أنفاستدل كلمة إفريقية على الناحية الشمالية الغربية من إفريقيا  خاصة مناطق طرابلس إلى القيروان و نواحي تونس إلى الجزائر أي المنطقة التي كانت تمثل الولاية التي كانت تشمل ناحية ما بعد مصر في عصر الفتوحات والدولتين الأموية  و  العباسية  إلى أن اِستقلت تلك الناحية في عهد الدولة الأغلبية عند آخر القرن الثاني الهجري .
لقد ورد في كتاب ـ الحُلل السندسية في الأخبار التونسية ـ للوزير السراج  بالجزء الأول منه خبر أن ببلاد المغرب مقبرة فيها عشرة من الصحابة بعثهم أهل المغرب رسلا لرسول الله - صلى الله عليه و سلم  - فدخلوا مسجده الشريف فلما وقفوا سألوا عنه - صلى الله عليه و سلم - بلسانهم ( آذا ما زان إيربي) و هي كلمات بربرية : فآذا معناها أين، و آمازان معناها رسول، و ايربي معناها ربي، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :- آشكاب - و معناه - و الله أعلم - أي شيء تريدون - انتهى الخبر  (1)
فهذا الخبر إن كان صحيحا يدل أن العلاقة كانت موجودة بين العرب و البربر قبل الفتح و تمثلت هنا في تبادل العبارات بين الوفد المغربي و الرسول عليه الصلاة و السلام و لا شك أن الاتصال بين الشمال الإفريقي و بين الجزيرة العربية في بعض النواحي كان قائما بينهما من خلال الفراعنة و الفينيقيين و قد بدأ الفتح العربي الإسلامي لإفريقية في عهد عمر بن الخطاب الذي ورد عليه الشاعر أبو ذؤيب الهذلي و هو خويلد بن خالد من بني هذيل و أبو ذؤيب يعتبر من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية و أدركوا الإسلام و عندما سئل حسان بن ثابت، من أشعر الناس في عصره قال أبو ذؤيب الهذلي و هو صاحب القصيدة الشهيرة التي مطلعها :

 أمن المنون و ريبها تتوجع          و الدهر ليس بمعتب من يجزع
و هي من عيون الشعر العربي القديم في الرثاء ناهيك أن المنصور العباسي لما مات ابنه جعفر طلب من ينشده القصيدة فلم يظفر بأحد من بني هاشم ليحفظها له فقال : و الله إن لمصيبتي بأهل بيتي أن لايكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلة رغبتهم في الأدب أعظم وأشد علي من مصيبتي بابني( 2( .
و تقول الأخبار أن أبا ذؤيب الهذلي قدم مع ابنه و ابن أخيه على عمر بن الخطاب فقال له : أي العمل أفضل يا أمير المؤمنين؟.

أنفاسمنذ إرساء الوفاق المعروف بـ"الكونكورداتو"، بين الكنيسة والسّلطة الفاشية سنة 1929، لتنظيم علاقة حاضرة الفاتيكان بالدولة الإيطالية، ترسّخت تقاليد ضمن قاعدة "كنيسة حرّة في دولة حرّة". انجرّ عن ذلك فصل قانوني بين الشأن الدّيني والشّأن المدني، لكن في الواقع عناصر التّداخل كثيرة ومتنوّعة. فمثلا نجد 25679 مدرّسا دينيا تتولى الدّولة دفع رواتبهم، مع أن انتدابهم من مهام الأساقفة لا وزارة التعليم الإيطالية.
من ذلك التداخل نودّ التطرق إلى مسألة مال الكردينال. فللأسف أن الكنيسة في التاريخ الغربي إلتصقت بشكل دائم بأرباب الثروات والإقطاعيين، رغم ادّعائها أنها حاملة بشارة السيّد المسيح وراعية الفقراء.
على إثر عدة فضائح مالية هزّت الكنيسة خلال سبعينيات القرن الماضي، أشهرها تورط بنك الكنيسة، "بنك أمبروزيانو"، في عمليات فساد، اضطرّت القائمين عليه لغلقه. في أعقاب تلك الفترة ترأّس الكردينال كاميلو رويني "المؤتمر الأسقفي الإيطالي"، وأعلن الرجل حينها عجز الكنيسة عن دفع أجور موظّفيها. بعد عشرين سنة من ولايته بُدِّلت الكنيسة غير الكنيسة، عادت لها عافيتها وصار الجميع يخطبون ودّها، ساسة ورؤساء أحزاب، وبلغ تأثيرها في إيطاليا من حزب "التحالف الوطني" اليميني المتطرّف إلى حزب "إعادة التأسيس الشيوعي". وبات الجميع يتبجّحون بميولاتهم الدينية ويحرصون على التردّد على قدّاس الأحد. في أبريل من العام الماضي، انسحب رئيس حزب إعادة التأسيس الشيوعي ورئيس مجلس الشيوخ، فاوستو برتينوتي، في خلوة روحية مع نسّاك بشبه جزيرة مونتي آثوس باليونان، الخاصة بالذّكور والمحرّمة على الإناث، بشرا وطيرا وحيوانا.
فترة ربيع الكنيسة في إيطاليا من حيث النفوذ السياسي والاجتماعي، انطلقت مع الكردينال رويني، رغم تراجع عدد الرهبان من ستين ألف إلى 39 ألف. صارت الكنيسة لا يعنيها أن تكون ملح الأرض، بل أن تتحكّم بسلطان الأرض. وهو ما حدا باللاّهوتي المنشق جوزيف راتسينغر ليقرّ أنّ "الكنيسة بصدد التحوّل إلى عقبة رئيسة للإيمان. فليس فيها غير طموح بشري للسلطة. والمسرح الصغير من الناس، بادعائه تسيير المسيحية الرسمية، يبدو حقا العقبة أمام روح المسيحية".

أنفاسخبر المثقف العراقي جيدا مساحة العالم الجديد، بدراية نافذة، تحت مظلة عالم الثورة المعلوماتية، المنحدرة ككرة الثلج من الأعلى إلى الأسفل، وكلما وصلت إلى مستوى ما زاد حجمها، أزادت سرعتها، وبقدر ما نزل الى ساحة بلده من طامعين اقليميين، بقي كمثقف حريص؛ متطلعاً بعمق إلى اغلب موروثاته، وموروثات الأمم الأخرى، صار مستشرفاً على ما يجري من تغيرات على خريطة العالم الذي كان رازحاً تحت نير -الحاكم بالدكتاتورية المفرطة، إذ كان موقناً بان ما من حال يدوم، فثمة أنظمة اتخذت من الديكتاتورية سدّا منيعاً لتطبع أنظمتها الثقافية، على أساس (بأنك تستطيع أن تقيد الناس بسلاسل أقوى من الحديد عن طريق أفكارهم هم أنفسهم- ميشيل فوكو)، صار المثقف يرى اقرانه منقسمين إلى جهتين متعاكستين في الاتجاه، الآخر إلى أقصى اليمين تطرفاً، واليسار إلى أقصى اليسار تطرفاً، فالقلق والأمل صنوان لعملة واحدة على الرغم من تعارضهما. قلقهم في التغيرات المتينة للمستحدثات التقنية التي تفرضها القاعدة التكنولوجية، والتي تسير قدما بلا تأخر لتكتسح كل ما حولها، وما كان قديما في الفكرة والاستخدام يجده قد تفتت إلى نتفٍ صغيرة، وربما باتت لا تعني أحدا ابد، (فالفكرة الجيدة لا تذهبها سوى الفكرة الأفضل) والقسم الثاني من المثقفين قد وجدوا أنفسهم أمام عاصفة قوية من الإقتلاعات العلمانية، والأجتثاثات الإقليمية، فصار لزماً عليهم أن يتمسكوا بما كانوا يؤمنون به، أو ما كانوا يعملون به، يطوروه إلى الأفضل، و إلا عليهم بان يسلموا لما استحدث. فالثقافة وعياً في الوعي، والأداة، والمكان، والزمان. والمثقف هو من يعمل وفق نظام ما يكون عليه لزما الحضور في زمنه، ومكانه، مدافعاً بعلمية عما يراه جاداً، وجدياً، وفيه طموح لأن يطور ما كان يستحق التطوير، مستحدثا أنظمة غالبا ما تكون متداخلة من ثقافة الآخر، وربما، يكون المحتوى نفسه يسير حثيثا داخل المتعارضات بالتسميات، ويصبان في هدف واحد هو كيفية توسيع القاعدة لكل منهما على حساب الآخر. يكون المستشرف لما يجري أمام ناظريه، وقد أنجز ما يسمى بالتعددية الثقافية، كونها استعراض مقارن ما بين خيارات معرفية للأنظمة الثقافية؛ التي تشمل وحدات المعرفة بكل ما يتناوله الإنسان المعاصر، فهناك زلازل تهزّ هزّاً عنيفاً كل ضعف، وهي أنظمة (العسكرة) العلوم العسكرية، ونقلها إلى حقل الثقافة، أو بتعبير أصح، إلى بقية المجتمع والتاريخ، فتم تعميم مفهوم (العسكرة) الثقافية بحيث لم يعد مقتصراً على غزو الجيوش، هناك غزو عام.. غزو التجارة والسلع والأجهزة الالكترونية، وهناك غزو للقيم والعادات والتقاليد تتنافس في تحقيقه الفضائيات، ووسائل الدعاية. تعددت وسائله، وصار المثقف ينظر إلى مفهوم الغزو الثقافي في معانيه العديدة، وإتساعاته المفهومانية، قلقاً بشأن وجوده، و مبهماً فيما يطرح عليه من جدل مفاهيمي بين قوى الحداثة وقوى التقليد، فالتيارات القومانية استخدمت هذا المفهوم أيضاً، دفاعاً عن ما كانت تطرحه لجمهورها، كشعارٍ سياسي ضد التيارات الاشتراكية في الخمسينات والستينات. 

أنفاستعرضت الأراضي الفلسطينية في العصور الوسطي مع الشام ومصر للعدوان الصليبي القادم من أوربا تحت مظلة الدين، وذلك في صورة حملات يقودها ملوك وأمراء أوربا لتخليص المقدسات المسيحية من شرور المسلمين. وقد اتخذت هذه الحملات من الصليب شعارا لها ليوهمون به الجميع أنهم جاءوا لنصرة المسيحية، بيد أن الحقيقة كانت عكس ذلك لأن هذه الحركة الصليبية كانت لها دوافع حقيقية عديدة جاءت مستترة تحت الدافع الديني الظاهري المعلن لهذه الحركة. ومن بين هذه الحملات تظهر بجلاء تلك الحملة الصليبية المعروفة بالحملة الصليبية الثالثة التي شهدت أعظم قادة العرب "صلاح الدين الأيوبي" وأشهر ملوك الغرب "ريتشارد قلب الأسد".
وخلال أحداث هذه الحملة دارت المفاوضات بين السلطان صلاح الدين الأيوبي والملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد لمدة عام كامل(1191-1192) وكان فارسها العادل الأيوبي. وفي الغالب ضاع موضوع المفاوضات في ثنايا أحداث الحملة، وبإلقاء الضوء على مائدة التفاوض الأيوبية الصليبية تتضح بعض الجوانب الهامة ومنها حقيقة فكرة المصاهرة السياسية التي اقترحها ريتشارد قلب الأسد لتزويج أخته من العادل الأيوبي شقيق صلاح الدين.
فقد أرسل ريتشارد في 20 أكتوبر 1191م / 29 رمضان 587 هـ برسول للعادل ومعه عرض بالمصاهرة يتمثل في اقتراح ريتشارد بأن يتزوج العادل من جوانا ملكة صقلية ( أخت الملك ريتشارد ) وأن يقيما الاثنان بعد الزواج في مدينة بيت المقدس ويكون حكمها ثنائيا بينهما، وأن يهب السلطان شقيقه العادل جميع بلاد الساحل بالإضافة إلى ما في يده من بلاد، وان يقدم ريتشارد لشقيقته كل ما فتحه من مدن الساحل بما في ذلك عسقلان، وان ترد إلى الداوية والإسبتارية كل ممتلكاتهم في بلاد الشام، وان يحصل الصليبيين على صليب الصلبوت، كما يتم تبادل الأسرى بين الجانبين.
وقد أرسل العادل بوفد إلى السلطان لعرض الأمر عليه، وقد ترك مجلس المشورة الرأي للسلطان فوافق على المشروع كما وافق العادل أيضا، إلا أن الرفض جاء من جانب جوانا التي أنكر رجال الدين عليها هذا الزواج، ولهذا عرض ريتشارد على العادل الدخول في الديانة المسيحية، إلا أن العادل رفض ذلك في دبلوماسية وترك باب المفاوضات مفتوحا. وكانت آخر الرسائل التي بعثها ريتشارد في هذا المشروع تفيد بأن رجال الدين يرفضون هذا الزواج دون مشورة البابا، ولهذا فقد أرسل ريتشارد له رسولا يعود بعد ثلاثة أشهر فإذا صرح بالأمر تم عقد الزواج وإلا زوج ريتشارد العادل ابنة أخته إليانور دون أن يحتاج إذن البابا في ذلك.

أنفاس- الألم الأول: حين تعلمت اللغة العربية الفصحى قراءة و كتابة، و تحت نير آلام فادحة و كأني أتعلم لغة الجن ! و ليس لغة آبائي و أجدادي، فالانتقال من الدارجة إلى الفصحى هو انتقال من عالم إلى آخر لا يمت للأول بصلة، و كان ذلك على يد معلمين أجلاء متحمسين بنشوة الاستقلال و جلاء قوات الاحتلال، و يحركهم اعتبار ذاتي رائع و فعالية ذاتية واضحة، و هما دعامة رسالة التعليم، خيل إلي باستمرار و كأني طائر في الحدائق  المعلقة وأصداء الطب و الفلك و الرياضيات و الفلسفة و الشعر و الموسيقى تملأ الدنيا...دنيا العربية. و صاحبني هذا الإحساس الخادع إلى مراحل متأخرة من تعليمي الثانوي، و بالضبط إلى أن بدأ اتصالي بالدرس الفلسفي. هنا بدأت أشعر و كأني نفس ذلك الطائر القديم و لكن بين يدي فلاح خشن ينزع ريش جناحيه و يهم بوضعه في قفص. و لم يكن ذلك أبدا بسبب صعوبات في النحو أو الصرف أو البلاغة أو العروض، أو بسبب ما بات مألوفا لدي حول كون اللغة عموما هي أداة سلطوية و كل اللغات فيها حدود لما يقال و يكتب، أي أننا لا نستطيع أن نقول (باللغة) أو نكتب كل ما نستطيع قوله و كتابته و أن الأمر يبلغ في العربية حدوده القصوى ، لا بل بسبب ما تستمر اللغة العربية في إتاحته من لهو الحديث و فارغه بشكل رهيب، و من إمكانيات فوق-عادية لسلب المجتمع(باللغة) و للركوع و الخنوع و الانحناء و الانكسار و القبول بالفرز و الإقصاء و التهميش و التمييز الصارخ و الاستسلام لأدنى شروط الآدمية، للتقريد إذن...، بسبب ما تكرسه هذه اللغة من كلمات و بنيات تحتل خريطتها، وأجدها تهشم عقلي و عظامي أيضا. ف "السيد" و "الأعيان" و "الوجهاء" و"الرعية" و " المساكين"و "الهامشيين"....كلمات/وقائع تستمر في تأثيث مخيالنا بدون مشاكل، و تنتظم بناء عليها حياتنا اليومية بدون اعتراض ، لا بل حتى بدون سؤال. و "الواقعية" تستعمل بمعنى قبول الذل و الهوان، و "التسامح" بمعنى التصالح مع من يصرح و يؤكد بالفعل على الأرض أن شرط وجوده إبادتنا، و "الحكمة" و"الاعتدال" بمعنى التواطؤ و الانتهازية ...الخ، و قد يأتي الاستعمال الواسع ل "الانتحار" كمرادف للعبادة، و الصياح: "عاشت إسرائيل دولة عظمى و لينقرض العرب" كمرادف للكرم و حسن الضيافة !!، فقوى الشر تجتهد و تبدع بضراوة في آليات التسطيح و التنكيل.
- الألم الثاني : أمي التي كانت شارفت التسعين قبل مغادرتها لهذا العالم، لم يكن تعليمها و مثيلاتها بالقرى المغربية النائية يدخل في حسابات المحتل، و غادرت هذا العالم على حالها ما دامت سياسة محو الأمية التي ما فتئت "الحكومات العربية" ترددها منذ رحيل الجيوش الاستعمارية (طبعا فهي عادت اليوم )، إن هي إلا شعارات زائفة للاستهلاك الداخلي و"استهلاك" المساعدات الخارجية و إغراق شعوب بكاملها في ديون مالية و سياسية تجاه المؤسسات الدولية و المراكز الامبريالية، هذه الديون التي غالبا ما يتم تحويلها إلى حسابات بنوك أجنبية ل "وجهاء" و وزراء و لصوص و أمراء...، و يكتب على الأوراق كونها صرفت لمحاربة الأمية في أوساط "المعوزين" و "المساكين"، و يتم تقديم صور على قنوات التلفزيون لدروس مكشوف زيفها إلى درجة البهتان، ثم يطوى الملف بانتظار مساعدة دولية أخرى أو قرض آخر، فصور كاذبة أخرى و درس زائف آخر...

أنفاس منذ أن رُبِطَت لاهوتيا مصائر شقّ واسع من أتباع المسيحية في البلاد العربية بالكنيسة الغربية، تكثّف العمل لإضعاف الأواصر التي ترتبط تلك الجماعات بالحضارة العربية الإسلامية. واشتدّت الإغراءات لإلحاقها، خدمة وولاء وتبعية بالكنيسة الغربية. ترافق ذلك المسعى مع الضّعف الذي دبّ في الكيان الحضاري العربسلامي. وربما يلحظ المراقب التاريخي أبرز تلك التحوّلات في ما صار ينعت به مسيحيو البلاد العربية بمسيحيي الشّرق، والنّعت ليس بريئا.
اختُلِقت لتلك الجماعات المجتثّة هويات وقوميات عدّة: آشورية وكلدانية وسريانية وفينيقية وقبطية، إلاّ أن تكون عربية. وصارت العناوين التي تعقد تحتها المؤتمرات واللّقاءات في الغرب، بشأن مناصرة المسيحية "المستضعفة"، وتطارح إشكالياتها وقضاياها، تحت مسمّيات "مسيحيو الشّرق"، مع تغييب متعمّد لنعت "المسيحيين العرب" أو "المسيحية العربية". وغالبا ما تنتهي خلاصة الحديث في تلك اللّقاءات إلى تصوير المسيحيين المشارقة كبش فداء، واتهام الإسلام أوّلا والعرب المسلمين ثانيا. والغريب أن المغرَّر بهم صدّقوا ذلك، وراحوا يتملّصون مما يربطهم بمهدهم الحضاري الشّامل والرحب. تذكّرني واقعة نفي الهويّة والتملّص منها بحكاية شائعة في الغرب الإسلامي -تروي أنّه سئل بغل عن والده -الحمار-، استحى من ذكره، فردّ قائلا: خالي الحصان!!-.
آخر تلك النّدوات التي عقدت لتباحث مستقبل المسيحية العربية كانت خلال اليومين 16 و17 من شهر نوفمبر من العام المنصرم، بدعوة من المعهد العالمي لعلوم الأديان بباريس، والتي حضرها لفيف من رموز المسيحية العربية، منهم البطريارك ميشال الصبّاح، والأب أميل شوفاني، ورئيس أساقفة بغداد يوحنا بنيامين سليمان، والمطران جورج خضر، والأب اليسوعي المصري سمير خليل سمير. كما حضرها جمع من الغربيين ممن ينشغلون بالأديان، منهم المأسوف على ثوريته المفكّر ريجيس دوبري.
المسيحية العربية محنتها الأساسيّة واردة ممن يدّعون أنهم حماتها وأوصياء عليها، ولكن الاعتراف بذلك الواقع يتطلّب شجاعة روحية في مستوى صدق السيّد المسيح، عليه أفضل الصّلاة والسّلام، في حادثة "من لم يفعلها منكم فليرمها بحجر". فمن سخرية القدر أن المسيحيين -على افتراض أن بوش وآله منهم- هم من يجلُون ويهجّرون أتباع المسيح من دورهم وأراضيهم في العراق. فقد كان البلد يضم قبيل الحرب ما يربو على نصف مليون مسيحي، تراجع العدد مع حملة "اللاّهوتيين المحافظين" إلى ما يقارب المائتي ألف. كما أنّ أعوان بوش في فلسطين السّليبة هم من يهجّرون المسيحيين الفلسطينيين، لا حركتا "حماس" و"الجهاد" "المتطرّفتين" كما يروَّج بهتانا.

أنفاسالكنيسة ومكارِه الحداثة
حين نشر الفيلسوف الأنجليزي برتراند راسّل (1872-1970) كتابه: "لماذا لست مسيحيّا" سنة 1957، وقد جمّع فيه مقالات نشرها في ما مضى بين 1925 و1954، كانت المسيحيّة تشهد تخلّفها عن مسايرة نسق حداثة المجتمعات الغربية. في الكتاب المذكور عالج راسّل المحاور التي جعلت المنظومة اللاّهوتية في الدّيني المسيحي، ولواحقها المؤسّسية السّلطوية، غير قابلة للتعايش مع العقلانية والدّيمقراطية، اللّتين تطبعان الفكر والمجتمعات الحديثة. ولئن عرض في تلك الفترة راسل المبرّرات التي تحول دون أن يكون المثقّف الحداثي مسيحيّا، فإنّ مشروعية طروحاته تبقى حاضرة التّرجمة في واقع تراجع المسيحيّة في الغرب.
ففي معطلع العام الماضي نشرت مجلّة "عالمَ الأديان" الفرنسيّة ملفّا خاصا عن الكاثوليكية في فرنسا، التي درج نعتها بمقولة الكاردينال لانجينيو سنة 1896 "فرنسا، البنت الكبرى للكنيسة"، بينت فيه أن تلك الرّيادة في الغرب، دبّ فيها تراجع مذهل، منذ الثّورة الفرنسية ومنذ إعلان قانون فصل الدّولة عن الكنيسة سنة 1905، وذلك لعدّة أسباب: منها النزوح عن الأرياف وثورة العوائد وتصاعد الفردانية، ويتواصل ذلك الانحدار بدون توقّف حتى الرّاهن.
مازالت ممارسة الشّعائر بشكل منتظم المقياس الأكثر رواجا في قياس التديّن، وفي الحالة الفرنسية تشهد انخفاضا لافتا، فهي لم تعن سوى 10% من الفرنسيين خلال 2006. والاعتقاد في الله الذي بقي تقريبا مستقرّا حتى منتهى السّتينيات، حوالي 75%، تنازل إلى 52% مع 2006. كما أن 7% فقط يرون أنّ الكاثوليكية هي الدّين الصّحيح فحسب، وارتفع عدد الذين يقولون أنهم "بدون دين"، حيث بلغوا 31%. ويزداد تباعد النّاس من المؤسّسة الدّينية، خصوصا حين يتعلّق الأمر بمسائل ذات صلة بالأخلاق والانضباط، إذ نجد 81% مع زواج رجال الدّين، و79% كذلك، مع ترقية النّساء للمناصب الدّينية. خسر إكليروس الكنيسة تقريبا كافة سلطته الأدبية على المؤمنين في فرنسا.
والواقع أن عديد المفكّرين الكبار استشعروا مبكّرا انعزال الكنيسة، فحاولوا تدارك الخطاب الكنسي للخروج به من عقمه اللاّهوتي. كانت محاولة مصالحة الكنيسة مع الحداثة من الباب الفرنسي، مع مجموعة من المفكّرين المؤثّرين مثل: جاك ماريتان، فرانسوا مورياك، بيار إمانويل، هنري دي لوباك، وإمانويل هونيي، غير أنّ هؤلاء أدينوا بالصّمت من البابوية في روما، التي تخشى تولّد قطب مؤثّر لا يدين بالخضوع للفاتيكان.

أنفاسحاوره: أحمد الطراونة *
يرى أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية علي محافظة، أن التاريخ لا يعود ولا يمكن أن يعيد نفسه، مبررا ذلك بأن هنالك أمماً تنقرض وأخرى تتقدم وثالثة تخرج من الحضارة وتعود إليها أو يتوقف إسهامها في الإنسانية. ويضيف محافظة: من يقول إن التاريخ يعيد نفسه، ما يزال يعيش في الماضي ولم يعِ التاريخ والحاضر .
ويؤكد محافظة المولود في بلدة كفر جايز (إربد) سنة 1938، والحاصل على درجة دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة السوربون-باريس (1980) أن الوعي بشكل عام هو وعي سياسي، والوعي بالتاريخ هو جزء من الوعي السياسي، مضيفاً: حتى تعي التاريخ يجب أن تكون متعلما، بمعنى أن الوعي مرتبط بالتعلم، وبما أن التعليم في الوطن العربي كان متأخرا فإن الوعي بالتاريخ وغيره ظل متأخرا أيضاً .
تالياً حوار مع محافظة، حول علم التاريخ، وعلاقة المؤرخ بالمثقف والسياسي، ومدى قدرة الوعي بالتاريخ على فهم المستقبل.
الطراونة : إلى أي حد يمكن أن يكون المؤرخ مثقفا، أو العكس: أن يكون المثقف كالروائي أو المسرحي أو الشاعر ملمّاً بالتاريخ أو عارفا به؟
- من الخصائص الأساسية للمؤرخ أن يكون مثقفا إذا قصدنا بالثقافة الإلمام بمختلف العلوم الاجتماعية وبمختلف قضايا الأمة ومشكلاتها، خصوصا أن المؤرخ يحتاج بشكل مباشر إلى العلم بالجغرافيا والاجتماع والاقتصاد والآثار ومجمل العلوم التي لها علاقة بعمله، وبغير ذلك لا يستطيع أن يفهم الحدث التاريخي وان يحلله ويتوصل إلى معرفة الحقائق فيه، خصوصا ان هدف المؤرخ دوما هو البحث عن الحقيقة: حقيقة الحدث التاريخي أو المسألة التاريخية التي حدثت عبر الماضي. وبغير ذلك سيكون مؤرخا أعرج أو غير قادر على تحليل الوقائع التاريخية تحليلا منهجيا دقيقا.
الطراونة : وهل ترى أن العكس مطلوب أيضا، أي أن يكون المثقف ملما بالتاريخ؟
- الروائي أو الشاعر أو القاص مضطر إلى أن يكون عارفا بالتاريخ أو بالفترة الزمنية التي تدور الأحداث فيها، خصوصا إذا كانت الرواية تاريخية أو قصة تاريخية أو مسرحية تاريخية، فلا بد له أن يفهم الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحالة النفسية للشخصيات التي ساهمت في هذا الحدث.