3inaya-azzeddineيوم أطلّت جماعة سانت إيجيديو الكاثوليكية في الساحة الإيطالية في السابع من فبراير 1968، كانت عبارة عن فصل جديد من فصول الأصولية المسيحية التي تمور بها الساحة الدينية في أوروبا والأمريكتين. في تلك الحقبة كان قد ألمّ بالمحرك الديني الرئيس في روما، شيء من العطل وباتت تعوزه المبادرة التاريخية، جراء غلبة الطابع التقليدي والمحافظ عليه. تلخّص ذلك العطل في عدم قدرة الكنيسة على التلاؤم مع تحولات الناس، على غرار تواصل تحريمها للطلاق، وموقفها المناهض لمساواة المرأة مع الرجل في الترقي الكهنوتي، وهو ما لا يزال جاثما على صدر الكنيسة حتى اليوم. لم تجد كنيسة روما سبيلا للخروج من مأزق التأقلم مع الحداثة سوى التعجيل بعقد مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) في محاولة لمواءمة رسالة الدين مع روح العصر والبحث عن مصالحة مع الزمن، بقصد الإمساك بمجريات الواقع الديني الذي بدأ ينفرط عقده وما عاد للبابا سلطان كاف عليه.

RENAISSAثلاث مراحل تميّز التاريخ العربي الحديث : عصر النهضة ، الممتد من القرن التاسع إلى عام 1952، كما يرى البعض، أو إلى هزيمة 1967، كما يرى بعض آخر، أكثر موضوعية. تلته حقبة «دولة الاستقلال المتسلّطة»، التي أسّست  لصعود «الصحوة الإسلامية». زامنت ««الصحوة» ، ومن منظور مختلف، اقتراحات ثقافية متنوعة، تبدأ بأسئلة المثقفين وتنغلق عليها.

١ . الجديد في مواجهة القديم

تميّز عصر النهضة، الذي عرف نعتاً موازياً هو: عصر التنوير، بعنصرين متكاملين: ظهور مثقفين يعطون الثقافة وظيفة اجتماعية نقدية، وولادة ظواهر اجتماعية تضمنت الصحف والأحزاب السياسية وتزايد المطابع والترجمة، والتعرّف على أشكال جديدة من الأدب والفنون. تطلّع هذا العصر، الذي عاش بقايا السيطرة العثمانية ومجيء الاستعمار الحديث، إلى بديل اجتماعي، يحاكي النموذج الحضاري الأوروبي والموروث العربي ــ الإسلامي. وهو ما دفع بمثقفيه إلى كلمة «الجديد»، التي تقاسم استعمالها محمد حسين هيكل وجبران خليل جبران وطه حسين وغيرهم. لم تكن الكلمة الجديدة محرّرة من الالتباس، فالجديد المطلوب لم يكن جديداً تماماً، فقد  بقي «الإسلام الذهبي» ماثلاً في عقول كثيرة . والأمر واضح الدلالة ، لأنّ دعاة الجديد كانوا مقيّدين إلى مجتمع تقليدي، فتحته على الجديد «صدفة استعمارية». لا غرابة والحال هذه ألاّ ينتهي مبدأ «المبايعة» في مصر، أي اختيار«رأس الدولة»، إلاّ بعد مجيء الاستعمار الإنجليزي وهزيمة الثورة العرابية عام 1882 ، ولا غرابة أيضاً أنّ تستأنف «الساداتية» مبدأ المبايعة، وأن تطمئّن ، من جديد ، إلى «الأغلبية الصامتة» ، التي ينوب عنها «أهل الحل والعقد» في كل شيء.

Rabat1889لقد كان المجتمع المغربي قبل الحماية يعتمد في معاملاته اليومية و في تدبير شؤونه المختلفة على نصوص دينية مقدسة، وكانت هي النصوص المسموح بدارستها إلى جانب النحو والبلاغة، وكانت العلوم العقلية من تاريخ وفلسفة وكيمياء وفلك لا تجد مكانا ضمن اهتمامات علماء وطلبة القرن التاسع عشر، وشكلت هزيمة ايسلي وما تبعها من اتفاقيات ومعاهدات صدمة للمغاربة أدركوا معها مقدار البون بينهم وبين الأوربيين ، فكان ذلك مدعاة للتساؤل من طرف نخبة ذلك العصر .
   في هذا السياق التاريخي بدأت مجموعة من الأفكار تتسرب إلى المجتمع المغربي مثل فكرة الحرية التي واجهت نقدا من طرف شخصيتين هامتين آنذاك أبو عبد الله السليماني و أحمد بن خالد الناصري لأنها ارتبطت بضغوط الدول الأوربية ومطالبها الكثيرة المتعلقة بضمان حرية التجارة والقيام بإصلاحات الهدف منها ضمان تغلغل القوى الأوربية وتفكيك الحدود التي يقيمها الشرع وإلى القضاء على القيم السائدة آنذاك [1].

eugene-delacroixمقدمة:
مازالت منطقة الحماية الاسبانية تعاني من نقص الدراسات التاريخية بالمقارنة مع المنطقة الفرنسية، وهو ما ينعكس سلبا على أية دراسة تتوخى دراسة النخب بالمنطقة الخليفية. سنحاول في هذه الورقة ملامسة موضوع النخبة السياسية بالمنطقة الخليفية محاولين الإجابة عن التساؤلات التالية : ماهي جذور وامتدادات النخبة الشمالية ؟ ما هي آليات ثأتيرها و ماهي أبرز خصائصها ؟

المحور الأول : الجذور والامتدادات :

يعتبر العلم مدخلا مهما يمكن صاحبه من الولوج إلى دائرة النخبة ، لكون العلماء كان لهم ومازال وجود قوي في الساحة ، ويمتلكون صوتا مسموعا لدى الخاصة والعامة ، وفي غالب الأحيان يكون العلم مجرد عامل إضافي لا يكون له دور مهم إلا إذا اقترن بعوامل عائلية ، فالعلم والنسب يشكلان جواز مرور إلى النخبة .

لا شك أن تاريخ بلاد العرب منذ حقبة الاستعمار البغيض، وحتى عصر الطغاة، الذين نشهد اندثارهم، الواحد تلو الآخر، يتلخص في غياب مفهوم المواطنة وحضور مفهوم المغالبة. وقد ترافق ذلك التاريخ الثقيل مع أفول تدريجي للمسيحية في ديارنا، ليس من ناحية تناقص عدد أتباع المسيح فحسب، بل وأيضا من ناحية تواري أعرافهم وامحاء طقوسهم. فلم تشهد المسيحية في بلاد العرب، طوال تاريخها، انحسارا مثلما شهدته في أزمنتها الأخيرة. لا سيما بعد أن تفاقمت أزماتها في عصر حُماتها الكذبة، ممن أوهموا الداخل والخارج بحرصهم الشديد على حمايتها، وفي الواقع كانوا يحتمون بها. فضمن مسرحيات باهتة، استوزروا من شاؤوا وصعّدوا من ارتضوا إلى ما سُمّي بمجلس الشعب، للفوز بشهادة زور تزكّي "الحكم الرشيد". في الحقيقة بقي التفرد بالسلطة على حاله، وصنع مغتصبو إرادة الشعوب بنى اجتماعية خانقة للوجود المسيحي، وللإبداع المسيحي، ثم ألقوا تبعات فعلهم على من سواهم.

شكلت النصوص الرحلية السفارية مرآة عكست بجلاء واقع مرحلة تاريخية مشبعة بالتحول. فقد مكنت هذ النصوص من الوقوف على طبيعة العلاقة الملتبسة التي جمعت بين "الأنا" المغربي المغلوب، و" الآخر" الغربي الغالب ، مثلما ساهمت في الإفصاح عن كل ما  يستثير الطرف الأول ، وهو يبحث عن نموذجه النهضوي، لدى بلدان الشمال – البلدان الأوروبية بالتحديد-
    لقد كان للهزيمتين المذلتين ، اللتين مني بهما الجيش المغربي منتصف القرن التاسع عشر ، وتأكد المخزن المغربي ومعه النخبة آنذاك من استحالة أي مواجهة عسكرية تستعيد الحقوق المغتصبة أثره في ازدهار الرحلات السفارية نحو أوروبا بأهداف مختلفة،تجتمع كلها عند رغبة المخزن المغربي في تهدئة الأوضاع مع الأوروبيين وحفزهم على الالتزام بالمعاهدات التي وقعوها مع المغرب.
 

abstrait-02OKضربة البداية
إنك لا تعرفين السعادة التي غمَرتني حينما عرفتُ أن أمك كانت حاملاً. وزادت سعادتي حينما عرفت بعد أشهر قليلة أن المولود القادم كان أنتِ. كم تمر الأيام سريعة رغم المِحن والحنين إلى ما مضى.
أنتِ اليوم شابة جميلة، تتحضرين لدراسة الآداب. سبعة عشر ربيعاً، قضيتِ منها خمسة عشر سنة كاملة في المدرسة الفرنسية. قلتُ لك وتعجبتِ يومها أنني لم أدخل المدرسة حتى بلوغي سن السابعة لظروف استعمارية قاهرة مرّت بها بلدي الجزائر. وكم كنتِ حزينة حينما أخبرْتك أنه لولا استقلال الجزائر لكان أبوك أُمياً لا يقرأ ولا يكتب. مبكراً بدأتِ تسألين عن الله والدين وبلاد العرب، وعن الجزائر خصوصا… عن الملبس والمأكل والصلاة ورمال الصحراء الذهبية التي أبهرتك في الصور. تسألين عن زرقة البحر المتوسط وعن حرارة الجو التي كثيراً ما حدثتك عنهما. كنتِ تعتبرينني محظوظا لأنني ولدت على بعد أمتار من البحر، ولأني عشت قرب الشاطئ أكثر من ثلاثين سنة أتمتع بلذة البحر. إلى أن جئت إلى أوروبا مضطرا، عامين قبل أن تأتي أنت إلى هذا العالم، في شماله البارد.

jacques-berqueنسعى من خلال هاته القراءة المتواضعة إلى مقاربة فكر مثقف لم يكن بالمطلق منمطا مبتذلا أسير الحكم المسبق و التنظير الفاجع المشوه، تسهل على حتمية التاريخ الساحقة الإستغناء عنه. بل هي وقفة مع قامة فكرية شامخة، و عقل رصين وحكيم، قوي و متماسك، أصر على نحت إسمه بحزم و تفان في سجل الفكر و السؤال، مستفيدا في ذلك من قوة الملاحظة والاطلاع النظري الواسع والحفر الميداني الدؤوب. وهو ما سمح له بخلق تراكم معرفي هام، شكل تربة خصبة لكل الباحثين المقبلين على مقاربة تاريخ البنيات والذهنيات المغاربية.
هو المبدع جاك بيرك[1] الذي عكس من داخل دراساته النظرية ومقالاته الإدارية، مقاربات تحليلية متنوعة عميقة على مستوى البناء النظري، قاربت إشكالات مختلفة في الماضي والحاضر، لا زالت لتداعياتها راهنية في الساحة المتوسطية عامة والمغاربية خاصة . من قبيل إشكالية العلاقة بين السلطة والمعرفة، الثابت والمتحول.. هي حياة حافلة بالمواقف والأعمال والانجذاب نحو الأمثل والأجمل: إنها حياة بيرك هذا: «الإداري المتمرد، منتقد الاستعمار، المتجول دائما مع الغير، الطوباوي العامل الذي اختلط بالكائنات وشارك في صراعات إنهاء الاستعمار، آخذا في الوقت نفسه نصيبه من حركات النخبة الفرنسية المثقفة...»[2].