لا شك أن ثقافة الاحتجاج غدت نوعا من الوجود بالضرورة ، الطامح إلى بناء فلسفة سياسية و ثقافية ، تمتح من معين الرصيد الثوري للشعوب، التي نجحت في تحقيق أمنها السياسي ، و تقعيد أسس الفعل السياسي في البعد الذي يجمع بين خطابها " النظري " و نزوعها العملي ، و قد أرست هذه الثقافة لمحو الخوف السياسي من النفوس ، الذي اعتاد ممارسة الوهم باسم السياسة ، انطلاقا من مبدأ " الطاعة و الرعية " ، غير أن هذا المنحى لم يستطع بعد  أن يؤسس ذاته باعتباره فعلا احتجاجيا مقرونا بالحجاج السياسي ، الذي يتأسس على السلمية و القوة الاقتراحية  ، و يترجم في المشروع الاجتماعي البديل الذي يطور من التراكم المحقق ، و يتجاوز الكوابح و المعيقات ، و يستطيع أن يستثمر خصوصياته المجالية و الاجتماعية و الثقافية و حبك مقوماتها ، و نسج اختلافها في وحدة منسجمة ، تتعالى على الانتماءات القبلية أو الدينية أو الحزبية الضيقة ، و الإحن العرقية الفجة .

يُمثّل كتاب ستيفانو ماريا توريللي الصادر بالإيطالية بعنوان "تونس المعاصرة" قراءةً معمّقةً للأوضاع السياسية والاجتماعية بتونس في الوقت الراهن. ولعل أهمية قراءة توريللي في تعبيرها عن وجهة نظر غربية متابعة للأحداث في هذا البلد، بعيدا عن الرؤى العربية المحاصَرة بين مناصرة الثورات التي شهدتها جملة من البلدان ومعاداتها. فالباحث من المتخصّصين الإيطاليين في الشأن التونسي، علاوة على كونه يدرّس تاريخ الشرق الأوسط السياسي في كلية اللغات والإعلام في مدينة ميلانو، وقد سبق له أن أصدر جملة من الأبحاث القيّمة في الشأن نذكر منها "الربيع العربي: التداعيات والآثار" (2012)، فضلا عن كونه من المساهمين بانتظام في صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية بتحليل القضايا العربية.

لقد كان الكلام في الإمامة، في الأصل، جزءا من الصراع السياسي بين الشيعة والسنة، وكان الهدف منه إضفاء الشرعية –أو نزعها-على تجارب في الحكم ماضية. ولما أخذ هذا الماضي في الابتعاد عن الحاضر صار الكلام في "الخلافة" عند أهل السنة، وفي "الإمامة" عند الشيعة"، يميل أكثر فأكثر نحو تبرير الواقع الذي يفرضه ميزان القوى في الصراع من أجل السلطة. كان الصراع سياسيا محضا ولم يكن الدين فيه طرفا، لا على مستوى النصوص ولا على مستوى ما قد يكون هناك من تناقض بين من يتحدثون باسم النصوص ومن يمارسون الحكم. أما في التجربة الحضارية الأوربية فالصراع الذي منه خرجت فكرة العقد الاجتماعي وفيه تطورت كان صراعا من نوع آخر، صراعا بين قطبي هذه التجربة في العصور الوسطى: الدولة والكنيسة. ومن هنا يمكن القول، كجواب عن السؤال الذي طرحناه آنفا، إذا كان لا بد من جواب: إن مبدأ "عقد البيعة" في الإسلام لم يتطور إلى "عقد اجتماعي" بالمعنى الأوربي للكلمة لأن الإسلام لم يعرف الكنيسة كهيأة دينية اجتماعية لها السلطة الروحية وتنافس الدولة على السلطة الزمنية.

ترددت في السنوات الأخيرة في الساحة الفكرية العربية نداءات تدعو إلى صياغة وإبرام "عقد اجتماعي عربي جديد". ونحن هنا لا نرمي من وراء هذه "الهوامش" إلى الدخول في مناقشة مضامين هذه الدعوات! كل ما نهدف إليه هو إلقاء بعض الضوء على هذا المفهوم -"العقد الاجتماعي"- كما طرح ووظف في تاريخ الفكر الغربي مع الإطلالة على الكيفية أو الكيفيات التي طرح بها هذا المفهوم نفسه، أو ما يوازنه أو يرتبط به نوعا من الارتباط، في الحضارة العربية الإسلامية.
ولكي نقترب من صلب الموضوع منذ البداية نرى من المفيد التذكير بأن مفهوم "العقد الاجتماعي" هو فرضية –قد يكون لها أساس ما في الواقع البشري أو لا يكون- كان الغرض منها تأسيس السلطة السياسية على رضى المحكومين، وبالتالي بيان كيف نشأت الدولة وكيف يمكن تأسيس الديمقراطية، كما سنرى لاحقا.

" الناس لايقتلون من اجل فصل السلط بل من اجل الكرامة و الحقوق " الان تورين ، العالم البارز في علم الاجتماع
حقوق الانسان هي ثقافة تتضمن مجموعة من القيم و المبادئ الموجهة للسلوك الانساني ، كما تتضمن صورة معينة عن الانسان و المجتمع و السياسة . ففكرة حقوق الانسان تطورت عبر مسار طويل حيث يعتبرها René Casin [1] ، علما يرتكز على الدراسة و البحث وفق الكرامة الانسانية : " علم حقوق الانسان يمكن تعريفه كفرع خاص من فروع العلوم الاجتماعية ، موضوعه هو دراسة العلاقات القائمة بين الاشخاص وفق الكرامة الانسانية مع تحديد الحقوق و الخيارات الضرورية لتفتح شخصية كل كائن انساني " .
وتعتبرها الامم المتحدة : " تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا ، و التي بدونها يستحيل علينا ان نحيا كبشر ".
     تقوم ثقافة حقوق الانسان على قيم جديدة كالحرية ، بل الحريات : الرأي ، الضمير ، التجمع ، التنقل، الانتماء . فجوهر الحقوق و مسلماتها الاساسية هي حرية الكائن البشري و حقه الاساسي ، و من ثمة فمنظومة حقوق الانسان مثلما انها بنية قانونية لترسيم هذه الحرية و بيان حدودها و تقاطعاتها ، فإنها منظومة اخلاقية ايضا ...

تجتاح العالم كل لحظة أكاذيب من النوع الذي يسميه جون. ج. ميرشيمر " الكذبات الاستراتيجية"، أي صيغ التلفيق و التصريحات الخادعة و المتحررة من كل قيد أخلاقي، والتي يضطر الساسة و الزعماء لاقترافها حرصا على المصلحة، وتجاوبا مع عالم مليء بالمخاطر. و لا يمكن تفسير أي حدث سياسي دولي بمعزل عن التفكير في الكذب ومبرراته المنطقية، ومنافعه المحتملة التي تحمل السياسي على ارتكابه، إن على مستوى الشأن المحلي للبلد أو على مستوى السياسة الخارجية.
إن قلة الأبحاث العلمية التي تعالج بوضوح مسألة الكذب في السياسة الدولية، وترصد تكاليفه وتأثيراته على العلاقات الدولية كانت حافزا لجون ميرشيمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، وأحد ألمع الباحثين الأمريكيين في السياسة الخارجية، لإصدار كتاب يقترح من خلاله أطرا تحليلية توفر أطروحة نظرية عن الكذب في الإطار الدولي، وتُعرف بقائمة الأكاذيب التي تساير التقلبات الدولية، لكنها لا تخلو من ضرر وأثر سلبي على الجبهة الداخلية.

 فشا الميل في التجربة الحضارية الإسلامية عموما ، بأن المدخل الأمني يعد البوابة الضامنة لتنمية و حماية البلاد ، و لا غرو أن هذا الفهم قد أبد التغلب و الفكر و الفعل العصبوي ، و أمدهما بسياج شرعي أباح لهما وحدهما  إنتاج مفاهيم الحقل السياسي و الثقافي و الاجتماعي ، لدرجة تقعيد الجانب العسكري وحده باعتباره الدلالة و الدعامة الوحيدة للأمن القومي ، و إذا كان هذا الفهم يكتسي بعض الوجاهة من خلال ربطه بالمصلحة الوطنية ، عن طريق حماية وحدة و سيادة و استقلال و استقرار الدولة ،فإنه يركز قسرا على النطاق دون المفهوم ؛ إذ هو نقطة التقاء و تفاعل السياسة الداخلية و الخارجية و أداة للربط بينهما ، و قد يتعداها إلى موقع و موضع و جغرافية الدولة السياسية ، و مدى قدرتها على تعبئة مواردها الاقتصادية و المالية و تحويلها إلى فلسفة خاصة بها [1] ،في وقت لا زال مفهوم الأمن أسير مفارقة لا نميز فيها بين الأمن القومي و أمن السلطة الحاكمة أو السلالة المسيطرة ، هذا التصور القاصر غير ذي معنى إن نحن استحضرنا أن الأمن الخارجي للدولة أضحى من اختصاص المنتظم الدولي و القوى الإقليمية الفاعلة [2] .
   إن الربط بين الأمن و الخوف و الخطر ، يحيل على مفهوم واسع لا قيود عليه ، يتم بموجبها حصره في الدفاع عن الذات بحمولتها الغريزية ، و ليس بمضمون الوعي لعل عنصر الردع الوقائي أحد خطوطها الاستراتيجية التي تجعل العملية الأمنية عملية مركبة بامتياز [3] ، لا ينفصل فيها الاهتمام بالمسألة التنموية عن قضية الأمن القومي ، الذي يشكل الجانب العسكري منه بعدا من أبعاد هذه الأمة ، إذ أن تحقيقه لن يتم دون الاستناد إلى قاعدة أمنية قوية في مستوياتها السياسية و الاقتصادية المتداخلة [4] .

"ليست الذاكرة تخزينا للماضي. فالذي مضى قد مضى ولا يسعه أبدا أن يصبح راهنا من جديد. الذاكرة هي أقرب لأن تكون نوعا من اختبار التماسك. مع العلم أنه ليس من الضروري تذكر متى تم تعلم شيء ما أو لم يتم تعلمه" [1]
تمر المنطقة العربية مثل بقية البلدان في العالم التي شهدت اضطرابا سياسيا ، بعد اندلاع الحراك الاجتماعي وبذلت محاولات للخروج من نظرة شمولية للعلاقات البشرية إلى نظرة ديمقراطية للفضاء المواطني ، بفترة صعبة وظروف مضطربة وذلك لبقاء العالم القديم على حاله وعسر ولادة العالم الجديد وقد أثر هذا التوتر على نظرة الذات الجمعية لنفسها وتعاملها مع موروثها الرمزي ومخزونها النضالي وذاكرتها الوطنية.
لقد تحول الصراع حول احتلال المواقع وجلب المنافع وتعزيز مكانة الأحزاب السياسية والهيئات المدنية في المشهد الديمقراطي إلى صراع حول الذاكرة النضالية للشعب واندلع تنافس حول أحقية كتابة التاريخ والإمساك بمطلب العدالة الانتقالية ضمن المسار الثوري وبرزت عدة مواقف حول هذه القضية الحساسة:
-         الرأي الأول ينادي بالمحاسبة الشاملة والمجاهرة بالحقيقة قبل المصالحة المحدودة
-         الرأي الثاني يتبنى خيار المحاسبة الدقيقة والمساءلة العلنية قبل المصالحة المشروطة
-         الرأي الثالث يدعو إلى الصفح بغية المصالحة الاقتصادية عبر آلية هيئة الحقيقة والكرامة
-         الرأي الرابع يؤكد على ضرورة التسريع بالمصالحة الشاملة من أجل الوئام المدني

   يحكى أن "يزيد بن الوليد"2 الخليفةٍ الأموي قد بلغ به القنوط والملل مبلغا كبيرا ذات ليلة ، فخرج إلى مجلسه يستجدي جلساءه أبياتاً تحرك ما سكن من مشاعره، وتذهب ما حل به من ضجر ،وكان بينهم حماد3 الراوية المشهور ، فقربه الخليفة إليه ، وأخذ يسأله إنشادَ نوادر الشعر ،فانبرى حماد ينشد من شعر الأحوص :
يا دار عاتكة الذي أتعزّل **** حَذَر العدى وبه الفؤاد موكل
فأشاح عنه الخليفة متأففـاً.. ثم أنشده من شعر جرير قوله :
هاج الهوى لفؤادك المهتاج **** فانظر بتوضح باكر الأحداج
فلم تحرك في الخليفة شيئـأ . ثم أنشده منشداً من شعر المجنون :
بربك هل ضممت إليك ليلى****  قبيل الصبح أو قَبّلت فاها
فأعرض عنه الخليفة ، فبينما هم كذلك حتى جرى ذكر عمار بن عمرو، الملقب بذي كبار4 ..، فطلب يزيد من حماد أن ينشده من شعره (أي عمار بن ذي كبار) . فشرع ينشـد –بجرأة و وقاحة - قصيدة ساقطة لذي كبار، نسوق بعضا منها ، ونستعيض عن بعض كلماتها بنقـط،احتراما لذوق القـارئ الكريم :