أنفاسنموذج أسطورة  الكون والحيوان العجائبي
مقدمة

 نسجت الأسطورة  داخل الحقل العربي الإسلامي الوسيط متخيلا دينيا وأدبيا استطاع أن يخترق حدود الزمان ويتسرب داخل كتابات متعددة الأغراض كونت النواة الأولى للثقافة العربية الإسلامية. فظاهرة الوضع التي أثرت في الحديث النبوي وظاهرة ما يسمى " الإسرائيليات " وعلاقتها بكتب التفسير وظاهرة العجائب وعلاقتها بكتب الأدب والجغرافيا والحكايات بصفة عامة، ما هي  إلاّ عناصر تحدثنا عن الصلة الوطيدة بين هذه الأنواع الدينية والأدبية والمتخيل الذي يستمد قوته وتنتعش روحه داخل عالم الأسطورة.
 فالحدث الأسطوري، الذي يمثل " تاريخا مقدسا "، يستغّل أدنى فرصة يعطيها له النص المقدس ( القرآن) أو النص الحديثي أو الأدبي بصورة عامة فيشبعهم سردا. يُتمّم ويصنع الظروف والسياقات ويضيف الحلقات الناقصة داخل سلسلة الحكي.
 ونجد داخل الأغراض الأدبية السالفة الذكر وحدات سردية وحكايات مزركشة مصنوعة بقماش عجائبي وعناصر أسطورية تعطينا فكرة عن الدور الفعّال الذي
لعبه شخص القاص ( أو القصّاص) متلّبسا أقنعة مختلفة (مُذكّرا وواعظا ومفسرا) حيث أثرى هذه الحكايات بواسطة مخيلته الفياضة. فتكوين هذه القصص بهذه العناصر جعلها تحفظ لنا جانبا من جوانب المتخيل الديني والأدبي الذي كان سائدا في السرد العربي الإسلامي الوسيط .
  وبناءا على ما سلف فقد عرفت قصة خلق الكون عملية أسطرة باعتبارها الحدث التأسيسي الأول الذي أخرج  إلى الوجود كل الوحدات المكونة للكون، وأنتجت هذه الأسطورة داخل الحقل العربي الإسلامي متخيلا دينيا وعجائبيا وليد عمليات تفسيرية و تأويلية    متنوعة . سنحاول في  الجزء الأول من هذا المقال تسليط الأضواء على مكونات وتجليات هذه الأسطورة انطلاقا مما ذكره  الراو   يأبو  اسحاق        الثعلبي  من مواضيع وعناصر مختلفة لأسطورة خلق الكون -الأرض والسماء والشمس والقمر  - في عرائس المجالس).أما فيما يخص الجزء الثاني من  المقال   المتعلق بالحيوان العجائبي فسنتطرق للأسئلة التالية:  كيف أدرج الثعلبي الحيوان العجائبي في سرده؟ وما هو دوره داخل سرديات قصص الأنبياء ؟ما هي المكوّنات    والعناصر التي ساهمت في تصويره؟ أسئلة نحاول الإجابة عليها انطلاقا من أمثلة سردية.
1.1الثعلبي وأسطورة الكون

أنفاس مثلما استطاع جمال الدين أن يوفق بين تفكيره الإسلاموي وتفكيره القومي استطاع , بالمثل , أن يوجد نوعاً من الروح المشتركة التي تجمع فيما بين الاسلام والعروبة .
وانسجاماً مع هذا الموقف حمل جمال الدين لواء الدفاع عن اللغة العربية لكونها الرابط الذي لابديل منه بين أفراد الأمة . فهي تؤدي الى التحام , ورأي التحام , في نسيج الأمة وبنيتها . وأكثر من ذلك حيث شاهد أن ( الجامعة اللغوية ),وهي التسمية التي أطلقها الأفغاني على وحدة اللسان العربي , تنطوي على ما هو أخطر من تلك الصيغ والتعابير والمفردات اللغوية . فهي ( الجامعة )التي تحفظ تراث الأمة وآدابها وحضارتها وتاريخها , كما أنها – وهذا شيء مهم بذاته – تنطق بقرآنها .
 ولم يكن جمال الدين , في دفاعه عن اللغة العربية , ينطلق من فراغ , وإنما انطلق في ذلك الوقت من حالة كانت سائدة في بلدان المشرق العربي, وهي حالة العجمة في اللسان العربي . وقد أفرزتها سياسة التتريك التي كانت متبعة آنذاك في بلدان المشرق.) فثمة تيار مستعجم , محتقر للغة العربية وآدابها وتراثها , راح يطل برأسه , وكان " اسلوباً عجيباً لإضعاف لغة القوم , والتدرج بقتل التعليم القومي "كما يصفه الأفغاني .وقد رفع الصوت منبهاً دور التعليم والقيمين عليها الى هذا الخطر المحدق بالعرب الذين باتوا مستهدفين لا في أوطانهم وحسب وإنما أيضاً في تراثهم وحضارتهم وآدابهم , والأهم أنهم باتوا مستهدفين في قرآنهم .
ولعل أكثر ما كان يقزز نفس الأفغاني مشاهدته لواحد من العرب وهو يرطن في لغته ويتباهى بازدرائها . ومما أثار حفيظته أن ظاهرتي الرطانة وازدراء اللغة انتشرتا بشكل لم يسبق له مثيل في أوساط المثقفين والأدباء . وهذا ما حدا الأفغاني , على التأسيس لتيار من المنشئين والأدباء المتمسكين بأصول لغتهم وتقاليدها , والرافضين لأي رطانة أعجمية أو سجع أو تزويق لغوي مبالغ فيه , وهي أمراض ثلاثة كانت تعث في جسد اللغة العربية وتحيله الى جسد رخو , ميت ,ولا حياة فيه .
وفي كل ذلك كان الافغاني يصدر عن خطة واعية إذ أن اللغة العربية هي العمود الفقري للثقافة العربية , وأن القضاء على الأولى يعني القضاء على الثانية . وأكثر من ذلك حيث أن لاشيء يجمع فيما بين العرب مثلما تجمع بينهم لغتهم. فهي عنصر أول وأساس في وحدتهم وجمع شملهم . وحفاظاً على هذه الوحدة يجب أن تنهض نخبة من الأدباء والمثقفين للذود عن لغة الضاد . ليس هذا وحسب وبل لتطوير وتحديث أساليب الكتابة الأدبية والفكرية بحيث تصبح اللغة العربية لغة عصرية بمكنتها استيعاب وهضم كل ما يجد على صعيد الأدب والفكر والعلم . وعندها يسقط أي ادعاء آخر بقصور اللغة العربية وبعدم قدرتها على هضم المعارف الحديثة , وعندها أيضاً – وهذا الأهم – يحافظ العرب على وحدتهم الثقافية والسياسية " فلا جامعة ( وحدة ) لقوم لالسان لهم – يقول الافغاني – ولا لسان لقوم لاآداب لهم , ولا عز لقوم لا تاريخ لهم , ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم وتنسج على منوالهم ".

أنفاس د- مصطفى صادق الرافعي . . الذي سار بنا في كتابه الرائع [ الدعوة والدعـاة في الإســلام ] .. يدور حول ما أُحبه وأعشقه . . إنها فاكهة القارئ ، وأُنس المتابع ، وقدوة الباحث ، وحكاية الزمان . . إنه ما قال عنه الإمام أبو حنيفة النعمان – رحمه الله تعالى- : ( إن السير أحب إلينا من كثير من الفقه ) فالسير مدرسة الفقه . . وعلم التاريخ . . وتجارب الحياة .
وحكاية الزمان . . والحكايات التاريخية . . عهدتها على الرواة . . ما . لم يتهم . . وهكذا تجلت ريشة الدكتور الرافعي لترسم الحديقة الغناء .
في كتابه آنف الذكر . . واختار عدد من الدعاة والعلماء . . ومنهم الإمام المجدد . .
والسبب لتأليف هذا الكتاب : ( فمن أجل حركة توعية رائدة ، ومن أجل تجهيز دعاة إسلاميين ذوي جدارة وأهلية ، لمواجهة النكبات التي تتوالى على الإسلام والمسلمين منذ أكثر من خمسة قرون ، أقدم هذه العجالة عن بعض الدعاة السابقين المؤهلين "رجال الإسلام" عسى أن يكون فيها بعض ما ينير الظلمات التي تكتنف حياتنا ،وتلف مجتمعاتنا ، وعسى أن تنشأ بوادر انتفاضة صحيحة تقوّم الاعوجاج ، وتزيح أستار الضلالة ، وتدفع بعربة الإسلام في طريق المجد والتقدم ) ومن القدوات لأبناء هذا الجيل إمام الدعوة السلفية المجدد محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله تعالى- ولنقف مع أديبنا د- مصطفى صادق الرافعي والإمام محمد بن عبدالوهاب .. حيث قال :
الدعوة السلفية
عاش الشرق الإسلامي زهاء خمسة قرون من عمر الزمن ، ينعم في بحبوحة ونعيم ، وحضارة وارفة الظلال ، بفضل نور الإسلام الوهاج الذي عمّم خيراته على كل أرض ، ونشر هدايته لكل قبيل. بعدها اعتراه الوهن والضعف ، فمر في عهود سوداء ، وحاقت به ظلمات حالكة ، فتقلصت هداية الإسلام عن أرضه أو أوشكت ، وأصبح تراث المسلمين نهباً مقسماً بين شذاذ الأمم ، وذئبان الشعوب ، يستغلون علومه ويستأكلون حضارته ، فسيطر على بلاده الغربيون ، فأذاقوها من العذاب أقسـاه ، ومن الألم أشده ، حتى انحدرت بلاد المسلمين إلى هوة عميقة من الضعف والتخلف والانحطاط.
ثم ما إن أطلّ القرن الثامن عشر ، حتى انطلقت صيحة واعية مؤمنة من قلب الجزيرة العربية ، تهيب بالمسلمين أن يتحرروا من الشوائب التي اعترت عقائدهم ، والخرافات والأباطيل التي شوّهت دينهم ، وأن يعودوا في جميع شؤون حياتهم إلى ما كان عليه حال السابقين الأولي من أسلافهم.
وكان مرسل هذه الصيحة ، الداعي إلى الله على بصيرة القائد الفذّ ، محمد بن عبدالوهاب ، وإليه تنسب "الحركة السلفية" التي دعت إلى إصلاح النفوس ، واستعادة مجد الإسلام ، فظهرت بظهورها تباشير صبح جديد ، فيه كل معاني الصباح ، من نور وضياء ، وإشراق ولألاء ، فأيقظ المسلمين من سباتهم العميق الذي رزخوا تحت وطأته حقباً طويلة من الزمن.

أنفاس ملخص البحث:‏
يحاول هذا البحث الكشف عن مدى تقدم نظرة ابن رشد إلى قضايا المرأة ضمن الشروط المعرفية والوضعيات الاجتماعية في عصره. فعندما كان يشرح كتاب "الجمهورية" لأفلاطون قدم أطروحة متكاملة بهذا الصدد يمكن اختزالها كالتالي:‏
تشترك المرأة والرجل في النوع والطبع والكفاءات الذهنية والعملية وإن اختلفت عنه في بعض الخصائص والوظائف. وحالة التردي التي كانت تعيشها النساء في المجتمع العربي المسلم آنذاك تعود إلى تصورات خاطئة موروثة من ثقافة قبلية ـ أبويّة تحرم المرأة من اكتساب الفضائل والمهارات عبر تجربتي التعالم الجاد والعمل الخلاق. وتغيير هذه الوضعية البائسة يقتضي تغيير وتجاوز تلك التصورات الخاطئة والمتحيزة ضد المرأة والتي لابد أن تورث المجتمع كله الضعف المادي والمعنوي نظراً لكون النساء يشكلن أغلبية المجتمع.‏
وبما أن هذه الأطروحة الرشدية جزء من جهوده في سبيل إعادة بناء الوعي لدى النخب الفاعلة وتنظيم العلاقات فيما بين أفراد المجتمع وفق منطق العقل والعدل والمصلحة المشتركة فإن الحوار معها مبرر ومفيد اليوم في المستويين النظري والعملي. فالقضية المشكلة لا تزال مطروحة علينا في هذين المستويين كما لا يخفى على كثيرين منا. ووجودها في مختلف مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وإن بدرجات متفاوتة من الحدة، يعني فيما يعنيه أنها إشكالية حضارية كبرى لا يمكن لأحد أن يحقق تنمية أو نهضة أو تقدماً من دون حسمها وفق منطق العقل الذي يتصل بمنطق الشرع أوثق الاتصال بحسب ابن رشد وأمثاله.‏
1 ـ مدخل: الفقرة ـ النص:‏
لم يتعرض ابن رشد (520 ـ595 هـ/1126 ـ 1198م) لقضايا المرأة بشكل مباشر إلا في فقرة موجزة يبدو كما لو أن الصدف وحدها هي التي دفعته إليها. ففي سياق اختصاره لكتاب "السياسة"(1) لأفلاطون كتب هذه الفقرة التي تبرز مدى أصالة فكره وعمق آرائه وجرأة مواقفه مقارنة مع خطاب الفقهاء التقليديين الذين كرسوا الكثير من التصورات القبلية ـ الذكورية المتحيزة ضد المرأة. فإذا كان هؤلاء قد أدمجوا الكثير من التصورات الأسطورية الخرافية ضمن خطاباتهم "الشرعية" لتغدو جزءاً من المعتقدات الدينية بالنسبة لعامة الناس، بل ولدى فئات كثيرة من النخب المتعلقة من الجنسين، فإن ابن رشد لم يتردد في بيان تهافتها ونفيها في ضوء منطق العقل ومقاصد الشريعة وتجارب الحياة الإنسانية كما سيلاحظ.‏
ونظراً لتعدد ترجمات الفقرة بعد أن فقد النص الأصلي لابن رشد فإننا سننقلها كما صاغها محمد عابد الجابري في "العقل الأخلاقي العربي"(2) بلغة قريبة جداً من لغة ابن رشد ومن ثم نناقشها بما يتناسب مع طبيعة هذه المقاربة وأهدافها.‏
يكتب الجابري: "وعندما طرح أفلاطون مسألة ما إذا كان من الواجب أن تشارك النساء الرجال في مهام حفظ المدينة، أم أنه من الأفضل جعل مهمتهن مقصورة على الإنجاب وتدبير البيت.... الخ، تدخل ابن رشد ليبدي رأيه من خلال أربع ملاحظات".‏

أنفاسإذا كانت العلاقة بين المعرفة والسلطة متداخلة ومتشابكة بحيث يصعب الكشف عنها وجلاءها، وإذا كانت السلطة تُمارس فعلها وتأثيرها ضمن حقلها ومجالها التداولي، فإن المعرفة وبما تملكه من سلطةٍ لا تكون أبداً بمنأً عن هذا الحقل، بل هي فاعلة فيه ومشكّلةٌ لحدوده ومكوّنةٌ لمستوياته الدلالية1. وإذا كانت السلطة أولية على المعرفة كما يقرر فوكو، فإن علاقات المعرفة تظل متداخلة أو كامنة إن لم تكن مندمجة في العلاقة التبادلية مع السلطة2.
وهنا تغدو أهمية المحاولة في إعادة النظر في أهم جانب من تاريخ المعرفة في الإسلام. هذه المعرفة التي يجب أن يُنظر إليها لا كإنتاجات فردية محضة أو كجزرٍ ثقافية معزولة، مقطوعة الصلة بمحيطها الاجتماعي والتاريخي، وإنما يجب النظر إليها انطلاقاً من وظيفية المعرفة الأصولية داخل جمهور المجتمعات الإسلامية، فالعلاقة جدليةٌ بين إنتاج المعرفة عند رجل العلم في الإسلام وبين معاناته اليومية لمشاكل ذلك الجمهور3.
فدَرسُ علم الأصول وإعادة تقويم بنية خطابه وطبيعة تشكّله ضمن الهموم والمشاغل المعرفية والاجتماعية لظرفيته التاريخية يجعل من تاريخ إنتاج المعرفة وتدوينها في الإسلام تاريخاً للمجتمع بأكمله بشكلٍ من الأشكال، والوقوف من جديد على بنية الخطاب الأصولي، وخاصة على طبيعة المقاصد الشرعية الكلية، من شأنه تجنيب الفكر الإسلامي المعاصر مزالق الوقوع في الغلّو والتقصير معاً، وذلك بفضل ما يتضمنه منطق تلك المقاصد من مراعاةٍ لطبيعة الوقائع، والعمل بالتدريج على تطويعه .
لقد تداخل الأخلاقي والسياسي في العلوم الإسلامية، إذ نلاحظ أنه بقدر ما تتعين أسماء المؤمن والفاسق والكافر بقدر ما تتحدد أحكام كلِّ واحدٍ منهم في المجتمع السياسي قبل الآخرة، وهو ما يعني أن التحديد الميتافيزيقي، لكلٍ من الإيمان والفسق والمكر يتخذ بالضرورة بعداً سياسياً، يؤدي مباشرةً إلى مسألة الحقوق والواجبات المجتمعية والسياسية4.
تجلّت هذه الظاهرة أيضاً "ظاهرة التداخل المعرفي" في الآداب السلطانية5،و في خطاب أبي الحسن الأشعري الكلامي. الذي يبني حكماً على واقعٍ سياسي تعيشه الأمة، حكماً يتخذ صفة الأبدية لما بعده والإلزام لمن يليه، إذ ما دام "الفساد" قد ظهر في البر والبحر، فلا يجوز الحديث عن ميثاقٍ يربط الحاكم بالمحكومين، والراعي بالرعية، بل حتى لو جاز الحديث عن ميثاق في بداية تأسيس السلطة السياسية وعقدها، فإن هذا الميثاق يفقد كل مصداقيته عقب ذلك (العقد) حيث إنَّ الأشعري يُوحي (وجوب الطاعة) من جانب الرعية، حتى لو أخلّ الإمام بكل التزامات عقده تجاهها، وحين قيامها بمطالبته بالالتزام بمضمون ميثاقه، وموجب عقد بيعته «وهو العدل والحكمة ورعاية المصلحة العامة» فإنها في رأي الأشعري، تكون هي الضالّة والظالمة.

أنفاس بدأ التصوف الإسلامي حركة زهدية ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا سعياً للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي وصحابته في الزهد، ثم تطور وأصبح نظاماً له اتجاهات عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد: الإكثار من الصوم والتقشف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة والتجرد عن ضروراتها. إلا أن الزهد في الإسلام لا يعني هجر الدنيا وترك العمل، فالإسلام دين وسط واعتدال لا يدعو للرهبانية والتطرف([1]).
والتصوف نزوع ذاتي تأملي يعتمد على خيال الفرد وتجربته وذوقه ويهتم على الخصوص بالنفس وصفاتها. ظهر المصطلح عند المسلمين في القرن الثاني للهجرة، أما قبل ذلك فكان الصوفي يسمى زاهداً، لأن التصوف ظهر في مرحلة من مراحل تطور الزهد.
إن الصوفية الذين سلكوا طريق التصوف كانوا ملمين بالعلوم الدينية مما يمكنهم من الرد على انتقادات خصومهم، وحتى لا يتعرضوا للانحراف إذا ما تصوفوا مع جهل([2]). ويرتبط التصوف بالمجاهدات والرياضات النفسية، ويصب جل اهتمامه على الروح. والطريقة الصوفية تنقسم إلى مواقف هي المقامات والأحوال. المقام والحال اصطلاحان يستخدمها الصوفي للدلالة على مكانته في الطريقة الصوفية وما يأتيه من رحمة الإله.
المقام: هو مقام الإنسان فيما يقام فيه من عبادات. وأما الحال: فهي ما يتعرض لـه القلب عفوياً من سمات الرحمة الإلهية. والأحوال مواهب ظرفية وإذا دامت تحولت إلى مقامات مكتسبة. من الأحوال: المراقبة، والقرب، والمحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، واليقين. ومن المقامات: التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والرضا، والتوكل([3]).
ارتبط التصوف بالفلسفة، فاهتم الصوفية بعلوم المكاشفة ومعرفة الله، وكان ذو النون المصري (245 هـ ـ 859م) أول من أدخل العرفانية في التصوف الإسلامي. وجاء أبو زيد البسطامي (ت 270هـ ـ 875م) بنظرية الفناء، أي فناء الإنسان عن نفسه لا شعورياً بذاته مع الله. ثم تطورت هذه النظرية إلى الحلول والاتحاد مع الله على يد الحسن بن المنصور الحلاج (ت 309 هـ ـ 922م) أي حلول الذات الإلهية في المخلوقات، واتحاد طبيعة الإنسان في الطبيعة الإلهية حتى تصبح حقيقة واحدة.
ومن الصوفية من زعم أنه عرج إلى السماء كما عرج الرسول e، ومن أشهرهم أبو يزيد البسطامي الصوفي المعروف بشطحاته، الذي عرج بواسطة سلم روحي([4]). والشطح هو كل ما خرج عن المألوف والقوانين الفقهية، لذا يعتبر هذا السلوك من البدع وهو منبوذ عند الفقهاء.
اختلف الصوفيون المسلمون حول علاقة الإله بالكون، فريق قال بوحدانية الله وأنه خالق الكون. وفريق آخر يرى أن العالم لم يخلق من العدم بل وجد من البداية، والكون هو صفات الذات الإلهية أي مظهر الله الخارجي، وتسمى هذه النظرية بوحدة الوجود. "وبناء على هذا المذهب تتجلى الألوهية في البشر، ويعتبر محمد الإنسان الكامل"([5]).

أنفاسالتراث الذاتي هو ما يصل إلى شعبٍ ما ممّا خلَّفه القدماء وتتوارثه الأجيال، ويحدث لتيارات عامّة واتجاهات ومدارس فكرية ويؤثّر في سلوك الناس. وهي مسؤولية تاريخيّة تتحمّلها الأجيال فتواصل تاريخها أو تتركها فتنقطع جذورها فتذوب في ثقافات مغايرة، والفعل اللاتيني Tradere يفيد كِلاالمعنيين: يحمل أو يخون.
(1) الأصالة والخصوصية:
وأَهمُّ ما يميز التراثُ الذاتي الأَصالةَ والخصوصية. فالأصالة تعني الأنا في مقابل الآخر، والمألوف ضد الغريب/ والقريب في مواجهة البعيد، والمحليّ كمانع للمستورد. تعني الأصالة الذاتيَّ في مقابل العرضيّ/ والطبيعي في مواجهة المصطنع، و"الجوّاني" ضد "البراني". أمّا الخصوصية فتعني نوعية التراث وسِمَاته المميزة ونموذجه الأوحد وقانونه الخاص ليس في مقابل الشمول والعمومية ولكن في مقابل فقدان النوعية والذوبان في خصوصية أخرى تَدَّعي أنها الخصوصية الشاملة. وهو التقابل الذي وضعه كانط في وصفه للإرادة بين الذاتي والغيري.
(I) جذور التراث:
وللتراث جذور في وجدان الشعب. فهو تأكيد للأنا ضد الآخر وإثبات للذات في مقابل الغير. ولمَّا كان التراث مُعاشَاً في وجدان الناس فإن جذوره تعطيهم عمقا‍ً تاريخياً قد يصل أحياناً إلى بدء الخليقة ونهايتها، وقد يتجاوزها إلى ما قبل العالم وما بعده. يمتد التراث في وجدان الشعب ويعطيه الآتي:
- 1   الأصالة ضد التذويب والتميّع والاغتراب خاصة إذا ما تمّت محاصرة الذات بالآخر كما حَدَثَ في إيران قبل الثورة.
- 2  العُمْق التاريخي ضد نقل الحضارات واستيرادها، وملء الشعور القومي بحيث لا يكون فارغاً تصبُّ فيه حضارات الغير، والرَدُّ المستمر على الغزو الثقافي الخارجي باعتبارها (حضارات الغير) جسماً غريباً على التراث القومي كما هو الحال في السلفية.
- 3 كما تمتدُّ جذور التراث في الماضي فإنها أيضاً تورق في الحاضر، فما الحاضر إِلاَّ تراكم للماضي وظهور له. ومن ثَمّ فلا حلّ لمشاكل الحاضر حلاً جذرياً إِلا‍َّ بالرجوع إلى جذورها في الماضي، ولا سبيل للقضاء على عقبات التنمية (عدم اشتراك الجماهير مثلاً) إِلاَّ باجتثاث جذورها في التراث.
- 4 دفعات أكثر نحو التقدم في مسيرة الشعوب وإطلاق طاقاتها، وترسيخ مكتسبات الثورات الوطنية مثلاً: الإصلاح الزراعي، الملكية الجماعية للأرض، العمل وَحْده كأساس للقيمة، النضال.. إلخ.
- 5 الاستمرارية التاريخية والتجانس في الزمان ووحدة الشخصية الوطنية وعدم وجود مستويات متجاورة منفصلة في الشعور الوطني كما هو الحال في تركيا (إسلام في العمق وتحديث في السطح) أو في بولندا (كاثوليكية في العمق وماركسية في السطح( .

أنفاستمسك ابن حزم ولا شك بالمنطق الأرسطي لحل بعض المعضلات الموروثة في الثقافة الأندلسية كتمسك أهل الأندلس بالنوازل والفقه المالكي وتزمتهم على المستخرجة… وبالمقابل رفض كل ما هو عقلي كالكلام والمنطق… لهذا قد أخطأ من اعتبر أن ابن حزم صنع بالمنطق ما صنع الغزالي به، فابن حزم يوظف المنطق في العقليات بينما الشريعة فهو يدرك أن خصائصها غير خصائص المنطق.
مقدمة:
أريد في البداية أن أعيد إلى أذهاننا تلك الصورة القاتمة التي رواها ابن أحمد الأشبلي في وصف حالة المنطق بالغرب الإسلامي وهي صورة ولا شك أشبه بتلك التي حكاها ابن حزم وابن طملوس وقد تجلت في كتابات كثير من منتقدي فن المنطق، فليس هناك أبشع من اعتباره زندقة وسفسطة بل وفي كثير من الأحيان كفر وحدث، يحكى ابن أحمد الأشبلي أنه قال: "كان الحفيد أبو بكر بن زهر قد أتى إليه من الطلبة اثنان ليشتغلا عليه بصناعة الطب فترددا إليه، ولازماه مرة وقرآ عليه شيئا من كتب الطب، ثم إنهما أتياه يوما وبيد أحدهما كتاب صغير في المنطق وكان يحضر معهما أبو الحسين المعروف بالمصدوم، وكان غرضهم أن يشتغلوا فيه، فلما نظر ابن زهر إلى ذلك الكتاب قال: ما هذا؟ ثم أخذ ينظر فيه، فلما وجده في علم المنطق رمى به ناحية، ثم نهض إليهم حافيا(…) وهم يتعادون قدامه إلى أن رجع عنهم مسافة بعيدة فبقوا منقطعين عنه أياما لا يجسرون أن يأتوا إليه. ثم إنهم توسلوا إلى من حضروا عنده واعتدوا بأن ذلك الكتاب لم يكن لهم، ولا لهم فيه غرض أصلا، وأنهم إنما رأوه مع حدث في الطريق وهم قاصدون إليه، فهزؤوا لصاحبه وعبثوا به وأخذوا منه الكتاب ففر وبقي معهم ودخلوا إليه، وهم ساهون عنه فتخادع لهم وقبل عذرهم واستمروا في قراءتهم عليه صناعة الطب…"(1).
هذا الوصف الذي وصف به المنطق في الغرب الإسلامي عامة واحد من الأسباب التي دفعت بابن حزم إلى البحث عن أسباب نفور أهل الأندلس من المنطق من جهة وواحد –كذلك- من الأسباب التي دفعت به إلى الاهتمام بهذا الفن من جهة أخرى. فابن حزم صرح بأهمية المنطق والاستفادة منه في شتى العلوم، وقد ذهب إلى أكثر من هذا، فسلب الفهم عن كل من لم يؤت هذا العلم "وليعلم من قرأ كتابنا هذا أن منفعة هذه الكتب ليست في علم واحد فقط بل في كل علم، فمنفعتها في كتاب الله عز وجل وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي الفتيا في الحلال والحرام، والواجب والمباح من أعظم منفعة وجملة ذلك في فهم الأسماء التي نص الله تعالى ورسوله (ص) عليها وما تحتوي عليه من المعاني التي تقع عليها الأحكام على حسب ذلك والألفاظ التي تختلف عباراتها وتتفق معانيها، وليعلم العالمون أن من لم يفهم هذا القدر فقد بعد عن الفهم عن ربه تعالى وعن النبي (ص)، ولم يجز له أن يفتي بين اثنين لجهله بحدود الكلام، وبناء بعضه على بعض، وتقديم المقدمات، وإنتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان وتصدق أبدا، ويميزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب أخرى ولا ينبغي أن يعتبر بها"(2).