eugene-delacroixمقدمة:
مازالت منطقة الحماية الاسبانية تعاني من نقص الدراسات التاريخية بالمقارنة مع المنطقة الفرنسية، وهو ما ينعكس سلبا على أية دراسة تتوخى دراسة النخب بالمنطقة الخليفية. سنحاول في هذه الورقة ملامسة موضوع النخبة السياسية بالمنطقة الخليفية محاولين الإجابة عن التساؤلات التالية : ماهي جذور وامتدادات النخبة الشمالية ؟ ما هي آليات ثأتيرها و ماهي أبرز خصائصها ؟

المحور الأول : الجذور والامتدادات :

يعتبر العلم مدخلا مهما يمكن صاحبه من الولوج إلى دائرة النخبة ، لكون العلماء كان لهم ومازال وجود قوي في الساحة ، ويمتلكون صوتا مسموعا لدى الخاصة والعامة ، وفي غالب الأحيان يكون العلم مجرد عامل إضافي لا يكون له دور مهم إلا إذا اقترن بعوامل عائلية ، فالعلم والنسب يشكلان جواز مرور إلى النخبة .

لا شك أن تاريخ بلاد العرب منذ حقبة الاستعمار البغيض، وحتى عصر الطغاة، الذين نشهد اندثارهم، الواحد تلو الآخر، يتلخص في غياب مفهوم المواطنة وحضور مفهوم المغالبة. وقد ترافق ذلك التاريخ الثقيل مع أفول تدريجي للمسيحية في ديارنا، ليس من ناحية تناقص عدد أتباع المسيح فحسب، بل وأيضا من ناحية تواري أعرافهم وامحاء طقوسهم. فلم تشهد المسيحية في بلاد العرب، طوال تاريخها، انحسارا مثلما شهدته في أزمنتها الأخيرة. لا سيما بعد أن تفاقمت أزماتها في عصر حُماتها الكذبة، ممن أوهموا الداخل والخارج بحرصهم الشديد على حمايتها، وفي الواقع كانوا يحتمون بها. فضمن مسرحيات باهتة، استوزروا من شاؤوا وصعّدوا من ارتضوا إلى ما سُمّي بمجلس الشعب، للفوز بشهادة زور تزكّي "الحكم الرشيد". في الحقيقة بقي التفرد بالسلطة على حاله، وصنع مغتصبو إرادة الشعوب بنى اجتماعية خانقة للوجود المسيحي، وللإبداع المسيحي، ثم ألقوا تبعات فعلهم على من سواهم.

شكلت النصوص الرحلية السفارية مرآة عكست بجلاء واقع مرحلة تاريخية مشبعة بالتحول. فقد مكنت هذ النصوص من الوقوف على طبيعة العلاقة الملتبسة التي جمعت بين "الأنا" المغربي المغلوب، و" الآخر" الغربي الغالب ، مثلما ساهمت في الإفصاح عن كل ما  يستثير الطرف الأول ، وهو يبحث عن نموذجه النهضوي، لدى بلدان الشمال – البلدان الأوروبية بالتحديد-
    لقد كان للهزيمتين المذلتين ، اللتين مني بهما الجيش المغربي منتصف القرن التاسع عشر ، وتأكد المخزن المغربي ومعه النخبة آنذاك من استحالة أي مواجهة عسكرية تستعيد الحقوق المغتصبة أثره في ازدهار الرحلات السفارية نحو أوروبا بأهداف مختلفة،تجتمع كلها عند رغبة المخزن المغربي في تهدئة الأوضاع مع الأوروبيين وحفزهم على الالتزام بالمعاهدات التي وقعوها مع المغرب.
 

abstrait-02OKضربة البداية
إنك لا تعرفين السعادة التي غمَرتني حينما عرفتُ أن أمك كانت حاملاً. وزادت سعادتي حينما عرفت بعد أشهر قليلة أن المولود القادم كان أنتِ. كم تمر الأيام سريعة رغم المِحن والحنين إلى ما مضى.
أنتِ اليوم شابة جميلة، تتحضرين لدراسة الآداب. سبعة عشر ربيعاً، قضيتِ منها خمسة عشر سنة كاملة في المدرسة الفرنسية. قلتُ لك وتعجبتِ يومها أنني لم أدخل المدرسة حتى بلوغي سن السابعة لظروف استعمارية قاهرة مرّت بها بلدي الجزائر. وكم كنتِ حزينة حينما أخبرْتك أنه لولا استقلال الجزائر لكان أبوك أُمياً لا يقرأ ولا يكتب. مبكراً بدأتِ تسألين عن الله والدين وبلاد العرب، وعن الجزائر خصوصا… عن الملبس والمأكل والصلاة ورمال الصحراء الذهبية التي أبهرتك في الصور. تسألين عن زرقة البحر المتوسط وعن حرارة الجو التي كثيراً ما حدثتك عنهما. كنتِ تعتبرينني محظوظا لأنني ولدت على بعد أمتار من البحر، ولأني عشت قرب الشاطئ أكثر من ثلاثين سنة أتمتع بلذة البحر. إلى أن جئت إلى أوروبا مضطرا، عامين قبل أن تأتي أنت إلى هذا العالم، في شماله البارد.

jacques-berqueنسعى من خلال هاته القراءة المتواضعة إلى مقاربة فكر مثقف لم يكن بالمطلق منمطا مبتذلا أسير الحكم المسبق و التنظير الفاجع المشوه، تسهل على حتمية التاريخ الساحقة الإستغناء عنه. بل هي وقفة مع قامة فكرية شامخة، و عقل رصين وحكيم، قوي و متماسك، أصر على نحت إسمه بحزم و تفان في سجل الفكر و السؤال، مستفيدا في ذلك من قوة الملاحظة والاطلاع النظري الواسع والحفر الميداني الدؤوب. وهو ما سمح له بخلق تراكم معرفي هام، شكل تربة خصبة لكل الباحثين المقبلين على مقاربة تاريخ البنيات والذهنيات المغاربية.
هو المبدع جاك بيرك[1] الذي عكس من داخل دراساته النظرية ومقالاته الإدارية، مقاربات تحليلية متنوعة عميقة على مستوى البناء النظري، قاربت إشكالات مختلفة في الماضي والحاضر، لا زالت لتداعياتها راهنية في الساحة المتوسطية عامة والمغاربية خاصة . من قبيل إشكالية العلاقة بين السلطة والمعرفة، الثابت والمتحول.. هي حياة حافلة بالمواقف والأعمال والانجذاب نحو الأمثل والأجمل: إنها حياة بيرك هذا: «الإداري المتمرد، منتقد الاستعمار، المتجول دائما مع الغير، الطوباوي العامل الذي اختلط بالكائنات وشارك في صراعات إنهاء الاستعمار، آخذا في الوقت نفسه نصيبه من حركات النخبة الفرنسية المثقفة...»[2].

elites et cultureتـــقـــديـــــم :
إن أفق التنمية والنهوض بأوضاع المجتمعات يمر عبر مراحل متعددة توصلها إلى تحقيق تنمية شاملة من الناحية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية. فأول ما يتبادر إلى الذهن هو إقرار الديمقراطية وتحقيق حق الشعوب في ممارسة العمل السياسي والمشاركة في الحكم بالتداول على السلطة وسن الدساتير والقوانين وتوزيع الثروات الوطنية، ونبذ التمييز العنصري والطائفي والديني والمذهبي بين مختلف فئات ومكونات المجتمع الواحد، وهذا يقود حتماً إلى تكريس المؤسسات بقوانينها وقيمها العادلة، إضافة إلى النهوض بالتعليم والمعرفة ونبذ التخلف والجهل والأمية والشعوذة الفكرية والسياسية... ثم في النهاية النفكير في بناء اقتصاد وطني قوي قائم على المنافسة الشريفة والاستفادة من المواد الأولية الوطنية لخلق خطة استراتيجية للقضاء على الفقر والبطالة والاستهلاك المفرط لبضائع وسلع الغير دون تفكير حقيقي في البضائع المحلية التي تعيش أزمة تسويق واستهلاك ...
إن الوعي بهذه المقومات التي تحقق التنمية الشاملة داخل المجتمع، والطموح لتحويلها إلى عقيدة إنسانية يقتنع بها الجميع، يقود إلى خلق ثقافة جديدة تساهم في دفع الجميع إلى المشاركة في بناء المجتمع وتنميته، وإنتاج الوسائل الكفيلة بتحقيق كل هذه الأهداف .

Soft Air of Abstractionمقدمة
 عرفت الدراسات الأنجلو ساكسونية حول المغرب انتعاشا ملحوظاً خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، حيث حل بالمغرب جيل من الباحثين ضمن موجة الدراسات المقارنة والمناطقية التي كان المغرب مجالا خصبا لأبحاثها، وأخرجت باحثين كبارا، كوليام زارتمان بكتبه عن النظام السياسي بالمغرب والنخبة والاقتصاد السياسي، وإرنست كلنر بكتابيه عن أولياء الأطلس والمجتمع المسلم ، وبول رابنوا بكتابه عن الهيمنة الرمزية، وهنري مونسن بكتابه عن السلطة والدين بالمغرب، وجون واتربوري بكتابه عن الملكية والنخبة السياسية بالمغرب، فضلا عن باحثين آخرين أتاح لهم المغرب فرصة تعميق وتطوير أبحاثهم مثل عالم الإنتروبولوجيا الثقافية كليفورد جيرتز، أو عالم السياسة جون إنتلس بكتابه عن الثقافة والثقافة المضادة بالمغرب، ومارك تسلر بدراساته عن التعددية والملكية في المغرب.

ecriture-asemantiqueيعتبر تاريخ الزمن الراهن أو الحاضر مفهوما جديدا ارتبط تأسيسه بتطور الإسطوغرافيا، والبناء التدريجي للتحقيب كآلية للسرد التاريخي أو كمفهوم لتمثل الزمن الماضي، فظل مثله مثل هذه المفاهيم محاطا بلبس يستلزم معالجة خاصة لتوضيح مجالات استعماله[1]. فالتاريخ الحديث، والمعاصر، والراهن كلها مصطلحات تحيل على حقب تاريخية محددة بهذا القدر أو ذاك من الدقة حسب المدارس التاريخية الأوربية، كما تحيل داخل كل حقبة على شيء آخر له ما يميزه. هذا الشيء الآخر هو الذي يسائل المؤرخ، و يدفعه للتدقيق، و التوضيح، و البحث.
     لقد حاول بعض المؤرخين الذين اهتموا بالزمن التاريخي توطين الزمن الراهن ما بين الماضي، و المستقبل إلا أن التوطين في واقع الأمر صعب للغاية فأين ينتهي الماضي، و أين يبدأ المستقبل؟. هذا السؤال الجديد يدفع الباحث في التاريخ إلى العودة إلى تنظيرات المدارس التاريخية الأوربية حول الزمن الراهن. فقد اعتمدت المدرسة الوضعية في التاريخ كمسافة نقدية البعد الزمني فأوقفت مجال الماضي على بعد خمسين أو ثلاثين سنة من تاريخ كتابة المؤرخ للتاريخ، و بررت ذلك مرة بوضوح الرؤية نظرا للبعد الضروري، و مرة بتوفر المادة المصدرية الرسمية، و العمومية، أي فترات وضع الدول لأرشيفاتها رهن إشارة الباحثين. من البديهي أن التبريرين لا يصمدان أمام النقد المنهجي فالقرب عكس البعد قد يكون أفضل لمراقبة علمية، كما أن قوانين الدول في مجال التوثيق قد تقلص أو تمدد المسافات الزمنية لفتح أرشيفاتها جزئيا أو كليا. قد يبدو هذا الحديث بديهيا إلا أن الأمر معقد في العمق إذ يتعلق ببنية الزمن، فالتطورية الوضعية تمثلته كخط مستقيم لذلك تصورت الماضي - الحاضر - المستقبل، كتقطيع عمودي صارم في خط أفقي، و بذلك لم تثر لديها مسألة الحدود أية إشكالية[2] .