يمثل هذا المقال حصيلة أولية لعمل مجهد، امتد على مدى أزيد من أربع سنوات متقطعة، في محاولة قراءة وفهم العوار الكرنولوجي المزمن لمصادر السيرة النبوية، وينطلق من سؤال واضح و بسيط. هل كانت وقعة بدر الكبرى بين المسلمين بقيادة النبي محمد بن عبدالله، والمعارضين لدعوته من قبيلته قريش، بزعامة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، في: "يوم الجمعة لست أو سبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان"[1] من السنة الثانية للتأريخ العمري، الموافق في الكرنولوجيا السائدة يوم الثلاثاء - أو الأربعاء تنزلا - 16 مارس 624 ميلادية غريغورية؟ وهل كان ثمة إجماع قديم حول هذا التأريخ في مصادر السير والمغازي؟ أم أن هناك من تجرأ وأرخ هذه الوقعة العظمى خارج رمضان الجمهور؟
نعم هذا هو التأريخ وموافقه الشمسي الميلادي! يمكن للقارئ أن يتجاوز المفارقة الزمنية القائمة فيه بالهروب إلى الأمام، متذرعا بالهلال، يمكنه أن يزعم أن الزمن النبوي زمن مقدس عصي على القبض، مفارق لأي محاولة للضبط، بل أكثر من ذلك، يمكنه أن يتهم الإصلاح الغريغوري بخلخلة نظام الأيام.
قد يجادل أيضا في أن الشهر شهر رمضان، وإن الخلاف قديم في العدد دون اسم اليوم والشهر رادا بذلك روايات متظافرة ينصر بعضها بعضا عن شهود عيان، تضاهي في حجيتها الروائية لدى المحدثين والمؤمنين بقداسة الرواية أحاديث شعائر الإسلام، لصالح تـأريخ ترقيعي ثابت كلنداريا في شهر النسي المواطئ للتأريخ السائد: "الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت[2]" من شهر جمادى الأولى النسي المواطئ لشهر رمضان العدة المستقيمة من السنة الثانية للتأريخ العمري، الموافق 19 مارس 624 ميلادية غريغورية، وتأريخ يوم الخروج إلى بدر تبعا لذلك، بيوم "الاثنين لثمان خلون"[3] الموافق 8 مارس 624 م. غريغورية، وهو تأريخ ابن هشام. أو بتاريخ ابن اسحاق "الأربعاء لثلاث خلون"[4] الموافق 3 مارس 624م.غريغورية، بيد أن المفارقات في تأريخ وقعة بدر الكبرى أكبر من أي حل ترقيعي جاهز، وبمناسبة الحديث عن المفارقات، فإن هذا التأريخ السائد لبدر الكبرى، هو أيضا جمادى النسي وربيع أول شبح على رأس خمسة وعشرين شهرا، أرخ به الواقدي مقتل خنيس بن حذافة السهمي ربما ثاني اثنين قتلا ببدر؟ أو وفاته بالمدينة مرجع النبي منها، وزواج عثمان بن عفان من أم كلثوم بعد وفاة أختها رقية والرسول ببدر، وهو أيضا تأريخه لغزوة ذي أمر ولسرية محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف؟!
بقدر ما يبدو هذا السؤال نوعا من الترف الفكري، فإن الضبط الزمني للواقعة التاريخية يعتبر بالنسبة لنا عاملا أوليا حاسما في الرقابة على الرواية الشفوية، ومنخلا يسمح بفرز الخبر التاريخي وتصنيفه وإضفاء طابع المصداقية التاريخية عليه، بل والبناء عليه كنقطة مرجعية في تركيب تصور ذهني عن الوقائع التاريخية السابقة واللاحقة وفق منظور اتساقي واضح، ومن ثمة الخروج بسردية تاريخية تقارب الحدث التاريخي العام من زاوية العلاقات السببية والسياقية القائمة بين مجموع الأحداث المتشابكة التي تفاعلت في صناعته. بل لا نبالغ إن قلنا: إن زحزحة تأريخ واحد يمكن أن يطيح بكامل السردية، فاتحا بذلك الباب لذاكرة الهامش المقصي من الحضور، للبروز والتجلي في أبهى الصور.
يكتسب هذا السؤال في واقع الأمر جدته وجديته، بالنظر إلى الاستعادة المحينة لكل وقائع الإسلام المبكر على مدى التاريخ الإسلامي كأحد أهم طقوس حفظ الذاكرة الروائية من الاندثار؛ وفي سياق فكري عالمي يتسم براهنية السؤال عن الإسلام المبكر، وبمراجعات لتاريخية هذا التاريخ ومصداقيته، بوضعه على محك الاختبار و الدرس الأكاديمي المبعثر الرؤى هنا وهناك، و بطروحات أضحت أكثر سماجة والتصاقا بخيالات أصحابها من أي وقت مضى، تاركة "المعطيات الهشة القابلة للتلف" التي حملها التقليد الروائي على مدى عهود طويلة من الزمن، في نوع من الجحود والإنكار لمجهود خرافي بالقياس إلى تاريخ أي أمة أخرى في بداياتها المبكرة. وبدل الاستعادة المتكررة لهذه الذكريات النبوية الحاضرة في المعيش اليومي لجميع المسلمين، فإن الوقوف عندها بالدرس والتحليل والنقد المتجاوز لتقديس الرواية الشفوية وأقوال السلف لكفيل بخلق عقلية أخرى أكثر جدلا في مقارعة الخصوم الثقافيين لهذا التراث، و بناء تصور تاريخي أكثر اتساقا وتصالحا مع بعضه البعض أولا وأخيرا.
بهذا المعنى، فإن المفارقة القائمة في تأريخ وقعة كبرى من حجم وأهمية بدر القتال تضع كل فهمنا التاريخي أو جزء منه على المحك، وإن استمرار مثل هذا العوار الكرنولوجي المزمن في مصادر تاريخ الإسلام، يعيق بناء أي تصور حقيق بالاعتبار والإنصاف الموضوعي النسبي لما هي عليه الأمور في واقع الأمر، مما يزيد من حدة التشويش الروائي والضبابية القائمة حول عدد من الوقائع والأحداث المرتبطة بالسيرة النبوية، وبتاريخ الإسلام المبكر بشكل عام.