
1 - فقد نظرنا إلى التراث القديم نظرة المستشرقين وكأننا متفرّجون عليه ولسنا أصحابه، نعيب عليه قصوره وكأننا لسنا مسؤولين عنه. نكرّر ما قيل ونجمع بين أجزائه، وأقصى ما نفعله نشر المخطوطات دون تغيير أو تطوير أو إعادة اختيار. في حين أنّ التراث القديم ليس منفصلا عنّا، بل هو جزء منّا، ونحن جزء منه، كوّننا وأعطانا تصوّراتنا للعالم، وأمدّنا بموجهات للسلوك. نحن مسؤولون عنه بقراءتنا له مثل مسؤولية القدماء الذين أبدعوه. كما تركناه بلا موقف منّا إزاءه في القراءة والتفسير والفهم والتأويل. نكرّر الاختيارات القديمة، والمذاهب السالفة ولا نعرف كيف نشأت وأيّ أغراض خدمت. وبالرغم من تغيّر الظروف القديمة ونشأة ظروف جديدة تتطلّب اختيارات بديلة، فإننا نكرّر الاختيارات النمطية القديمة التي تعارض في أهدافها ومنطلقاتها الظروف الجديدة التي نعيشها اليوم وكأنّ التراث جسم ميت، وجثّة هامدة، ننقلها بلا واقع أو تاريخ أو حياة أو عصور أو أصحاب أو أهل، ومن ثمّ يخرج الطلاب من جامعاتنا وهم منفصلون عنه نفسيّاً يتصوّرونه "كتباً صفراء"، و"قيل وقال"، لا أمَل فيه، لا يثير قضيةً، ولا يقدّم حلاّ، فيتوجّهون إلى الثقافات المعاصرة حيث يجدون فيها أنفسهم فيزداد شعورهم بالقطيعة مع التراث القديم كلما ازداد "التغريب"، ممّا يجعل بعضهم يقوم بردّ فعلٍ على ذلك فيتمسّك بالقديم كلّه، ويرفض المعاصرة كلّها، فتنقسم الأمة إلى فريقين: فريق يرى صِلته بالتراث صِلة انقطاع ثم قطيعة، وفريق آخر يرى أن صلته بالتراث صلة اتصال ثُمّ وصال. الأول يرى في التراث كلّ شيء والثاني لا يرى في التراث أي شيء.
ولم ندرس علم أصول الفقه بأكمله وهو ما يعبر عن إبداع المسلمين وإحساسهم بالعالم ووضع مناهج الاستدلال بعيداً عن الإشراق، وأحكام منطق اللغة بعيداً عن الخطابة والجدل، ووضع شروط للتواتر والآحاد بعيداً عن الروايات الموضوعة التي تُلهب الخيال وتتحوّل إلى جزء من الأساطير الشعبية، ووضع أحكام للفعل ووصف مناهج للسلوك بعيداً عن الكبت والحرمان والازدواجية والنفاق. لم ندرس إبداع المسلمين في وضع مناهج للرواية لضبط النقل أو وضع أصول المنطق الحسي الذي يقوم على المشاهدة ومجرى العادات أو المنطق الأرسطي ووضع منطق بديل يقوم على قياس الغائب على الشاهِد، وقياس الأولى، وأن ما لا دليل عليه يجب نفيه. لم نعتنِ بكيفيّة نشأة العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية (اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم ندرسها إلاّ في إطار (تاريخ العلوم والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم ندرسها إلاّ في إطار "تاريخ العلوم عند العرب" كجزء من تاريخ العلم كما يفعل الغرب، ولم نحاول نحن معرفة الصّلة بين التوحيد والعقل، بين التوحيد والطبيعة، وكيف استطاع القدماء بعقلية التوحيد اكتشاف الرياضيات وقوانين الطبيعة. فوُضِعَ ابن رشد مع باقي الفلاسفة، وابن خلدون مع باقي المؤرخين دون إدراك للنوعية والاختيار.