
وبودّي أن أستهلّ الإجابة في صلب هذه الإشكالية باستعراض وجيز لوضعية التشكل الإيديولوجي العام الذي آل إليه الحرمان من القدرة على التأصيل. ثمّ لا مفرّ من عرض أهمّ التبعات الفكرية لذلك التشكل الناتج عن حرمان من مواقف عادة ما تكون إمّا متصدّية للتأصيل، رغم ادعائها عكس ذلك، وإمّا صارفة النظر عنه. كما أودّ، في مرحلة تالية، أن ألقي بعض الضوء على نتائج بعض التجارب في الفكر العربي أخذت من التأصيل هدفا لها. وأخيرا أعتزم عرض رؤية معينة يكون فيها تأصيل الحداثة والإسلام في بعضهما البعض بواسطة تكامل الاثنين أمرا معقولا ومقبولا.
إنّ من ينادي بالتأصيل هم عادة ناشطو الإسلام السياسي ورموز الإسلام التقليدي المؤسساتي. إلاّ أنّ الغريب في الأمر، من الوهلة الأولى، أنهم هم الذي يبادرون باستعمال ورقة النقض ضد أية محاولة من قبيل التقارب بين الدين والعلم. ذلك لأنهم بقوا حبيسين لمبدأ مغلوط ورثه الفكر العربي عموما من تاريخ الكنيسة: فصل العلم عن الدين، وبمقتضاه اعتبروا أنفسهم، دون سواهم من أهل العلم، الورثاء الوحيدين للدين. فتراهم يقفون سدّا منيعا أمام كل "تطفل" على الدين من لدن دعاة العلم ولو كان دعاة العلم من المؤمنين.