anfasse20121شغلت مسالة العلاقة بين العلمانية والديمقراطية  من جهة، وكذلك العلاقة بين  كل من الهوية الوطنية والدين، اي الدين الإسلامي، العلمانية والديمقراطية من جهة ثانية، حيزا واسعا كما هو معروف في الرؤية الفكرية والسياسية للنخب والأحزاب والحركات الاصلاحية على امتداد القرن الماضي وفي كل المجتمعات العربية تقريبا. وبطبيعة الحال فقد كان الجدل والصراع حيال هذه القضايا على اشده في هذه المجتمعات وخاصة بعد الانتقال من مرحلة الكفاح الوطني لنيل الاستقلال من الاستعمار المباشر الى مرحلة الكفاح والتحرر المجتمعي الذي كان هدفه المحوري  بناء الدولة المدنية الديمقراطية على اسس الحرية والعدالة والحداثة ومواكبة مسار العصر. واذ نكرس حديثنا هنا لهذا الموضوع فان ما نرغب في توكيده هو اننا لا نرمي من وراء ذلك  الغوص في مسائل نظرية او ايديولوجية بحتة فليس هذا هو مكانها ,وليس الأن هو زمانها، حيث بلادنا تغرق في خضم مأساة مصيرية  تهدد  مستقبلها بل ووجودها من اساسه، وتستدعي منا قبل أي شيء آخر توحيد ارادتنا  واستعادة وتمتين وحدتنا الوطنية والمبادرة الجماعية للقيام بكل ما من شأنه انقاذ وطننا. لكن الاستعراض الوجيز للموقف من تلك القضايا وفي مرحلة. المد التحرري لشعوبنا العربية في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي وكيف كان نهج واسلوب التعامل معها ,وبالتالي الى اي مدى امكن التعايش معها ,ومن ثم مقارنة دروس تجارب تلك المرحلة التاريخية بما نشهده من ازمة شاملة تعيشها بلداننا اليوم بعد اخفاق مشاريع الثورات التحررية التي جاءت في سياق ما سمي بالربيع العربي , ان ذلك هو امر ضروري وحيوي كي نعي وندرك الى اين نحن سائرون؟ وما هي صورة المستقبل الذي ينتظرنا اذا نحن لم نستعد ذاتنا المغيبة ونمتلك مصيرنا المرتهن ونستعيد مسارنا في الاتجاه الصحيح ؟

anfasse20118"  ثمة أزمة بما أن الميدان السياسي يهدد ما يُكَوِّنُ مُسَوِّغَهُ الوحيد. لقد تغير في هذه الوضعية السؤال عن معنى السياسة. و لم يعد اليوم، بالكاد: ماهو معنى السياسة؟. انه من المناسب... التساؤل ومسائلة الآخرين: هل مازال للسياسة معنى في نهاية المطاف."1[1]
لقد أدى تكرار التعثر في المجال السياسي زمن اللاّيقين واشتداد الاضطراب وفشل الانتقال بعد حدوث ثورات الحراك العربي إلى طرح مسألة التقييم بصورة جدية لأن مستقبل الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد صار مهددا وباتت مسألة صيانة الوجود وحفظ الكيان من الأمور الحيوية والتدبيرات المصيرية.
لقد صارت السياسة عدنا من كثرة الاهتمام بها والاشتغال عليها روتينا ضاغطا وشأنا يوميا وفقدت بريقها وطمست معالمها واستهلكت من شدة تداولها ولكي يتم تحريرها حيثما كانت أسيرة يجدر التساؤل عن السياسي في السياسة من وجهة النظر التي تخص حضارة أقرأ ومن زاوية السوسيولوجيا وفلسفة الحق.
لقد ألقيت كل التهم والتشكيك على كاهل السياسي وتحملت الطبقة السياسية الصاعدة معظم التعزيرات ونعتت بالتقصير وعدم الكفاءة وقلة الخبرة وغياب الأهلية ونقص في الجدارة ووجهت أصابع الاتهام الى رؤساء الأحزاب وزعماء التيارات ورجالات الدولة وتحملت النخب المتعلمة والمثقفة قسطا من الشتائم.

anfasse20116الرسالة الأولى: من ضيق العزلة إلى رحابة العولمة.
ظل فعل التواصل بين بني البشر ضعيفا خلال الحقب الموغلة في التاريخ، وأخذ يتطور شيئا فشيئا بفضل الاختراعات التي اهتدى إليها الإنسان في المجالات كافة. فبالرغم من وجود أشكال معينة من الاتصالات بين الأمم الشعوب القديمة المختلفة التي استوطنت ربوع الأرض، فإن مساحة جهل تلك الشعوب عن بعضها البعض ظلت شاسعة، ولذلك بقيت معرفتها بما كان يمور في الأنحاء الأخرى من كوكب الأرض من مستجدات حضارية ملفوفة بالكثير من الغموض، ومطبوعة بطابع الأسطورة أحيانا، حتى أن جزءا مهما من البسيطة المأهولة ظل إلى فترة ليست بالبعيدة مجهولا بالنسبة لباقي الشعوب.
وبمرور الزمن وتوالي الحقب التاريخية الطويلة، وبفضل التقدم المضطرد في تقنيات ووسائل التواصل والاتصال التي أوجدها الإنسان على فترات متباينة في مجموع أنحاء الأرض، أخذت المسافات تتقلص رويدا رويدا، حتى أصبحت فكرة الإنسان عن أخيه الإنسان الذي يستوطن معه نفس الكوكب تتقلص تدريجيا إلى أن أمكن في عصرنا الراهن، وبفضل الإمكانات التواصلية الهائلة التي أصبحت في متناول الإنسان الحالي، تقريب المسافات بشكل غير مسبوق في التاريخ، وبالتالي تسريع وتيرة التبادلات الثقافية والحضارية تأثيرا وتأثرا على امتداد الحيز الذي يعمره الإنسان في كوكبنا.

anfasse20109 ينطرح جدل التاريخ والذاكرة في تاريخ المغرب الراهن بشكل أكثر صخبا في قراءة منجزنا التاريخي، كإشكالية مركبة تخترق مخابر ابستمولوجيي المعرفة التاريخية، وتفرض تدخلا عاجلا لمختصي الزمن قصد الحد من انزلاقات الذاكرة، وتلاعبات مالكي وسائل الإكراه والانتاج بها، يحضر العنف والعنف المضاد في تفسير وقائع أحلك اللحظات عتمة في استوغرافيتنا الراهنة، تخبو اللغة والرمز وبعدها المكتوب وراء أقنعة النسيان، ويختفي خلسة معها الجلاد، فيصدح صوت زنازن السجون والمعتقلات السرية، مذكرا بجروج أليمة تعتور ذاتا مكلومة بطعم السياسة.

   ففي تفاصيل أدب السجون، ومتابعات الصحفيين، ومذكرات المعتقلين، وكتابات المؤرخين، وشهادات الفاعلين ينكشف المعنى، وتفصح الذاكرة التاريخية المنسية خلف أقبية الظلام عن ماضي حزين، ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، والاعتقال التعسفي الذي ميز للحظات تاريخ التجاذب السياسي بين المؤسسة الملكية والقوى اليسارية حول شرعية ما بعد الاستقلال، لتنطق ذاكرة الألم الفردي والجماعي، مفصحة عن موضوع على درجة عالية من التشبيك والتعقيد، يغري آل الزمن، ورفقائهم من تخصصات مجاورة، بالبحث والتنقيب، للكشف عن الحقيقة الضائعة، للمصارحة قبل المصالحة.

   ذلك أن الإكراه في هكذا "موضوع حارق" يقع في خط التماس مع " إلتباس منهجي" يعتمل داخل مختبر المؤرخين، حول شرعية البحث في التاريخ الراهن، وترك مساحات ظل في الوراء دون إضاءات تاريخية ، حول مدلول الوثيقة الجديدة التي اقتحمت حقل التاريخ، حول تفاعلات الأحياء مع ما يكتب وينشر في أعمدة الصحف وسوق النشر، حول مسؤولية الذاكرة في كتابة التاريخ، حول الطلب والشغف المعرفي الذي يبديه قراء لغة الضاد لاستكشاف حقيقة ما وقع من وقائع، باختصار حول جدل التاريخ والذاكرة[1].

anfasse03108المثقفون هم صفوة المجتمع، ونخبته المؤهلة بسلاح العلم والمعرفة والفكر النقدي الذي لا يقبل المهادنة مع الجهل والتجهيل، وطمس الحقيقة عن الناس، وتزييف الوعي، وتغليط العقول...
ومع ذلك، فالمثقفون أنماط وأنواع، بحسب ميولاتهم الفكرية، ونزوعاتهم المذهبية، ناهيك عن انتماءاتهم السياسية.
هناك مثقفون اختاروا طواعية، الانتماء للأحزاب السياسية؛ سواء لأحزاب السلطة الحكومية، أو للأحزاب المعارضة لها، بصفتهم مناضلين، يترشحون للانتخابات، من أجل تمثيل الحزب في المؤسسات التشريعية والتنفيذية؛ من هنا يستثمرون؛ معارفهم، ومهاراتهم، وجميع ما أوتوا من كفاءات؛ كلما اقتربت، أو حلت معركة الانتخابات التشريعية-البرلمانية، من أجل التواصل الفعال مع الناخبين والناخبات، وإقناعهم بوجاهة البرامج الانتخابية لأحزابهم، ويبذلون الجهود المضنية من أجل استمالة الكتلة المصوتة.
وهناك فريق آخر من المثقفين؛ يمكن الاصطلاح عليه بأنه نمط مغاير تماما؛ غالبا ما يفضل من البداية؛ النأي بذاته عن الخندق الحزبي؛ ويوثر عدم الانتماء لأي كيان، أو تيار أو اتجاه؛ بحجة أن المثقف، أكبر من أن يحدد في إطار، أو يسلك في مذهب فكري ضيق، أو  يحسب على منحى سياسي يتم رسم معالمه الكبرى، وخطوطه الحمراء سلفا من لدن أجهزة وطنية، وفي تجاربنا السياسية المغربية، نعثر على بعض الأمثلة لكبار المثقفين المغاربة الأفذاذ، ممن فضلوا مغادرة السفينة الحزبية، والاتجاه صوب المعرفة والكتابة والإبداع...لأنهم وجدوا هناك آفاق رحبة، وفسيحة، للحرية وإثبات الذات...

anfasse21097ان محنة العقل العربي ,او بصورة اكثر تحديدا محنة العقلانية العربية, التي تواصلت عبر حقب التاريخ المتتالية منذ العصر الوسيط وحتى يومنا هذا هي من وجهة نظرنا السبب الرئيس في تخلف مجتمعاتناعن ركب التطور العالمي .وهي في الوقت نفسه تتماهى وجذر الخلل العميق الذي حال وما يزال يحول دون أن تتجاوز هذه المجتمعات أزماتها الشاملة التي تطال كل جوانب حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية .ولنذكر هنا مثالا واحدا لتلك الإشكاليات التي ظلت تعرقل مسار التطور الطبيعي في بلداننا وهو الموقف من التراث وكيفية التعامل معه كي يكون حافزا لا كابحا لتقدم مجتمعاتنا وهي  تتطلع لامتلاك كل المقومات الذاتية التي تؤهلها للسير في ركب الحضارة الانسانية المعاصرة. أليست هذه واحدة من المعضلات التي استمر دورها المعطل وتأثيراتها السلبية نتيجة غياب التعامل الصحيح معها بسبب ضمور العقلانية في الوعي السياسي العربي.

قد يتصور البعض منا أننا نتقصد في حديثنا هذا تناول مسائل نظرية لا علاقة لها بالواقع المعاش حيث مجتمعاتنا وخاصة في الدول التي شهدت انتفاضات الربيع العربي تواجه تحديات مصيرية وجودية.نعم ان تلك التحديات التي تواجه معظم دولنا ليست من طبيعة تلك التحديات الناشئة عن ازمات أو مشاكل تعترض عملية التطور والتنمية الإنسانية المستدامة لكنها ازمات تتعلق  بالحاضر والمستقبل وتستهدف المصير الوطني من أساسه. فمنذ سنوات أربع انطلقت انتفاضات الربيع العربي التي توحدت في أهدافها العامة التي جسدت ارادة الشعوب العربية وتصميمها على تحقيق أهدافها المشروعة في الديمقراطية والكرامة والتقدم.غير أن النتائج التي تحققت حتى الآن لم تكن تتوافق مع تلك الأهداف ولم تتناسب مع التضحيات الجسام التي قدمت في سبيلها.أين الخلل اذن ومن المسؤول عن تعثر تلك الانتفاضات التي كان المأمول فيها أن تكون مشروع ثورات تحررية   شاملة قادرة على بلوغ غاياتها واستكمال صيرورتها في تحقيق الإنتقال الديمقراطي وبناء المستقبل المنشود؟

anfasse21095أثناء الحرب الباردة، حين كان العالم ينقسم إلى معسكرين متناقضين في الأيديولوجيا وأنماط الحياة، دأبت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بعض دول غرب أوروبا على رصد ميزانيات ضخمة للتأثير على الرأي العام في دول الاتحاد السوفيتي السابق ودول المعسكر الاشتراكي في شرق أوروبا، بهدف اختراق في البنية الثقافية والاجتماعية لإحداث تغيير في البنية السياسية وأشكال الحكم في تلك الدول، واستعانت الولايات المتحدة لأجل ذلك بالأقمار الصناعية وكل أشكال التجسس ، وكذلك وظفت عشرات الأقنية التلفزيونية والمحطات الإذاعية التي كانت تبث برامج حصرية لشعوب الدول الاشتراكية، تظهر شكل الحياة الديمقراطية المبهج في الغرب.
وظلت هذه السياسة قائمة لاتتغير مع تغير أحد الحزبين الحاكمين في الولايات المتحدة، كإجراء ثابت في سياسة أمريكا الخارجية، بل على العكس فقد توسعت وتطورت اشكال تدخل الولايات المتحدة في العالم، فقد ابتدع الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان في بداية ثمانينيات القرن الماضي ما سمي مشروع بناء البنية التحتية للديمقراطية  في الدول النامية،واعتبر حينها نمط جديد في محاولة هيمنة أمريكا على العالم .

anfasse21093منذ ما يربو على خمسة قرون، و بالضبط مع صعود الدولة السعدية، ونحن نقرأ في الكتابات التاريخية والرسائل الإدارية مصطلح "المخزن"، ورغم سقوط الدولة السعدية وبروز الدولة العلوية ومرور عشرات الحكام على دفة الحكم مازالت كلمة مخزن تتردد بقوة، إنه الثابت في كل الأنظمة السياسية المغربية.  يطالب المناضل ب"إسقاط المخزن" ويقارب الباحث "مفهوم المخزن" ويحذر المواطن من "المخزن". يقول المثل المغربي "احذر من ثلاثة أشياء: النار والبحر والمخزن". وإلى جانب مفهوم المخزن نجد مفهوم "النظام السياسي المغربي"  ومفهوم "الدولة المغربية". لكن جل هذه المفاهيم تفرض مجموعة من الصعوبات في تحديدها على المستوى النظري وكذا في إبراز آليات اشتغالها على المستوى العملي.

ومن بين المفاهيم الأخرى الملتبسة مفهوم "الشرعية" légalité ، حيث إنه يلتبس مع مفهوم آخر هو "المشروعية" légitimitéو أيضا مع مفهوم "الشرعنةlégitimation؛ويثير التساؤل حول شرعية شيء ما الفزع عند المتسائل حوله، فعندما تتساءل حول شرعية الحاكم فإنك تشكك في كونه مغتصبا للسلطة بالقهر، وعليه فاتهامك يبقى كذلك حتى تثبته بالحجة والدليل.