أنفاسارتبط المبدع العربي - منذ القدم - بالمكان ارتباطا وجدانيا ، وهذا ما تجلى ، بشكل واضح، في استهلال الشعراء القدامى معلقاتهم بالبكاء على الأطلال و التغني بالأحبة الراحلين . ربما يتبادر إلى الذهن سؤال عن أسباب الرحيل ، الهجرة ، الانتقال الجغرافي .. بيد أن كل الأجوبة لا تعنينا في شيء ، لأن لا علاقة لهذه السطور بها .. لكننا لا ننكر إسهامات أمين الريحاني وابن بطوطة وغيرهما في ما يعرف ب:(أدب الرحلات .( هذا الجنس الأدبي الذي سيشهد طفرة نوعية - بطريقة أو بأخرى- عند كتابنا العرب ، فأغنوا المكتبة العربية ب"روايات/سيرذاتية حضارية" ، أمثال : توفيق الحكيم (عصفور من الشرق) ، طه حسن (الأيام) ، يحيى حقي (قنديل أم هاشم) ، الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) ، عبدالله العروي(أوراق) ، سهيل إدريس (الحي اللاتيني) ، بهاء طاهر (بالأمس حلمت بك) ، عبدالرحمن منيف (شرق المتوسط) ، حسونة المصباحي (الآخرون) .
و بعيدا عن الأسلوب السياحي المنبهر ، جسد هؤلاء الكتاب - بصدق - ثنائية الشرق والغرب ، تلك العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر.. وقد هاجر معظمهم إلى أوربا من أجل متابعة دراساتهم العليا ، باستثناء بطلي روايتي عبدالرحمن منيف و حسونة المصباحي ، الهاربين من القمع السياسي وجور الأنظمة الحاكمة وبطشها ، وإن كانت رواية (الآخرون) يمكن أن تصنف ضمن " أدب المنفى " ، وكذلك بطل( بالأمس حلمت بك ) الذي هاجر بحثا عن فرصة عمل أفضل .. حسب تخميننا المتواضع لأن بهاء طاهر تجاهل هذه النقطة بالذات .
المدهش في هذه النصوص السالفة الذكر أنها " تؤثث حضاريا تمازج الشرق بالغرب من خلال تمازج الأنوثة بالرجولة " بتعبير الناقد الدكتور جميل حمداوي .. لقد تطرقت إلى العلاقة الملتبسة بين الرجل الشرقي الذي يرمز إلى الفحولة ، ودفء الشرق وسحره ، المثقل بعاداته وحرمانه وتوقه إلى الحرية .. و المرأة الغربية الشبقة المعطاء ، المتحررة ، المثقفة ... دون أن تغفل معظم هذه النصوص فضح تلك النظرة الدونية للغرب إلى العرب !!
لكن معظم تلك العلاقات الغرامية انتهت بالفشل والإخفاق .. لوجود مركب نقص ، إذ لم يكن أمام العربي المثقل بخيباته وصدمته غير إثبات أناه العنترية المنكسرة بالفتوحات الجنسية ، كما جسدها أبطال ( الحي اللاتيني، موسم الهجرة إلى الشمال، الآخرون ) في المقابل نجد بهاء طاهر يجعل بطل (بالأمس حلمت بك ) يرفض عرض الآنسة "آن ماري" الجنسي وهما على حافة الفراش .. لأنه يكتب نصا عذبا ، يطفح بالقلق النفسي والتوق إلى الخلاص والصفاء الداخلي ...
" قالت لي : وذلك الكتاب ذو الغلاف المزخرف ، ماهو؟

أنفاس مدخل:
 الكتابة الشعرية هي فعل ممارسة للواقعية  والّلغة. والواقعي هو ما يشغله الشاعر في خلق عمله الشعري ، في فهمه الصافي والمباشر للعالم. فالشاعر، في حال من الأحوال ،هو  المتحكم في الدوال التي تنساق له. فضلا عن أنّ الكلام الشعري يفتح المجال واسعا أمام حقل إمكانات اللغة، ويتيح انفتاحا ما على المعنى، نحو مظاهر جديدة من الواقعية التي ينجح في اقتحامها. والواقعي ليس بالضرورة الواقعية ، بالرغم من أن  أحد تجلياته الكبرى هو تمثّل  الأثر القادم من فيض الواقعية . الواقعي هو دائما ما ننتظر ، على حد تعبير (ه. مالديني) وهو يساهم انطلاقا من المرعب أوالعقدي أوالهدم الذهاني psychotique   ، أو اختفاء الموضوع/ الشخص المحبوب.  والشعر هو الحاجة الملحاح إلى إثبات الكينونة التي تحفز فعل الإنسان. وهو يعكس في نفس الآن نزعة اللاّتحقق التي تقود الأسراب المدحّنة ، وعزيمة التحقق التي تطول الآخرين ممّن يستطيبون متعة النفوذ، فتقودهم   رهانات  الخطاطة الجوفاء على حساب  الحقيقة الكاملة للكينونة الإنسانية.
 وباب الشعر ليس لها مزلاج  ولا مفتاح  . بيد أنه يظل يقاوم من أجل اللاّنغلاق. ولايستطيع ولوجه إلا السّحرة الأبرياء الذين اعتادوا على نار التطهير. ولقد سئل الشاعر الأرجنتيني الكبير (روبيرتو خواروس ( 1925-1995) على غرار الكثيرين ، حول الكنه العميق للشعر ، فأجاب قائلا: (الشعر ميتالغة تعيد الارتباط بواقع ما... هو  مخاتل لكلّ شكل تصنيفي ولكل تحقيق منتظم ، لأنه أكبر من الواقع)(2)
ففي الشّعر تمتد  فيزيولوجيا الإدراك و فينمولوجيا التجربة الرؤيوية، في أبعادها النفسية  وموضوعاتها ها المنفلتة، بين فيزيقا الواقعي  وميتافيزيقا المرئي واللاّ ّمرئي ، لتفتح أما م الشاعر منفذا للعبور إلى سيرورات وظواهر ذهانية تعمل لأجل كشف  شعرية الواقعي.
 إنّ الحدث الواقعي يتم استيعابه في عالم الشعر "عبر" و"من خلال" مقدمات العمل الشعري. أمّا الواقعي/ الشعري  فهو ما لايمكن تجليته.  الواقعي هو المباغت الغامض الذي يجتاح  الأنا ويأسره. وعليه ، فالمباغتة وفق هنا  السّمت الباطني، هي عنصر مشارك للكينونة. ويمكن القول أنّ الواقعية  تبدأ من حيث ينتهي الحديث عن الواقعي ، إذا ما اعتبرناه  سمة تعبيرية ملازمة للشاعر. الواقعية هي المعنى النثري  التي يضفيه قارئ الشعر للملمة الشتات المرجعي  للتعبير الشعري . ذلك أنّّ الشعر يدعم الحاجة الجذرية للإنصات للآخر،  من خلال إشراكه في عوالم الترميز والإيحاء،  وإغوائه بمغازلة المتلاشي  المجاور للاّمسمّى،  وبالتّالي ، حفزه على كشف القناع  وفك الحصار عن عزلته الخجولة. 

أنفاستعريف الرومانسية:  مجموعة من الحركات الفنية والأدبية ظهرت في أوروبا في بداية القرن التاسع عشر على قاعدة الرفض الكلي لكل ما قدسته الكلاسيكية وتقديس كل ما رفضته.
 فالرومانسية مذهب فني أدبي ونقدي  تشكل بفضل جهود الرومانسيين كما عكستها أعمالهم ؛ وتجسدت فيها ثورة روح شمال أوروبا على عقل جنوبها الصارم، ولم تتضح حدود الرومانسية كمذهب متميز إلا بعد مخاض طويل استمر نصف قرن من الجهد حتى اتضحت  معالمه وتحددت مع النصف الأول من القرن 19.
ظهرت بوادر المذهب الرومانسي أول ما ظهرت في انجلترا مع الشاعر الانجليزي يونج young  في  ديوان أشعاره "الليالي " ثم مع الأديب الإنجليزي صمويل ريشاردسون؛ ثم شاعت في انجلترا وانتقلت منها إلى ألمانيا فكان من روادها هناك مجموعة من الشعراء والكتاب أشهرهم شيلر،وجوته الذي اشتهر بفضل كتابه آلام فرتر و الذي أحدث ضجة في أوروبا وتهافت عليه القراء والدارسون.
خصائص المذهب الرومانسي:
 المبدأ العام الذي قامت عليه الرومانسية هو رفض كل ما هو كلاسيكي والثورة على جميع القيود الفنية المتوارثة من الآداب الإغريقية واللاتينية فقد غلبت على الرومانسيين نزعة التمرد على هذه القيود التي التزمها الكلاسيكيون، فدعوا إلى التخلص من كل ما يكبل الملكات، ويقيد الفن والأدب، ويجعلهما محاكاة جامدة لما اتخذه اليونان واللاتين من أصول:
1 -  إبعاد العقل عن كل نشاط له علاقة  بالفن إبداعا وتذوقا.
2 -  تقديس الحرية الفردية: لتنطلق العبقرية البشرية على سجيتها دون ضابط لها سوى هدي السليقة والإحساس الطبيعي للفرد.
3 -  تمجيد العاطفة والخيال :جاءت الرومانسية لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم والخيال والتمرد الوجداني، والفرار من الواقع، والتخلص من صرامة العقل.
4 - العودة إلى الأصول: وهي عندهم الأغاني و الأشعار الشعبية وألوان الفلكلور المحلية بكل ما تحمله من بساطة و طيبة؛ وعفوية؛ وسذاجة وبراءة ؛ وطهر ونقاء.
5 - تقديس الطبيعة   لدى الرومانسيين كل ما هو طبيعي حقيقي وجميل وطاهر وسعادة الإنسان في الفرار إلى أحضان الطبيعة  و منجاتها والتغني بجمالها وكرمها.

أنفاسموضوع الشهرة أو الانتشار الذي يحصده بعض المشتغلين في الحقل الرمزي دون سواهم من الظواهر الإنسانية  الأكثر استشكالا ، يتجنب الكثيرون الخوض فيه  ، ويربط البعض ممن يقدم على ذلك الشهرة بالعبقرية أو الذكاء الخارق أو النبوغ أو ما شابه هذه الصفات ، و التي و إن كانت تلامس التفسير ، فإنها لا تمسك به. بينما يرد البعض الانتشار بشكل ميكانيكي تبسيطي إلى عوامل من خارج الحقل الرمزي، من الحقل السياسي في الغالب، و من الحقلين الاقتصادي و الإعلامي في حالات عديدة، و من الحقول الثلاثة مجتمعة و متداخلة في أحسن الأحوال. و ضمن كل هذه الأنماط من قراءة ظاهرة الشهرة ، تبقى المنتوجات الرمزية التي من خلالها و بها تحقق الانتشار لصاحبه بعيدة عن كل نبش و حفر و تفكيك ، و الحال أن في ثناياها و بين تضاريسها يوجد التفسير ، أو على الأقل الجزء الأهم منه.
و قد يكون تأخير عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديوPierre Bourdieu محاولة البناء العلمي لظاهرة الشهرة إلى آخر مشواره ذا دلالة عميقة ضمن حديثنا عن استعصائها ، و هو الذي نبش في أشد الظواهر و الوقائع تعقيدا و تمكن من بنائها علميا ، و أزاح – بذلك مثلا – قناع البراءة و الحياد عن المؤسسة التعليمية ، وكشف تورطها في السياسة باعتبارها جهازا في يد السائدين لممارسة العنف الرمزي و تطبيع الحرمان و الفاقة إلى جانب الغنى الفاحش و الاستهلاك السفيه، و كذا لإعادة إنتاج نفس علاقات القوة داخل المجتمع من خلال المسالك التي تتيحها لأبناء كل شريحة اجتماعية على حدة.  كما رصد استمرار استفحال التمييز بين الرجل و المرأة و الطابع الذكوري للمجتمعات الغربية التي لا تفتأ تدعي الديمقراطية و المساواة ، كيف ذلك و الأستاذة الجامعية الغربية تبوح بكونها " تجد زوجها الذي يشارك في أعمال المطبخ رجلا ينقص من رجولته " ! كما يسجل بورديو. إلا أن إثارة الموضوع المتأخرة لم تكن مانعا أمام جعلها مدوية باتخاذها شكل إعلان ميلاد علم جديد هو الذي أطلق عليه بورديو اسم " علم الأعمال الفكريةscience des œuvres، و نحت أو إعادة بناء مفاهيم خاصة تمكنه من مجابهة وقائع الحقل الجديد ، كمفهوم "الحقل ")إعادة بناء( ، و الميكروكوزم   Microcosme )الحقل الصغير أو الجزئي كالشعر أو الرواية أو القصة مثلا داخل الحقل الكبير الذي هو حقل الأدب( )نحت(، و "الحرب" داخل كل حقل وكل ميكروكوزم بين الفاعلين فيه ...الخ. و هذه أرضية صلبة يعتمدها العديد من الباحثين اليوم بعد وفاة بورديو ، ستمكنهم لا محالة من كشف ألغاز العديد من القضايا الممتنعة إلى حد الآن )انظر موقع بورديو على الانترنيت و خصوصا كتابه "Raisons pratiques-sur la théorie de l action" ، و كذا تعاليق العديد من الباحثين عليه ، و بالضبط على الفصل المعنون ب :"من أجل علم الأعمال الفكرية"( ، و قد يكون موضوع الشهرة التي ينتزعها بعض الكتاب دون غيرهم على رأس القضايا التي سيتم فك شفرتها خلال العقود الأولى من القرن الذي نحياه. فكيف تحققت للكاتبين المغربيين محمد شكري و محمد زفزاف؟

أنفاسيتفق علماء السرد (Narratology) على أن اغلب قراء القصة القصيرة يشهدون بأن القص الجميل يمكن أن يصل إلى أعلى مراتب الفنون، وخاصة عندما يقبض موضوعها على هم إنساني كبير. فالقاص المجيد يطول بقلمه ما تطوله الفنون الأخرى، تقنية وإخراجا حيث يقود قصته شكلا ومضمونا لما تصل إليه تقنيات التكنولوجيا في السينما الحديثة، ويستطيع ان يحملها موسيقى هائلة، ويوقعها في نفس قارئه، وتظل تلازمه حتى وان انتهت القراءة فالنص الجميل سوف يبقى في الذهن يطارد قارئه، يمسك به لأجل أن يعود إليه مستدرجا اللذة إلى كمّها الأخير.. (فإذا كان الحب يعمي عن المساوئ، فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم، ومعتدل الأغلاط عليم، والقوي المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستمل الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر- الجاحظ)، فإذ تتشكل كل مرة بمنظور جديد، وتعطي ذاتها كل مرة معاصرة لأحداث قد تنبأ النص بها، فالذهن يقارن اليوم وغداً، ويستشرف دائماً من خلال الإبداع، المهارة، والاستباق.. وقد اثبت المبدع (حسن كريم عاتي) في كتابه الصادر عن دار الشؤون الثقافية (2007م)، الموسوم بـ(عزف منفرد) بان فن القصة يستطيع ان ينافس الفنون الأخرى،  شكلا ومضمونا إن توافر على مادة شيقة قد تكامل فيها كل ما يؤشر لصالح الكتابة المبدعة، حيث جاءت القصص (ألاثني عشر) بلغة متينة ارتقت إلى التعدد في المعنى، لتقرأ أكثر من مرة بتمحيص بحثا عن الاكتشاف الممتع لما فيها من جهد أنساني رفيع يبشر بتأشير جليل على خريطة الإبداع العراقي المتمكن، فتبلورت في جملة جماليات مقتدرة أجادها القاص المتمكن من سرد استنبط الأسس التي قامت بعقلانية من خلال نظم واضحة التعبير حكمت نتاجه وتلقيه.. في قص يأخذ القارئ ليركب بحرا عظيم اللجّة متلاطم الأمواج، ما بين موت محدق، وحياة حرّة كريمة..قصة مواجهه ذئب جسور وأنثاه الشرسة.. بتحدّ هائل الوقع أتقن القاص تصويره بموضوعية حاسمة دقيقة التفصيل… فـ(القصة الأولى- ليل الذئاب) بدأت فيها أنثى الذئب بالعواء التواصل لأجل ذكرها المقتول في غارة على قطيع تعودا النهش فيه كل ليلة حدّ الفناء.. ذئبان قويا الشكيمة، هما اللذان شكلا خطرا بليغا على الإنسان، وكلبه، وقطيعه.. بعد أن تعودا على إهانة ملكيته، وهدر كرامته، صار الصراع حتميا لن ينتهي إلا بالفصل القائم بالسلاح المواجه بكل مشروعيه، وعقلانية.. مصرا فيها الإنسان على احتراف قدره العظيم في الغلبة الدائمة على ظهر هذه البسيطة.. حيث يحفر حفرة دفاع أعدت بعد تفكير ملي.. لذلك الشأن وبقي بداخلها في ليل طويل ماطر، متشبثاً بالبندقية حبل خلاصه الذي لا يريم، إذ يصيب مقتلا في إلتماع العينين المتوقدة بالفتك.. بعد صبر، وخبرة الأربعين الرصينة.

أنفاسيعتبر الوشم تقليدا طقوسيا عريقا وموغلا في الثقافة الأمازيغية، وغالبا ما يرتبط بالنظام القيمي أو الثقافي لدى المجتمع الأمازيغي الذي مارسه، أو بتقاليده ومعتقداته وديانته، فالإنسان الأمازيغي كان يعيش في عالم من الرموز والعلامات والقوانين التي يقصد بها التأكيد على انتمائه إلى هويته الأمازيغية، فهو إذن أسلوب ذو مضمون ثقافي أو ديني أو إجتماعي له علاقة وثيقة بالتفكير الأسطوري أو الفلكلوري كما يمكن أن يكون ذا مضمون جنسي ـ كما سنرى ـ خاصة عند المرأة الأمازيغية التي تتزين بالوشم في غياب المساحيق الملونة قصد التميز عن الرجل (1) ، ولقد ظل الوشم عبر العصور برموزه وأشكاله وخطوطه من بين أهم وسائل الزينة وتجلياتها القارة والدائمة على أجزاء معينة من جسد المرأة خاصة الوجه واليدين والرجلين(2). ويكتسي الوشم في ظاهره وباطنه دلالات عديدة وعميقة، فهو يأخذ من جسم الانسان فضاء للتدوين والكتابة ولوحة للرسم والخط (3). تقول الشاعرة الأمازيغية في هذا الصدد:

أسيذي عزيزي إينو, راجايي أذكنفيغ
ثيريت إينو ثهرش, ذ تيكاز إيذين ؤريغ (4)


ان الشاعرة هنا، مقبلة على الزواج، ترجو وتلتمس من أسرة عمها حيث يوجد العريس، أن ينتظروا ويتريثوا قليلا حتى تبرأ وتلتئم الجروح التي خلفها وخز الوشم في عنقها. يأخذ البيت الشعري هنا تيمات متعددة يبرز فيها الجسد فضاءا للابداع والكتابة، وجعله لوحة تنطق بالجمال والحسن الذي تؤثثه وتزينه الرموز الملونة المختلفة الألوان والأشكال والدلالات على جسد مقبل على الزواج.
إن المرأة الواشم مبدعة تكتب لتضع لذة النص ـ أو الرمز ـ المكتوب بيد المتلقي ذكرا أو أنثى لاكتشاف نهايات الجسد الأنثوي الاشتهائية، ينتقل عبرها الجسم من نظام الأيقونة إلى الجسم اللاهوتي (5).
ومن المعروف في منطقة الريف خاصة والمغرب عامة أن الوشم من أدوات الزينة الضرورية لأية فتاة ناضجة، وفي هذا نجد جورج كرانفال يقول: “الوشم في هذه البلاد عند النساء اعلان عن مرحلة النضج والاستعداد لاستقبال الرجل والاناطة بوظيفة الزواج” (6) ، بحيث يصبح الوشم بالنسبة للمرأة الأمازيغية…بوابة عبور لسن الرشد ومعه بوادر الزواج وهو في هذه الحالة يكتسي بعدا استطيقيا ويصبح مظهرا جماليا تود من خلاله المرأة الشابة ابراز مفاتنها، واعلان نضج انوثتها، فيصبح الوشم خطابا وعلامة سميولوجية تستهدف الآخر- المشاهد(7)، يقول الشاعر في هذا المعنى:

أنفاسالسكين لا القلم هو ما يكتب به محمد الماغوط أعماله، سواء كانت تلك قصائد أو مقالات أو مسرحيات، وهو يعمل القلم في ذلك الجزء الذي يبدو سليما من الجسد وينكأ الجراح المنتشرة فيه حتى لا تكون هناك راحة واسترخاء، وحتى لا تكون هناك طمأنينة إلى أن الجسد سليم معافى، فالجسد ليس سليما، بل مريض مثخن بالجراح من الرأس حتى أخمص القدم، والتغافل عن هذه الحقيقة يعني مزيدا من الجراح ومزيدا من الخراب.
السكين التي يكتب بها الماغوط هي سكين السخرية الجارحة القاتمة القاتلة المقطعة للأوصال، والجسد هو جسد المواطن العربي - بالمعنى الحرفي للكلمة - الذي أنهكته سياط الجلادين قبل أن ينهكه بؤس الحياة نفسها، والذي عانى من خيانات الأصدقاء أكثر مما عانى من طعنات الخصوم وهزمته الزنازين والأقبية قبل أن يهزمه الأعداء فتحول من "إنسان" يبحث عن مستقبل مشرق في وطنه الحر السعيد إلى "حطام إنسان" يبحث في حاويات القمامة عما يسد به رمقه.
وهذا البؤس وتلك القتامة ليست وليدة أخطاء هنا أوهناك، كما أنها ليست أخطاء في تطبيق نظريات التقدم السياسي والعدالة الاجتماعية حدثت في هذا البلد أو ذاك، بل هي وليدة خلل في المجتمعات العربية تراكم عبر تاريخ دموي مليء بالقمع والاضطهاد وتجريد الإنسان من آدميته، يتساوى في ذلك الحاضر مع التاريخ الحديث والقديم، والأمجاد التي يكثر الحديث عنها، هي مجرد قصائد تلقى وأناشيد ترتل وأغاني تؤدى، وهي في واقع الأمر نقيض الواقع والتاريخ معا، وما يزيد الأمر قتامة أن الذين يحاولون أن يغيروا هذا الواقع عادة ما يكونون حالمين أو انتهازيين، وإن نجحوا في إحراز نصر ما فإن هذا النصر محكوم بالوقوع في أيدي مجموعة من اللصوص وسارقي النصر والثورات والفرح.
في مسرحيات الماغوط يجد المتفرج نفسه وجها لوجه أمام التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا، وهي عديدة فهناك التناقضات بين طبقات المجتمع وفئاته؛ تناقضات الحاكم والمحكوم، الضحية والجلاد الثري والمسحوق المثقف والجاهل المناضل والانتهازي الثائر وسارق الثورة، وهناك تناقضات المجتمع مع قيمه؛ تناقضات بين الإنشاء الذي يملأ حياتنا عن واقعنا الزاهي وحياتنا الرضية ومجتمعنا المتكافل، وبين واقعنا الحقيقي الذي ينتشر فيه الفقر والجهل والظلم والاضطهاد ويسود التآمر وتكثر الوشايات والدسائس. تناقضات بين الإنشاء الفارغ الذي يتحدث عن المواطن باعتباره القيمة العليا في المجتمع وبين الحقيقة المرة التي ترى في المواطن عبئا ثقيلا يجب التخلص منه بالسجن (ضيعة تشرين)، أو بإقصائه خارج البلاد في غربة أكثر إذلالا من البقاء على أرض الوطن (غربة).

أنفاس"أبو سلمى".. هو عبد الكريم سعيد علي المنصور الكرمي. وإذا كانت كنية "الكرمي" تنسبه إلى بلدته الفلسطينية طولكرم التي أنجبته ذات يوم صيفي من عام 1909، فإن مدينة حيفا كانت حبه الأثير. فهو محاميها الشهير، وشاعرها الوفي. وتقتضي الأمانة الموضوعية أن نشير إلى أنه اختار لحيفا ضرّة عربية هي دمشق. فقد درس فيها المرحلة الثانوية. ثم لجأ من حيفا إليها بعد نكبة 1948، وعلى كثرة أسفاره في الدنيا شاعراً ومعرّفاً بالقضية الفلسطينية، فإنه لم يغير عنوانه الدمشقي، حتى بعد أن أغمض عينيه إلى الأبد في الحادي عشر من الشهر العاشر للعام 1980 في العاصمة الأمريكية، بين يديّ ولده الوحيد، الدكتور سعيد الكرمي، الذي حرص على نقله، بناءً على وصيته، إلى دمشق، حيث شهدت العاصمة السورية، في وداعه، واحداً من أكبر مواكب التشييع في تاريخها، وبدت مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك وكأنها ساحة يوم القيامة. وكان أبو سلمى من أسرة علم وأدب. فأبوه الشيخ سعيد من العلماء الأجلاء واللغويين الثقات وكان عضواً مؤسساً في المجمع العلمي العربي. أما أخوه أحمد شاكر الكرمي فكان من الصحفيين العرب الرواد ومن وجوه الوطنية والقومية حتى أن دمشق أطلقت إسمه على أحد شوارعها. وبرز أخوه حسن الكرمي "أبو زياد" كراوية علاّمة، وحقق شهرة مدوية من خلال برنامج "قول على قول" الذي كان يعدّه ويقدمه بصوته من إذاعة لندن. ارتبط أبو سلمى برفيقة عمره، المناضلة رقية حقي في عام 1935وقد تم الزواج في مدينتها عكا. ولم ينجبا "سلمى" ولكنه كان ينادى بأبي سلمى، لأسباب شعرية، منذ أن كان يدرس في معهد عنبر أيام المرحلة الثانوية في دمشق. وقد شكل أبو سلمى مع إبراهيم طوقان وجلال زريق ثلاثياً ظريفاً في الحياة والشعر. ولا يزال الرواة يتناقلون شفوياً قصائدهم الماجنة المازحة بألفاظها المكشوفة، وكثيراً ما لا يميز الرواة، في هذا المجال، بين ما كتبه إبراهيم وما كتبه أبو سلمى.
قد يسأل متسائل..لماذا أبو سلمى الآن؟.. يَرِدُ هذا السؤال، حسب وضع السائل، إما بحثاً عن مدخل للكلام، وإما جهلاً بطبيعة الشعر. لأن أبا سلمى حاضر فينا، أو لأنه الوفاء، أو لأن الانتفاضة تعيد إنتاج أيام أبي سلمى في النضال.. وتأتي هذه الأجوبة، حسب وضع المجيب، إما لأنه لابد من جواب، وإما تماهياً للمغني مع الأغنية، وإما جهلاً بطبيعة الشعر.
 فالشعر، في جوهره، لا يتوسل مناسبة للحضور، حتى لو نجمت بعض القصائد عن بعض المناسبات. ولا يقبل الشعر وساطة بين مبدعه وقرائه بدعوى أهمية المبدع في الذاكرة التاريخية. فتلك الأهمية من شؤون التاريخ أو الأخلاق. وليس معنى ذلك إسقاط المغزى النبيل، أو الرسالة، أو الفكرة المركزية التي نذر لها المبدع جهده دماً وحبراً. ولكنه انتصار لشعرية الشعر، وإصغاء للنبض العميق المبرأ من الزوائد، والمرشح للبقاء..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة