمن منَّا نحنُ المنتظرون ما لا يأتي , البسطاءُ في صياغة أحلامنا , المحكومونَ بالعدم وشقاءِ الدمِ الأزرقِ " حبر مواجعنا والنجوم" , يملكُ نفسهُ اللاهثة خلف سرابِ الأهواءِ الفضيِّ , كما يملكُ عفويَّة أحلامهِ وبساطتها المؤجلَّة , ولا يترَّصدُ الفُرَصَ  المُبتذلة واللحظاتِ الحرجة والمواقف الرخيصة ليرمي ظهورَ أصدقائهِ الساذجين اللاهينَ بسهامِ عبثهِ غيرِ البريء ؟؟
من منَّا لا يُروِّجُ لأضغاثِ أوهامهِ وهشاشةِ أمانيهِ المُهشَّمةِ كالبلوّر على صخرِ الحياة , المبعثرة على سطحِ كوكبٍ ضائعٍ في مجرَّتهِ ؟
من لا ينافقُ في أصغرِ جزئيَّاتِ علاقتهِ مع الأشياءِ والآخرين ؟؟

حبَّذا لو فعلنا كلَّ هذا ولكن بقدرٍ معلوم ٍ ...حبَّذا .
"كُلنَّا في الهواءِ سواء" هذا ما نكتشفهُ في النهاية ونعترفُ بهِ , هذه الحقيقة تطبقُ علينا كلعنةٍ محتومةٍ , كظلامٍ قاسٍ.
إنَّ ما أغراني بكتابةِ هذا الكلامِ الجريحِ يراودني منذ زمنٍ حتى رنَّ هاتفي ذاتَ مساءٍ
وطُلبَ إليَّ أن أكتب تحيةً تقييميّة للصديقِ الكاتب سهيل كيوان بمناسبة تكريمهِ من مدرسةٍ في قرية كفر قرع , حينها أغراني سريعاً جمالُ ترَّفعهِ عمَّا إنحطَّ إليهِ الكثيرُ من الآخرينْ , من أخلاقيَّات صدئتْ في الشمس العربية , فمنهم من يطعنُ من الخلف , ومنهم من ترميني نرجسيَّتهُ بتلكَ التهمةِ أو بذاكَ الإفتراءْ أو ربمَّا بنصالِ الحقدِ المزمن , ومنهم من يتعامى ويصمُّ أذنيهِ عن صراخِ ضميرهِ في زمنٍ لا يقيمُ وزناً لقيم ولا لمُثلِ , تزدادُ فيهِ حاجتنا إلى درعٍ من الذهبِ الُمقوَّى ليلفُّنا كالجناحِ الدفيءِ ويحمينا من سطوةِ بردِ الآخرينْ .

الكتابة عن أديبٍ بحجم سهيل كيوان مُربكة قليلاً أو ربمَّا كثيراً , ممَّا وضعني في موقفٍ حرجٍ من نفسي وترددّتُ حينها لإتسَّاعِ معنى الكاتب سهيل كيوان وضيق عبارتي , فروائيٌّ مثلهُ متعددُّ الأساليبِ والطرقِ التعبيرية وفسيح المجالاتِ يحتاجُ أدبهُ الى دراسةٍ وبحثٍ علميين دقيقين أمينين ومن أكادميين متخصِّصين ليُوَّفى بعضاً من حقهِ , لا إلى كلامٍ قليلٍ عابرٍ , لإيماني بقيمة كاتب مكافح وعصاميِّ تركَ بصمتهُ على أدبنا المحليِّ , وبأنَّ خيرَ من يقيمُّ سهيل كيوان أدبهُ نفسهُ , رواياتهُ , مقالاتهُ , حسُّهُ النقدي ,سخريتهُ المرَّة ,عصاميَّتهُ الفذة , وطعمُ قصصهِ المراوغة والمراوحة بينَ الأدب الإجتماعي أو السياسي الملتزم والمفارقة الساخرة المنتقاة بعناية فائقةٍ كحجر الزاوية , وفوقها تلتئمُ مداميكُ البراعة الفنيَّةِ واللغويَّةِ .

أنفاسأقيمت في مسرح الميدان الموجود في مدينة حيفا قبل مدةٍ وجيزة إحتفالية بتدشين نشر رواية الشاعر والروائي الفلسطيني المعروف والمقيم في عمَّان إبراهيم نصر الله " زمن الخيول البيضاء " والتي قامت بتبنيّها واحتضانها مكتبة كل شيء في حيفا وهي من كبريات دور النشر هنا في  الداخل الفلسطيني , ولكن حلقةً ضائعةً لا زلتُ أبحثُ عنها في تبلوِّر هذه العلاقة المفاجئة بين دور النشر عندنا والأدباءِ المقيمين خارج الوطن , لا أريد أن أقول الأغيار أو الأجانب حتى لا أُتهَّم بالتطرَّف الثقافي أو بالعنصريَّة , مع أنَّ الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله من لحم هذا الوطن مقتطعٌ ,وليس من باب التقليل من قيمة شاعر وكاتب بحجم إبراهيم نصر الله بالتجائه القسريِّ إلينا بعدما كانت كبرى دور النشر في عالمنا العربي" المؤسسة العربية للدراسات والنشر" تحتضنهُ كابنها وتتبنَّى كتبه . فأنني أعترف بأنه من أنشط الكتاب والشعراء الفلسطينيين في الوقت الراهن ويمتاز برأيي بغنى ثقافي وحضور أدبي آسر وشاعرية إنسانية رقيقة  ومسحة غنائية صافية الجرس وعميقة الحسِّ , قرأت ربمّا كلَّ دواوينه الشعرية الأمر الذي لم أفعله حتى هذه اللحظة مع رواياته اللاتي يبدو لي أنها من الأهمية الأدبية والتاريخية بمكان .
ولا زلت أذكرُ ديوانيه " مرايا الملائكة " وحجرة الناي" وما تركاه في ذهني من عبق وتحت لساني من طعم طيِّب  فأقفُ مذهولاً أمام عبقرية شعرية تستحقُ الإلتفات والمتابعة ولا أريد أن أرّددْ ما قاله كبار النقاد العرب عن شاعر مثل إبراهيم نصر الله ومنهم عبد العزيز المقالح واحسان عباس وغيرهم كثرٌ . ولكني أريد فقط وضع بضعة نقاط على حروف مبعثرة . وأريد أن أسأل نفسي هذا السؤال الحائر,من ينشرُ لنا نحنُ الجيلُ الشابْ ؟ ألهذا الحدِّ الرخيص وصلت قيمة الكاتب أو الشاعر عندنا؟
إلى مشارف كلام ٍ جارحٍ كهذا " عزيزي أنشر لوحدك وعلى نفقتكَ ولا علاقة لنا بك" حتى أنه بات وقد أضاع بوصلة روحه وأصبح حاله أو كونهُ كاتبا على حدِّ تعبير الروائي الكولومبي الفذ غارسيا ماركيز مأساة كبرى لا تعدلها مأساة في العصر الحديث . بعد تخلِّي دور النشر عنه وبعد حصاره من جهاته الستِّ على يدِ الشلّلية  "الأدبية" البغيضة التي تتشدقُّ بدفاعها عن الأدب والثقافة  حيناً وتارة تتنافحُ بمساعدة الشعراء الجدد وتقديم يد العون المعنويِّ والماديِّ لهم . وهم في وهمهم يشطُّونَ ويعمهون . فأنهم لا يجيدون الاَّ وطئ هام الجيل الذي يصغرهم , وتعمية وتدليسَ بل إنكارَ إنجازِ غيرهم خصوصاً اذا كان أفضلَ ممَّا قدَّموا هم .

أنفاسإن مفتاح الدخول إلى عالم عبد الكريم الناعم الشعري: يكمن في قدرته الهائلة على التحليق باللغة في آفاق رحبة، تؤثثها مفاتن الطبيعة النضرة التي تمثل الوجه المادي للأرض المشتهاة بغية التوحد بها، والتماهي مع كل مظهر من مظاهرها. وعن أهمية هذا السفر المحلق مع اللغة يقول الشاعر: "الذين لا يسافرون مع اللغة وفيها يخسرون تذوق الوصل في ليالي الربيع المقمرة المليئة بالعشب والنضارة، ويضيق بهم الأفق، بحيث يسجنون العالم والأحاسيس في قفص من الكلام العادي المكرر" -1-
فالسفر مع اللغة وبها يعادل إذن عند الشاعر تذوق الوصل، وهذا التذوق مرتبط بما تحمله أمكنة السفر من دلالات ورموز.
ومن ثم يتجلى الدور الذي تضطلع به الطبيعة في عالم عبد الكريم الناعم الشعري، إنه ابن الطبيعة البار الذي افترش العشب ليكتب على "جذوع الشجر القاسي"، ويحدث الرياح والتراب والمدى، ويحلم بجناح الريح ليحلق عاليا فوق البحار والأودية والأشجار، ويتطلع إلى صبر التراب، ورسوخ النخيل الأسمر في البلاد المفضوضة، ويستصيغ السمع لحكايات الماء الطويلة وهو المترع بالفقر والأحزان في البلد النازف، إنه المسكون بذاكرة الخليج الدائري وبالجراح التي تفترش المدن الأثيمة في زمن الحصار. إنه "النهر الفراتي" المسافر في عذابات القفار ينتظر الأفق الذي لا يأتي فتحاصره "البذاءات الضريرة".
هكذا يتورط الشاعر في قافية الحروف، وينذر عمره لبقية العشق، يركض من الألف إلى الياء ليعتنق ركوب اللغة، ويسافر معها عله يطفئ "جمر التوجع" على حال الوطن المسروق في خضم الزمن الأغبر الرديئ.
هذا هو منطلق العمل الشعري كما آمن به عبد الكريم الناعم:
"هزيما صوفيا، وفعلا ثوريا، ولحنا غجريا حزينا"، كما أنه: "جنون في وطن النخاسة". وعن منظوره للشعر هذا يقول:
"علق الجراح قصيدتي،
والشعر مبدأه الجنون". -2-
" لأنك في القفر يجيء الشعر
هزيما صوفيا،
ثوريا،
لحنا غجريا" -3-

أنفاستعتبر المجموعة القصصية " ذكريات من منفى سحيق " باكورة أعمال القاص المغـربي صخر المهيف ، وهو من مواليد 1971 بتازة ، بدأ النشر مبكـرا منذ سنة 1995 بالعديد من الأسبوعيات و الجرائد و المواقع و المجلات العربية و الوطنية ، يعمل أستاذ التعليم الابتدائي و فاعل جمعوي و منشط بالمطعم الثقافي الأندلسي بأصيلة . يهتم بمجالات أدبية متنوعة : المقالة ، المسرح ، الشعر و القصة و الرواية .
و المجموعة صدرت عن دار الوطن للصحافة و النشر سنة 2007 ، يتصدر الصفحة الأولى من غلاف المجموعة لوحة تشكيلية للفنان محمد واكريم أما الصفحة الرابعة من الكتاب فتتضمن ورقة تعريف بالكاتب .
تضم المجموعة القصصية ثمانية نصوص ، كما يشكل عنوان أحـدها عتبة للمجموعة ككل .
وسوف نحاول يناولها بالقراءة والتحليل في محاولة  للبحث عن أهم الأفكار التي روجتها وذلك بتعقب مختلف الخيوط التي تمكننا من الإجابة عن "سؤال الكتابة " عند القاص صخر المهيف .
وقد توزعت النصوص بين الواقعية والإجتماعية  والسير ذاتية...
يقول القاص على لسان سارده في  نص " عودة من منفى سحيق" عبارة عن سيرة ذاتية و قد عبر عنه بقوله " لم يكن مقيتا أن أكتب جزءا من تاريخ ذاكرتي المحترقة على الرغم من المعانات التي تكبدتها في سبيل شنق ذاكرتي و هي تبوح ببعض التفاصيل المملة عن مجرى حياتي السابقة " صفحة 22 .  
و هذا النص كتب بمرارة و حرقة و بانتقاد كبير للواقع الاجتماعي المزري الذي عاشه كرجل تعليم في بداية مشواره المهني . و إن كان النص يقدم لنا صورة مصغرة لشخصين أو مجموعة أشخاص فقد فتح أعيننا على واقع بانورامي حول أوضاع رجال و نساء التعليم بصفة عامة مبرزا معانات جيل بأكمله في مناطق نائية جدا لا تتوفر فيها الشروط الأدنى للحياة ، وغم هذا العائق حاول السارد التكيف مع الوسط الجديد يقول  " تأقلمت بسرعة مع أجواء المنفى القاسية ، فصنعت عالما خاصا بي ، كان عالما جميلا " صفحة 24 .و لم يكن فقط جميلا بل كان من نوع خاص و صعب الاقتحام على الغير يقول : " لم أسمح لأحد بولوجه لأنه كان عالما مغلقا... مستعصيا على الاقتحام "ص 24.

أنفاستقديم:
  تروم  هذه الدراسة الوقوف على ومع نص/ رواية "غريبة الحسين" لأحمد التوفيق، وهو من المبدعين المخضرمين؛ الذين يشتغلون في أكثر من حقل معرفي. لقد خطط الروائي لنفسه مسارا مغايرا عن سابقيه ممن اشتغلوا على الرواية؛ ذلك أن أغلب النصوص الروائية المغربية، نصوص سير ذاتية. من تمت اتجه الروائي ، ومن موقعه كمؤرخ، إلى التاريخ كمكون روائي. هذا مع الإشارة إلى وجود محاولات روائية مغربية تعاملت مع التاريخ كمكون. نورد  على سبيل الذكر نصي "عبد الكريم غلاب": "دفنا الماضي" و" المعلم علي" وروايتي "بنسالم حميش": " مجنون الحكم" و " العلامة"...غير أن تعامل "أحمد التوفيق" يبقى ذا نكهة خاصة، عملت مجموعة عوامل على بلورتها وتجليها في نصوصه الروائية، هي:
    - كون الرواية ، كجنس أدبي، أكثر الأجناس انفتاحا على مختلف الأجناس الأخرى وعلى كل المجالات والميادين، ومن تم يمكن استحضار كل المرجعيات وتوسيعها ومحاجاتها وربما دحضها؛
    -  كون التاريخ حاضر في كل الميادين ، علمية كانت أم أدبية؛
    -  كون الرواية فسحة فكرية.
تعتبر رواية " غريبة الحسين" العمل الرابع للأستاذ "أحمد التوفيق" بعد كلٍّ من رواية:  "السيل"، "جارات أبي موسى" و "شجيرة حناء وقمر".وهذه الأعمال مجملة يمكن إدراجها، في خانة الأعمال المُكَمِّلَة لما  لم تصل إليه يد "أحمد التوفيق" المؤرخ ولم تُسْعِفْه فيه حصافة المحقق الحاذق؛ إذ لا يخفى ما حضي به  الأستاذ التوفيق من مكانة علمية في مجالي البحث التاريخي و التحقيق. الأمر الذي يسمح بالقول إن كاتبا من هذا العيار لا يَكَلُّ من البحث عن الوسيلة التي تعطيه حظوظا أفر في  التعبير عن رأيه خارج إطار انشغالا ته الأكاديمية. مع الإشارة إلى أن هذا القول  لا يقلل من  قيمة ما قدمه الباحث من دراسات وبحوت وتحقيقات ، إذ يكفيه فخرا دراسته المتميزة  المعنونة بـ "المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (إينولتان) 1850 – 1912"،وتحقيقه لكتابي: "التشوف إلى رجال التصوف، ابن الزيات التادلي"، و"مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال". إن التراكم الذي حققه " أحمد التوفيق" في مجال الكتابة الروائية، وفي ظرف وجيز يعطي الانطباع أن الرجل ذو باع طويل في حلبة الكتابة مما خول له القدرة على الإمساك بوسائل الصياغة الفنية وتمكنه من الأخذ بناصية فنون القول، فاشتغاله بالتاريخ صقل فيه الجانب الإبداعي؛ الشيء الذي جعله  يقيم مسافة بين التاريخي والروائي، فـ "أحمد التوفيق" يعلم أن التسجيل التاريخي ليس من مهام الروائي. قد يمتلك التسجيل التاريخي مقومات النص، ويتوفر أحيانا على التشويق والإيقاع، لكنه يظل تأريخا. أما العمل الروائي، فيقوم على سبر غور الوقائع مع الانتقاء. فإذا كانت مادة التاريخ عنصرا خارجيا فإن  المادة الروائية  تبقى عنصرا ذاتيا  تنبع من ذات الروائي ، وفي الآن ذاته  تعكس الخارج في تلابيب النص. وإذا كان "التاريخ وكتابة الرواية كلاهما فن قائم بذاته، إلا أن مهمة الروائي أشق". وما تواري "أحمد التوفيق" خلف الكتابة التاريخية إلا مجرد تَحَيُّنٍ للوقت المناسب حتى يخرج على الناس بهذه التحف المغربية الأصيلة، التي نصادفها من خلال الوصف، الحوار أو من خلال عملية انتقاء المناظر والمشاهد الروائية..

أذكرُ ذاتَ صباحٍ ربيعيِّ غائمٍ وماطرِ في مطالعِ أيَّار بعيدٍ قبل عشر سنوات كيف سافرت إلى مدينةِ الناصرةِ لشراءِ بضعة دواوين للشاعر السوري الكبير والمُختلفِ عليهِ نزار قبّاني , كان حينها قد رحلَ قبل أيامٍ معدودات , وكنتُ في شوقٍ لأقفَ على ماهيَّةِ وسرِّ هذا الشاعر المثير للجدل والإهتمام والإعجاب , خصوصاً وأنني لم أقرأه تلك القراءة الكافية العميقة الاَّ في نطاقٍ محدود كانت تتيحه مكتبة المدرسةِ أو منهاج التعليم أو الجرائد التي وصلت الى يدي آنذاك .
انتقيتُ أكثر من أهمَّ عشرة دواوين لنزار من بينها ديوانه الأوّل " قالت لي السمراء" الى جانب " الرسم بالكلمات" و"هل تسمعين صراخَ أحزاني " و"قصيدة بلقيس" وغيرها , وحاولت الغوص في شعريَّة واحدٍ من ألمعِ وأغزر وأمهر وأصفى الأصوات في قيثارة الشعر العربي لا في عصره الحديث بل في عصورهِ جميعها .
لا أظنُّ أن رحيل الشاعر كان محفزَّا لي لقراءتهِ وإستكشاف لمعان إبداعهِ الخفيَّ كالمحارِ والظاهرِ كالشمسِ في عليائها . بل الإختلاف عليه من طرف النقاد وكثرة الهمز واللمز فيه ولم يوارى جثمانه الغضُّ الثرى بعد .

أنفاسالشعر ُفنُّ العربية الأول، وأكثر فنون القول هيمنة على التاريخ الأدبي عند العرب مقارنة بالخطابة والنثر والسرد ولعل هذا ما عناه ابن عباس في مقولته الشهيرة " الشعر ديوان العرب"  للدلالة على أهمية الشعرعند العرب وتمجيد ما أبدعه الإنسان من الشعر، خاصة أنه حافظ لتاريخ العرب وأيامها وعلومها المختلفة ويُعدُّ وثيقة يمكن الاعتماد عليها في التعرُّف على أحوال العرب وبيئاتهم وثقافتهم وتاريخهم دون إخراجه من دائرة الفن إلى دائرة أخرى. 
 
    هذه المقولة كررها الكثير من النقاد القدماء وأكدوا سلطتها حين قالوا "((كان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون)) ابن سلام طبقات فحول الشعراء . ((الشعر معدن علم العرب، وسفر حكمتها، وديوان أخبارها، ومستودع أيامها )) ابن قتيبة، عيون الأخبار. ((الشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها)) العسكري، كتاب الصناعتين. ((الشعر ديوان العرب، به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، وتعلمت اللغة)) ابن فارس الصاحب.

   يتميز الشعر العربي عبرعصوره المتلاحقة بعلاقة الإبداع الشعري بالموسيقى من خلال الايقاع الشعري وبتكونه من مجموعة ابيات, كل بيت منها يتألف من مقطعين يدعى أولهما الصدر وثانيهما العجز وهذا النوع من البناء عرف بالشعر العمودي .
 
    كان الشعر العمودي هو الأساس المعتمد للتفريق بين الشعر والنثر بحيث يخضع في كتابته لقواعد الخليل بن أحمد الفراهيدي وهذه القواعد تدعى علم العروض. ويعرف علم العروض  بأنه علم بمعرفة أوزان الشعر العربي، أو هو علم أوزان الشعر الموافق أشعار العرب . مما حدا بالبعض فيما بعد لنظم العلوم المختلفة المستجدة في قوالب عمود الشعر، كألفية بن مالك وغيرها، وذلك استغلالا لما تألفه الأذن العربية من الإيقاع المنتظم ، مما يجعل تلك المنظومات أسهل للحفظ  والاسترجاع من الذاكرة ، ولكنها بذلك ، ولذلك بالتحديد، خرجت من دائرة الشعر إلى دائرة النظم ، أي إنها افتقدت الفاعلية الجمالية التي تميز الشعر عبر أدواته المختلفة،  التي لم يكن عمود الشعر إلا مظهراً من مظاهر الشكل الفني غير جوهرية وبهذا فقدت روح الشعر مع أن المعلقات قصائد عمودية نظمت بأوزان الشعر العربي دون ان تفقد روح الشعر وجمالياته الإبداعية بأبعاده الفنية والفلسفية والتي تعد أشهر ما كتبه العرب في الشعر ، وقد قيل أنها سميت معلقات لأنها كانت تعلق في أطراف الكعبة لشهرتها وكتبت بماء الذهب وقيل أيضا أنها معلقات لأنها مثل العقود النفيسة تعلق بالأذهان.

أنفاسالفن الروائي :
هل تعتبر الأشكال السردية الحكائية القديمة أنماطا روائية تراثية بمقياسنا العربي الأصيل، لا بمفاهيم الرواية الأوربية الحديثة ؟ هذا سؤال مؤجل ، إنما تجدر الإشارة إليه للتأكيد على أن السرد ليس غربي الجنسية بالضرورة، بل يمكن تلمس كثير من خصوصيات السرد المعاصر في خطابات الحكي العربي في العصر الوسيط خاصة ، سواء في الشرق أو في الغرب العربي.( كليلة ودمنة ، ألف ليلة وليلة، حي بن يقظان، ، ورسالة الغفران).
ولعل اختلال توازن العلاقة بين قوة وضعف، بين ريادة وتبعية ، على المستوى السياسي والاقتصادي والعلمي ، كانت وراء تنامي الإحساس بالانفصال عن التراث الأدبي والفني القديم ، بما يشكله من مصدر إبداعي و إشعاع ثقافي مرتبط بالهوية والذات ، ومعبر عن الرؤية للعالم والوجود، فحدثت القطيعة الإبداعية والانفصام على مستوى التخييل الحكائي والإبداع السردي.
إلا أن الرواية كفن أدبي ، ما زالت حتى في الغرب نفسه ، تثير خلافات حول تعريفها ، تطورت أكثر مع ظهور نظريات التجنيس الأدبي والتي وصل بعضها إلى إلغاء الحدود بين أشكال النثر الفني ، بل وبين النثري و الشعري أحيانا ، فعادت إلى الواجهة أبسط تعريفاتها ، والتي ظلت تعتبرها عملا أدبيا نثريا ، يستسيغ تقديم صورة دينامية للعلاقات الإنسانية المتشابكة داخل مجتمع ما ، في اتجاه تمثيل الواقع الحقيقي أو المتخيل ، عبر مرآة تفسر ذلك الواقع بقدر ما ترسم ملامح آفاقه ، بعد رصد مختلف مظاهره والنفاذ إلى الخفي من العوامل المتحكمة في وجوده ، بحثا عن الارتقاء بالصراع إلى مستوى التعبير عن حاجات وضرورات التواؤم والتناسب مع الذات والظروف ، من منظور المؤلف الروائي و رؤيته للعالم.
ثمة إجماع أولي على ربط البداية السردية باللغة العربية ، بأوائل القرن العشرين،  مع رواية" زينب" لمحمد حسين هيكل، ذلك أنها شكلت في بنيتها الفنية و المضمونية ، امتدادا للرواية التاريخية والرومانسية والواقعية ، كما قدمها الرواد من فلوبير و زولا و بلزاك و دويستفسكي.  قبل أن  تظهر أعمال قصصية وروائية، متأثرة بالرؤية الغربية للسرد ، ومنشغلة بتياراتها الفنية المرتبطة أساسا بتطور الوعي وتغير المجتمع الأوروبي أو الأمريكي، وما عرفه العالم من تحولات منذ الحرب العالمية الأولى .