anfasse1234بعض الدارسين يغريهم تشابه الألفاظ أو الأشياء، فيحكمون على الظواهر المتشابهة باستمداد بعضها من بعض، حتى غلب على ظن بعضهم أنه ما من فكر متأخر في الوجود الزماني وفيه ما فيه من تشابه مع ظواهر أخرى إلا وهو نقل حرْفي للمتقدم في الوجود، والأسف أن كثيرا ممن ساروا على هذا النهج متأثرين بدورهم بأقوال من غلب على ظنهم منهج " الأثر والتأثير"، وبالنظر إلى موضوعنا " الحد" لم يسلم هو الآخر من هذه النظرة، خاصة وان هناك حدا عند الآخر، وليس بينهما في نظر هؤلاء أي فرق، فأحدهما –عندهم- ولا شك أخذ من الآخر، وأكيد في نظرهم المتأخر في التاريخ، ولهذا استنتجوا أن الحد عند الأصوليين ليس إلا نقلا للحد الأرسطي، وعلى العموم للحد اليوناني، وهنا لا يسع المرء إلا أن يتساءل كما تساءل بعضٌ، ألا يمكن إيجاد تفسيرات داخلية لتفسير وجود الحد؟ أ لا يمكن تفسير هذا النمط من التفكير من داخل ثقافتنا؟.
على كل لا أريد أن استرسل في الحديث عن هذا الموضوع، لكن لا أتجاوزه دون أن أؤكد أننا لا نهدف من وراء هذا السؤال ما كان يهدف منه بعض الدارسين من المستشرقين من البحث عن أصول الحد في الفكر اليوناني، حتى التبس عليهم الأمر، فمن قائل إنه أرسطي ومن قائل إنه رواقي، وقائل آخر قال ليس هذا ولا ذاك، وإنما هو مجموع أخطاء في الترجمة عن الفكر اليوناني، فانتهى به التفكيك والتركيب إلى القول بالتلفيق.

أنفاسمرجعية حقوق الإنسان.. وضعية أم سماوية؟
ثمة مفارقة كبيرة في الفكر الإنساني  عامة منذ تغلغل المنظومة الحقوقية في المجتمعات و إقرارها في المواثيق و الإعلانات، حيث جُعِل من الفكر المادي الوضعي المرجعية لتأسيس منظومة حقوق الإنسان، و اعتبر الدين السماوي عامل عسف و قهر للإنسان. إن هذا الخبط  راجع إلى أمور عدة، أهمها ما قد نسميه فلسفة تاريخ الأديان، أعني المسار التاريخي الذي يتبعه الدين و أصحابه و أوضاعهم داخل مجتمعاتهم، فالدين يبدأ دائما مقموعا داخل بيئته، و في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تحكي معاناة الأنبياء عليهم السلام و طغيان المعارضين لرسالاتهم و حظر حرية الاعتقاد، كقوله تعالى "لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين"، و قوله تعالى على لسان الذين اضطهدوا شعيبا عليه السلام " لنخرجنك يا شعيب و الذين آمنوا معك أو لتعودن في ملتنا"، و بعد أن يفتح الله على الأنبياء يسطرون صفحات مشرقة في التسامح الديني و إقرار حرية الاعتقاد و العفو عن الذين ساموهم بالأمس أشد العذاب، فعلى سبيل المثال بعد أن فتح نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم مكة، نادى في المشركين بقول يوسف :"لا تثريب عليكم"، و "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، لكن ما أن يلحق الأنبياء بالرفيق الأعلى إلا و يحدث تحريف في الأديان، حيث يقوم أرباب المصالح باستغلال الدين لأغراض دنيوية ضيقة، فيتم توظيف الدين في السياسة توظيفا تعسفيا، و من التحريفات التي تطال الأديان ادعاء  الأشخاص _كهنة أو ملوك أو شيوخ..- لامتلاك الحق في قتل المخالفين في المعتقد و الفكر، و هنا يتخذ الدين كذريعة لتصفية المنافسين السياسيين، و التهمة الجاهزة  دائما هي المروق عن الدين و الزندقة.. و في تاريخنا الإسلامي لم يسلم من هذه التهمة الجائرة حتى كبار الصحابة كعثمان الذي هدر دمه بدعوى "كفره كفرة صلعاء" كما قيل على لسان عمار، و  علي لكونه كفر على حد قول الخوارج بتحكيمه للرجال في حادثة التحكيم المشهورة.

plantes28ان نسق العلم والمعرفة تراكمي، فما مدى تأثير "ابن البيطار" وتجاربه وأبحاثه في ذلك النسق العلمي والمعرفي الخاص بالنباتات والإعشاب والعقاقير، و"الطب الأخضر/ البديل"؟.
تولي ثلاثة اختصاصيين من ثلاث قارات محاولة الإجابة عن هذا السؤال.. إحقاقا لحق الحضارة العربية الإسلامية في الاعتراف بمساهماتها الفعالة في مسيرة العلم والتحضر البشري. كانت الدكتورة " آنا ماريا كابو جونزاليس" الأستاذة في جامعة أشبيلية، والخبيرة في الحضارة العربية الإسلامية، قد أمضت معظم أوقاتها في مكتبات المغرب وتونس لجمع معلومات عن هذا الحقل الخاص من حقول المعرفة الإسلامية. خلال أعوام البحث تعرفت على أعمال "ابن البيطار" عن كثب، فنشرت كتاباً يستعرض موسوعة هذا الرجل العالم. ولقد أكدت علي أن: موسوعة "ابن البيطار"، "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" والمعروف "بمفردات ابن البيطار" واحدة من أفضل الموسوعات في تاريخ النبات والعقاقير خلال العصور الوسطى. كما خلُصت إلي أن : إن ما بين من 50-60% من الأدوية المتوفرة في الأسواق مشتقة من نباتات أو مصنوعة من مواد جذورها نباتية. لقد أصبح الآن علم النباتات الذي كان "ابن البيطار" رائده، منطلقا لعلم الأدوية الحديث. ولقد ساعدت خلفية عائلة "ابن البيطار" وبيئته على صقل شخصيته وخُلُقه حتى قبل أن يظهر كمتخصص في علم النباتات والأدوية.
علي صعيد أفريقي مواز، تناولت الكيميائية الأستاذة الدكتورة "زبيدة شرُّوف" من جامعة الملك محمد الخامس، نموذجاً من إحدى النباتات التي ورد ذكرها في موسوعة "ابن البيطار" لإجراء اختبار عليها في مختبرها. كانت د."شروف" في مقدمة مؤسسي منظمة "ابن البيطار" لحماية النباتات التي يمكن استخدامها في صناعة الأدوية من الانقراض، وبشكل خاص تلك النباتات الموجودة في المغرب. لقد استحضرت همة وعزم "ابن البيطار" في عملها، تدير د."زبيدة " اختباراً كيميائياً عن الزيت المستخرج من شجرة "الأرْجَان"، التي تُعرف في المغرب باسم أشجار الخشب الحديدي، والتي لم تُذكر إلاَّ في موسوعة"ابن البيطار".تابعت د. "زبيدة " عمل "ابن البيطار" لتروج للمنتجات التي يمكن الحصول عليها من هذه الشجرة.

peinture-art-abstrait-12

ليس بالأمر الهين علي الناس أن يقبلوا "الجديد" إلا بحذر وترقب، وتصارع أحياناً. لذا لقي مُجددون ومُصلحون ـ إبان فترة الإنتقال إلي ذلك الجديد ـ عنتاً كبيراً، ومشقة من مجتمعاتهم، لانهم بشروا بما آمنوا به، وبما أعتقدوا أن فيه صلاحهم.. فرادي وجماعات. ولعل مبعث هذا العنت، وتلك المشقة هو ذلك الموقف "المتذبذب" من ذلك "الجديد"، فالناس يريدونه بيد أنه يثير "قلقهم علي حياتهم التي تبدو مستقرة". و"ما أشبه الليلة بالبارحة"، فالحاجة إلي الإصلاح ماسة، و"التذبذب" قائم، ولعل في الإشارة إلي جهود الرواد المصلحين، و تناولها بالدراسة والتحليل.. محاولة للمّ الشمل، وضم الجهود، وإثراء التواصل، ومعالجة الجمود، ومداواه "الإنهزام النفسي"، و"التخلف الحضاري"، و"القابلية للأستعمار"، ومواجهة الوهن الداخلي، والتآمر الخارجي، الذي يستهدف العروبة والإسلام والأوطان، ونهوضها في آن معاً.  
التجديد لا يعني الإزالة والإستحداث، وتغيير الأسس، والتصرف في الأحكام، والإبتعاد عن الجوهر والمعالم والقيم: "فعبر الزمن لا تتغير القيم العليا الحاكمة لحضارة ما، فهي مثالها العام، عقيدتها، فلسفتها، وقيمها الإنسانية العليا التعبر الزمان والمكان.. بيد أنه لا ينبغي أن تكون حالة الدفاع عن (الذات الحضارية) أمام ما تواجهه من تحديات بمثابة غشاوة تختفي خلفها الرغبة والقدرة علي التجديد ـ في المتغير المرن المستجد ـ دون تفريط أو إفراط في الهوية"(1). فالتجديد - إذن- يعني: إعادة الأمر لأقرب ما يكون إلي صورته الأولي، وهو في الدين يعني: "إعادته إلي أصله يوم نشأ، بتنقيته مما ألحقته به أهواء الناس من أباطيل وخرافات، وجمود وتقليد، وتبعية وإنحراف". ويعني التجديد الأقتراب من عصره الذي يعيش فيه، والأرتقاء والنهوض بالعصر وفقا لنهجه الأصيل السامي.. فكريا وفقهياً، ثقافياً وروحياً، إجتماعيا وأخلاقياً، إقتصاديا وإنسانياً الخ.
ولعل "شرعية التجديد" أمر مقرر وفريد في الإسلام دون غيره، ففي الحديث الشريف:"إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (2). فهي سُنة من السنن الدائمة، فكما يصدأ المعدن فيحول الصدأ بينه وبين فعله الحقيقي، كذلك قد تغير الأهواء ـ علي كر السنين ـ رسالات ومنظومات إجتماعية بالبدع والخرافات والأساطير والإضافات التي تحجب جوهرها الفعال وتعطل طاقاتها. ولكون الإسلام الدين الخاتم للرسالات السماوية، ولكي يكون صالحاً لكل زمان ومكان، كان التجديد قانوناً دائماً" (3).

69.jpgليست القراءة فعلا فيزيولوجيا يرتبط بإحداث الوحدات الصوتية عبر النطق بحسب ما تقتضيه الأنظمة اللغوية، وإنما القراءة، سواء أكانت قراءة للعالم بوصفه وجودا يقع خارج الذات الإنسانية، أو نصا بوصفه تشكيلا لغويا، تعني: الفهم، والتفقه، والتوصيل، ومن ثم فإنها تمثل نشاطا معرفيا ذهنيا يختلف ويتفاوت بحسب رؤية القارئ وبحسب طبيعة نظرته إلى العالم أو النص، والزاوية التي يصدر عنها.(١)

وقد ارتبط مفهوم القراءة في التراث الإسلامي بالتفسير والتأويل، باعتبارهما طريقين لاستخراج المعنى وإظهاره من الكيان النصي، ويرتبط التأويل بالاستنباط، في حين يغلب على التفسير النقل والرواية، وفي هذا الفرق يكمن بعد أصيل من أبعاد عملية التأويل، وهو دور القارئ في مواجهة النص والكشف عن دلالته).. (إن المؤول لابد أن يكون على علم بالتفسير يمكنه من التأويل المقبول للنص، وهو التأويل الذي لا يخضع النص لأهواء الذات وميول المؤول الشخصية والإيديولوجية، وهو ما يعتبره القدماء تأويلا محظورا مخالفا لمنطوق النص ومفهومه».(٢)

وفي خضم سيل من القراءات المعاصرة للتراث يقدم المفكر المغربي طه عبد الرحمن مشروع قراءته للنص التراثي بأنه منحى غير مسبوق يأخذ بالنظرة الشمولية والتكاملية إلى التراث وليس بالنظرة التجزيئية والتفاضلية، وبأدوات مأصولة وليس بأدوات منقولة، مؤكدا أن قراءة النص التراثي هي:«مطالبة النص بالتدليل على وسائله أو مضامينه» (٣.)فأخذ على عاتقه زحزحة التقليد المعاصر في قراءة التراث، الذي آثر في نظره الاقتصار على نقد مضامين التراث من دون الوسائل التي عملت في توليد هذه المضامين وتشكيل صورها، فكان بذلك -التقليد المعاصرفي قراءة التراث-نظرة جزئية تفاضلية، بسبب وقوفه عند مضامين النصوص والنظر فيها بوسائل تجريدية وتسييسية منقولة مع نسيان الوسائل التي عملت  في تأصيل وتفريع هذه المضامين التراثية.فما هي الخلفيات المعرفية الموجهة لهذه القراءة؟ وما هي مستويات وآليات هذه القراءة؟.

damas.jpgالدين على دفة. العلم على دفة. وبين الدفتَين كتاب الحياة للعرب والمسلمين؛ كتاب مفتوح لكنّه مشفّر و غير مقروء. فإن كنت من علماء الدين لا حق لك في أن تجتهد في العلم الدنيوي، لأنّ الأوان قد فاتك. وإن كنت أخصائيا في علم من العلوم غير الدينية لا حق لك في أن تجتهد في الدين، لأنك لست من علماء الدين. ذلك ما حكمَت به التقاليد والأعراف إلى حد الآن. و الوضعية جد حرجة ومسألتها جد شائكة، وقد تفاقمت مع مرور الحقب في تاريخنا المعاصر. مع هذا فإنّ الفكر العربي الإسلامي لم يكن قادرا على رفع التحدي القاضي بتقريب ما هو ديني من ما هو دنيوي من العلوم. وكلمة تتردد مئات المرات على ألسنية المفكرين من جميع المشارب: التأصيل؛ تأصيل الواقع في الدين، و الدين في الواقع، والحداثة في الثقافة العربية.
  وبودّي أن أستهلّ الإجابة في صلب هذه الإشكالية باستعراض وجيز لوضعية التشكل الإيديولوجي العام الذي آل إليه الحرمان من القدرة على التأصيل. ثمّ لا مفرّ من عرض أهمّ التبعات الفكرية لذلك التشكل الناتج عن حرمان من مواقف عادة ما تكون إمّا متصدّية للتأصيل، رغم ادعائها عكس ذلك، وإمّا صارفة النظر عنه. كما أودّ، في مرحلة تالية، أن ألقي بعض الضوء على نتائج بعض التجارب في الفكر العربي أخذت من التأصيل هدفا لها. وأخيرا أعتزم عرض رؤية معينة يكون فيها تأصيل الحداثة والإسلام في بعضهما البعض بواسطة تكامل الاثنين أمرا معقولا ومقبولا.
 إنّ من ينادي بالتأصيل هم عادة ناشطو الإسلام السياسي ورموز الإسلام التقليدي المؤسساتي. إلاّ أنّ الغريب في الأمر، من الوهلة الأولى، أنهم هم الذي يبادرون باستعمال ورقة النقض ضد أية محاولة من قبيل التقارب بين الدين والعلم. ذلك لأنهم بقوا حبيسين لمبدأ مغلوط ورثه الفكر العربي عموما من تاريخ الكنيسة: فصل العلم عن الدين، وبمقتضاه اعتبروا أنفسهم، دون سواهم من أهل العلم، الورثاء الوحيدين للدين. فتراهم يقفون سدّا منيعا أمام كل "تطفل" على الدين من لدن دعاة العلم ولو كان دعاة العلم من المؤمنين.

anfasse.orgمدخل:
مع ظهور فلسفة التأويل في الفكر الغربي، اتسعت التطبيقات المتعددة للتأويلية في الفكر الغربي والشرقي معا.
ولعل مسألة التأويل لم تكن وليدة اليوم، على الرغم من "الطابع العلمي" الذي أضفي عليها في التأويلية المعاصرة، بل شكل التأويل أساس وجود النص، فكل نص يفترض قراءة، والقراءة تستدعي الفهم، وما دام الفهم محكوما بالذات في مختلف السياقات التي تحكم القراءة، فإنه سيبقى نسبيا ومتعددا ومختلفا ومتنوعا حسب الذوات والسياقات التي حكمها، وهذا أساس قيام التأويل ووجوده.
شكل العصر الوسيط في الحضارة العربية الإسلامية أهم العصور التي نمت فيه النزعة التأويلية، حيث شكل علم الكلام مجالا خصبا للمجادلة حول "النص الديني" حيث ظهرت تيارات عديدة تهتم بالتأويل والتفسير معا.
ومع كثير من التحفظ فإننا لا نسوق هنا الحديث عن التفسير باعتباره شرحا وتوضيحا من أجل الفهم بل التأويل كفعل لاستبطان ما هو مضمر في النص ك "الآيات المتشابهات" و "الآيات المحكمات"...
إن الجدال لم ينصب حول ضرورة التأويل، بل حول جملة القضايا التي شكلت أساس علم الكلام وبالقدر الذي نجد دعاة التأويل يسعون إلى إعادة تفكيك النص الديني من أجل إيجاد ما يشفي الغليل وما يروي ضمأ "الشغف إلى الاستطلاع" فإننا نجد في المقابل تنامي النزعة "اللاتأويلية" (إن جاز هذا الاستعمال) والمتمثلة في جملة التيارات والجماعات السلفية التي تنبذ التأويل وتذمه.
وإذا كان اقتناعنا تاما على أن أي نص سيظل يكتنفه الغموض ما دام محكوما بسياق ما وبشروط جعلته كذلك يتأطر كإجابة مرحلية على ضرورة ما، فهذا لا يعني أننا سننساق إلى دعاة التأويل ونذهب بعيدا إلى الترويج لفلسفة التأويل ما لم يتضح أكثر السياق التاريخي، وهو ما يستدعي فهم عميق للثرات الذي يختزن "أثرا تاريخيا وفكريا" يستحق كل الاهتمام. وحسبنا نروم هنا في هذا الموضوع إبراز وجهين بحثا مسألة التأويل من زاويتين مختلفتين، وان كان لا يجمع بينهما مجمع في زمان ما، ولا مأدبة سجال، فإننا نتوخى حقيقة معالجة موقف سني ـ سلفي يذم التأويل، وموقف عقلي يدعو إلى التأويل ويشرع " الاعتبار" بالمعنى الرشدي.

anfasse.orgهكذا هي لغة الواقع، لو يخون الطلاء شواهده لحظة واحدة...
فعندما يصير التعبير الأثير والمحبب من منظور الخطاب الإعلامي ـ الرسمي منه وغير الرسمي..، وكذا الأوساط العالمة والمهتمة ـ الأكاديمية منها وشبه الأكاديمية ـ...، قولهم "الحقل الديني" ! فذلك اختيار موح، لا يخلو فعلا من دلالة أو دلالات، طبعا لا تعارض ما يطرحه عالم الإجتماع الفرنسي (بيير بوورديو) مثلا..، ولكنها ترجع ـ إذ يتردد صداها في الأروقة الرسمية ـ إلى نوع من (اللاوعي السياسي) المتحكم..، فحتى (الفلاحة) التي هي أصل هذه الصورة المجازية.. غادرت مبكرا إلى وعي غير تقليدي أو قروسطوي، هو (القطاع): "القطاع الفلاحي"، رغم أنها ظلت في الحقول ولم تغادرها في يوم من الأيام، ولا ينتظر منها ذلك، ربما يقال: (الدين) شيء ينتمي إلى الماضي، يمكن أن نستصحبه في الحاضر، ولكن دائما كشيء تقليدي موغل في التقليدانية ـ جزءا من بنيته ـ فينبغي أن يبقى كذلك ! ومن أراد غير ذلك فقد أحدث و(من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، لكن (الزراعة) أيضا شيء قديم.. على الأقل قدم الدين نفسه.. وإذا كان الدين شيئا مقدسا، فالزراعة كذلك كانت شيئا مقدسا منذ الإنسان القديم، وإلى اليوم المقدس الأعظم عند الإنسان المغربي: (الخبز) بمختلف أنواعه وأشكاله...
وأنا هنا سأقدم بضعة شواهد أن هذا "الحقل" فعلا: "فدان"، أي حقل بالمعنى الإقطاعي، حيث "الفلاحة" مثلا حقل أو حقول لكن بالمعنى القطاعي..
فالأوقاف ـ عند المهدي المنجرة ـ مؤسسة فيودالية.. كذا يصرح باللفظ (راجع كتابه: قيمة القيم..)، فيعفينا جزءا من الحمل، طبعا القارئ عندما يسمع هذا يقفز إلى ذهنه المداخيل الخيالية (مجهولة المصير) التي تجنيها [الأوقاف الوزارة] من [ الأوقاف الأملاك] من الغابات والحقول والفيرمات والعقارات والعمارات مما حبسه الآباء والأجداد...
وإلى حدود الساعة لا زال كل شيء عندنا يمشي في الاتجاه المعاكس.. ففي الوقت الذي قام فيه الأوربيون بـ(نزع أملاك الكنيسة)، ونقلها للمجال العام، وبعد أن عرفت التجربة الإسلامية (الوقف) ـ مذ عرفته ـ  مؤسسة اجتماعية وعامة بامتياز، نشأة واشتغالا.. ترانا هنا وإنا لنعالج قضايانا بطرق ارتكاسية نكوصية..
وللإفادة، وللأمانة التاريخية فقد كانت الوزارة دائما تشترط في المساجد ـ بعد أن يشيدها الناس ـ أن يكون لها مستوى معين من المداخيل، وإلا لا تضمها إليها، إنها حينئذ تشكل عبئا إضافيا بالنسبة إليها، وإنها لفي غنى عنه.