لنتوقف في البداية عند هذا العنوان كي نتبين الأسباب التي تجعلنا لا نتكلم فيه عن الحداثة بدل التحديث. وتوضيحا لذلك لنميز بين مفهومين عن الحداثة، أو لنقل بين موقفين: موقف كرونولوجي ينظر إلى الحداثة كحقبة تاريخية تبلورت في نقطة بعينها ومكان بنفسه؛ ثم موقف آخر لا أقول بنيويا، وإنما أفضل أن أنعته بالموقف الاستراتيجي.
بينما يتسم الموقف الأول ببرودته الوضعية وسمته الوصفية التي تنظر إلى الحداثة كمجموعة من المميزات التي طبعت حقبة تاريخية معينة، فإن هذا الثاني يعتبر الحداثة عصرا وليس مجرد حقبة، أي أنه ينظر إليها من حيث إنها شكل من أشكال العلاقة المتوترة مع غيرها. وهذا يفترض أن الحداثة ما تنفك تدخل في صراع مع ما ليس إياها، وإنها حركة انفصال دؤوبة هي بالضبط ما نقصده هنا بالتحديث.
فليس اختيارنا إذن لصيغة المصدر إلحاحا فحسب على المظهر الحركي الديناميكي للحداثة، وإنما على الخصوص، إبرازا للطابع الجدلي الانفصالي المتوتر للتحديث، وارتباطه الدائم بما ليس هو، أي بما أصبح يسمى عندنا تأصيلا.
لا بد إذن ونحن نطرق مسألة الفكر المغربي والتحديث من أن نجد أنفسنا نتحدث عن مسألة التأصيل ذاتها.
هذا الربط بين التحديث والتأصيل لا ينبغي أن يفهم هنا على أنه مجرد "توفيق" ذي شكل جديد. ومع ذلك فلو حاولنا أن نحدده بصيغة إيجابية لتعذر الأمر بعض الشيء: ذلك أنه يتخذ صورا متنوعة حسب المفكرين، وهذه الصور تتراوح بين مجرد العودة الباردة إلى التراث إلى محاولة إقامة علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل تتخذ هي نفسها صيغا متعددة. صحيح أن تلك الصيغ تكاد لا تتمايز، وقد نلفيها جميعها عند المفكر الواحد حسب الفترات والمناسبات، إلا أن باستطاعتنا مع ذلك أن نميز بين نماذج عدة:
النموذج الأول يعتبر أن كل تحديث للفكر العربي مشروط بالتأصيل كما "يعتبر العكس صحيحا"[1]، والتأصيل في نظره هو "عملية التبيئة الثقافية" و"محاولة إرساء المرجعية داخل ثقافتنا، للمفاهيم التي تشكل قوام الحداثة، وذلك بربطها بما قد يكون لها من أشباه ونظائر في تراثنا، وإعادة بناء هذه، بطريقة تجعل منها مرجعية للحداثة عندنا"[2].
العقلانية المنفتحةـ هادي معزوز
سيكون من الغريب إثارة أمر العقلانية المنفتحة الآن، في هذا الزمن وفي هاته الظرفية الفكرية، وقد أطلق الفيلسوف الألماني كانط أولى شرارتها خلال نهاية القرن الثامن عشر، ثم عرفت منعطفا جديدا مع باشلار إبان القرن العشرين حيث لبست معطفها الإبستيمولوجي الصِّرف، وبعده هابرماس الذي أعاد قراءة العقل من خلال الحداثة وكون أن هذا الأخيرة هي بمثابة ذلك المشروع الذي لم يكتمل بعد كي نحكم عليها وعلى عقلها، من ثمة وإذا استطاع فلاسفة الحقبة الحديثة أن يفكروا في كيفية اشتغال العقل بمنطق التفكير في التفكير، فإن هناك زاوية لازالت معتمة شيئا ما، ربما كان من الأجدر لفت الانتباه لها في هاته الظرفية الحالية وليس قبلها، ألا وهو منطق قراءة العقل فلسفيا لكن مع ضرورة النهل من معطيات التاريخ وخصوصيات الثقافة والمجتمع، بعبارة أخرى سنكون أمام دعوة مضمرة للإشتغال على العقل المحلي وليس الكوني، على العقل بصيغته العربية وليس بمنطقه العالمي.
أسس البيداغوجيا الرشدية: أهمية صناعة المنطق في التربية ـ الأعرج بوجمعة
يُعتبر المنطق في نظر ابن رشد أوّل مادة معرفية يجب أن تُلقَّن لحَاكِم المدينة؛ إنّ حاكم المدينة شخص مرَّ بمراحل تربوية مدروسة يأخذ فيها ما هو ضروري من مواد علميَّة ويتدرَّب فيها ويتأهل لقيادة دفّة المدينة نحو الفضائل العادلة[1]. بهذا يكون ابن رشد في منهجه التربوي، قد انتصر لأرسطو على خلاف أفلاطون؛ الذي يرى ضرورة البدء بعلم العدد. فجعل ابن رشد من المنطق، أول العلوم في سلم التعلم، مفسراً هذا الخلاف بينه ـ ابن رشد ـ وبين أفلاطون، بدليل أن صناعة المنطق لم تكن قد وجدت بعد في زمن أفلاطون[2]. ويضيف ابن رشد إنه وإن وجِدت صناعة المنطق في زمن أفلاطون، كان من الأصوب أن يبدأ التعليم بالمنطق، ثم بعدها العدد، ثم على الهندسة، فعلم الهيئة، فالموسيقى، ثم إلى علم المناظر، فعلم الأوزان، وبعدها إلى علم الطبيعة، ثم إلى علم ما بعد الطبيعة[3]. فأهمية المنطق بالنسبة لهذه العلوم في أنه يساعد على فهم العلوم التالية؛ كعلم الطبيعة وما بعد الطبيعة. أما علوم التعاليم (رياضيات، هندسة، فلك، موسيقى)، فلا يحتاج فيها إلى المنطق لسُهولتها وقلة ارتباطها بالمادة، لذا قالوا ـ القدماءـ فتعلمه، يكون بلا ريب، على جهة الأفضل.
تقنية الحياة وإيتيقا المعرفة عند جاك مونو ـ د .زهير الخويلدي
" أن نقبل بمسلمة الموضوعية هو أن نعلن إذن القضية القاعدية لإيتيقا معينة هي إيتيقا المعرفة" [1]
من المفارقة أن تعيد المجتمعات المعاصرة بناء رؤيتها للكون على ضوء الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية على مستوى النظر العقلاني وأن تستمر في الاعتماد على معايير أخلاقية ومفاهيم تقليدية وتواصل عادة تأسيس الثقافة على أعراف وشيم موروثة عن المجتمعات القديمة على الصعيد العملي والاجتماعي.
لقد شهدت العصور الحديث تشكل ما اصطلح على تسميته علوم التقنية ولكن استمر الصراع بين النظرة الغائية والنظرة الآلية في تفسير ظواهر الطبيعة والتغيرات التي تحدث داخل الكون وتم استبعاد كل دور للصدفة والفرضيات الاحتمالية الأخرى أو التقليل من قيمتها الإبستيمولوجية مثل النظريات التحولية والتطورية والكوارثية والانفجار العظيم والتقلص التدريجي والتمدد اللانهائي والنسبية الخاصة والعامة. وبالتالي تعاني المجتمعات في الحقبة الراهنة صعوبة التأليف بين الأنساق القيمية التقليدية والنظريات العلمية الجريئة وغير المعهودة والتي دفعت بالعقل البشري إلى ملازمة الصمت وتبني خيار تعليق الحكم. إذا كان المؤرخون رصدوا اضطرابا كبيرا أصاب قصور المعرفة البديهية وخلخلة في المعتقدات الراسخة نتيجة التقدم العلمي والثورة التقنية والتطور الصناعي فإن الفلاسفة الجدد أدركوا خطورة هذه التحولات ودعوا إلى إعادة تجذير انتماء الإنسان للطبيعة وتمتين روابطه بالكون والمحافظة على الحياة في الكوكب.
لقد حافظ الفكر البشري على الأساطير والمعتقدات والأديان والتصورات الكوسمولوجية والأفكار الفلسفية الكبرى إلى جانب المناهج العلمية والتطبيقات التقنية والمعالجات الرقمية وكان ذلك بسبب الشرخ الذي أحدثه التقدم في النواة الروحية لكل الأنساق القيمية والقلق المصيري الذي ولدته السيطرة على الطبيعة . لقد اعتقد البشر أن العلم قادر لوحده على تقديم الحل التام والنهائي لكل المعضلات العنيدة وأن التقنية هي الأداة الناجعة في ترجمة ذلك على أرض الواقع ولكن جهد العقلنة المبذول لم يكن كافيا قصد التعبير عن الحوافز العميقة للعقل بل لم يقدر على الإحاطة بكل المجموع المعقد والمتشابك الذي يتشكل منه الكون.
الفلسفة ضد سياسة التجميع :من فعل التحرر إلى انفعال ضغط ـ محمد بقوح
1 – لعل الفلسفة كإبداع، و ليس كدرس فلسفي، يتنفس هواء المؤسسة، و يروم التنميط، تواجَه هنا مع "سياسة التجميع" . و بين التنميط و التجميع علاقة قرابة قوية . يجعلنا موقع الفلسفة المبدعة، في هذا السياق، نطرح السؤال التالي : هل لِ "التجميع" "سياسة" ؟ أو هل لِ "السياسة" أن تقرن ب "التجميع" ؟ و من يُمارس فعل "التّجميع" ؟ و لماذا يمارسه في أصل الأمور؟ أم فقط، يحتاج فعل "التجميع"، الذي نحن بصدده، إلى فاعل من نوع معين، ليحقق واقع "التجميع" المقصود، و ذلك طبعا على حساب تأسيس تنميط الغير المختلف، الخاضع، و المنشغل بتفاصيل حياة الواجب، و المهيمَن عليه، باسم النظام السائد، أي المنفعِل، المحكوم بأداة في غاية الأهمية . نعني بها، خبث التسييس، و سلطة "السياسة"، التي يقصد بها هنا وصفة ماكرة للتخدير و التدجين، و التعتيم، حتى يستمر نسقُ النظام المهيمِن، في رحلة البقاء اللاشرعي، مُقنّعا، و مُقْنِعا، كما لو كان شرعيا .
فلسفة «القبح الجسدي» ـ حمودة إسماعيلي
بالنظر للمرآة تتساءل الذات عن قبحها وجمالها.. "أنا قبيح أم جميل ؟" يتبادر السؤال إلى الذهن بالنظر لانعكاس الجسد وخصوصا الوجه بالمرآة؛ أحيانا ترجح كفة "أنك جميل" ومرة أخرى "أنك قبيح"، فقط الحب هو الذي يضع أمامك إجابة حاسمة : حيث تكون جميلا بما أنك محبوب، فالقبح بمفهومه هو ما يثير النفور. طبعا تعيدنا هذه الصيغة الأخيرة لسيكولوجيا التطور الإنساني، فبحسب التكيفات التطورية المنتقات، ولّد البشر حالة نفسية (ناشئة عن رد فعل فيزيولوجي) تُعرف بحالة التقزز أو النفور أو الاشمئزاز، الغرض منها هو الحفاظ على البقاء وحماية الذات من المهددات الغذائية، كيّف البشر نفورا من الروائح النتنة والمناظر القبيحة والغير متناسقة (الفاسدة) للمكونات الغذائية، فانتقل هذا النفور للأشكال الإنسانية عند الانتقاء الجنسي، كل جسد إنساني مشوه أو غير متناسق يثير الريبة، بما أنه مهدد للبقاء (قد يتضمن أمراضا وسموما حسب نفس الرؤية)، أو عدم المغامرة بضياع الجينات في ذرية قبيحة مشابهة تثير النفور ـ كان من ضمن دوافع الانتقاء الجنسي، صحة الجسد المتناسق كدليل على الخصوبة أو الصيد/الشجاعة كتوفير للموارد والحماية. النفور من القبيح : هروب من احتمالية التعرض لمرض يسكنه أو إنتاج مخلوقات مشوهة منه (شبيهة به).
الأنثربولوجيا الثقافية بين البنية والاختلاف عند كلود ليفي شتراوس ـ د.زهير الخويلدي
" إن تحديد ماهو فطري وماهو مكتسب في سلوك الإنسان قد يكون مجالا مثيرا للبحث إذا ما كان هذا التحديد ممكنا"1[1]
الأنثربولوجيا الثقافية هي أحد مناهج العلوم الإنسانية التي حلت محل الأثنولوجيا عند فرايزر وتايلور التي ادعت معرفة مباشرة بأحوال الشعوب البدائية وسعت إلى اكتشاف الحقائق الأساسية بطبيعة النفس البشرية من خلال المقارنة بين عناصر وتفاصيل الثقافة البشرية على صعيد عالمي. كما نقدت الاتجاه الوظيفي عند برونيسلاف مالينوفسكي الذي هدف إلى تبيان كيفية قيام الجماعة الغربية بوظيفتها بوصفها نظاما اجتماعيا وركز على الفروق القائمة بين الثقافات البشرية أكثر من التشابه. بيد أن ميزة المنهج الأنثربولوجي البنيوي عند كلود ليفي شتراوس تكمن في دراسة السلوك الثقافي الذي يتخذ شكل نظم اجتماعية كالعائلة ونظام القرابة والتنظيم السياسي والإجراءات القانونية والعبادات الدينية والعادات والتقاليد والنظام الاقتصادي وذلك بهدف تحديد العلاقة والتأثير المتبادل بينها سواء بالنسبة للمجتمعات القديمة التي نعرفها عن طريق الآثار التي تركتها أو فيما يتعلق بالمجتمعات المعاصرة عن طريق الرصد المباشر. يعبر شتراوس عن حاجة التحليل البنيوي إلى وضع كل التبديلات الممكنة وفحص الأدلة التجريبية على الأساس المقارنة بقوله:" يشتمل المنهج الذي نتبناه على العمليات التالية: 1) حدد الظاهرة المدروسة بوصفها علاقة بين اثنين أو أكثر من الحدود أو العناصر، الحقيقية أو المفترضة، 2) ضع جداولا للتبديلات المحتملة بين هذه الحدود، 3) تناول هذا الجدول بوصفه الموضوع العام للتحليل، هذا الأخير الذي لا يتمكن من كشف الروابط الضرورية إلا عند هذا المستوى، فالظاهرة التجريبية لا تكون عند بداية النظر فيها سوى تركيب واحد بين عدد من التركيبات الممكنة الأخرى، والتي ينبغي بناء نظامها مقدما"2[2]. لقد شرع شتراوس للاختلاف وآمن بالتنوع بين الثقافات ونقد نظرية الانتشار الثقافي التي تقر بذيوع السمات الثقافية عن طريق اقتباسها أو بالهجرة من منطقة إلى أخرى وتؤكد أهمية هذا الانتشار في نمو الثقافة البشرية وقدرة الاختراعات الجديدة وأهمية الاستعارة المستمرة والسمات المشتركة في تاريخ الإنسان. لقد ضم المنهج الأنثربولوجي الاجتماعي كل من البنيوية والجيولوجيا والألسنية والتحليل النفسي والماركسية والأثنوغرافيا والتاريخ وتناول نظرية القرابة ومنطق الأسطورة ونظرية التصنيف البدائي.
المثقّف وهواجس قول الحقيقة وفعل التغيير و استقلاليّة الموقف ـ فتحي الحبّوبي
"إنّ إحدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المُقولَبة والمقولات التصغيريّة، التي تحدُّ كثيراً من الفكر الإنساني والإتّصال الفكري" إدوارد سعيد
جاء في المعجم الوسيط ما يفيد أنّ كلمة المثقّف والثقافة مُحدَثتان في اللغة العربية. بما يعني أنّ العرب والمسلمين لم يبتكروا، لا بل ولم يعرفوا مطلقا هذين المصطلحين رغم اهتمامهم بمكوّنات "الثقافة" ومن ينتجها في بعض الأحقاب من تاريخهم، باعتبارها عصب الحياة و مرتكزا أساسيا للوعي، وعمادا لا غنى عنه لوجود وتنمية الأفراد و تطوير المجتمعات وتربية وتهذيب الذوق. لذلك فقد غابت -بداهة- كلمة ثقافة في الشعر الجاهلي، وهو ديوان العرب، كما غابت كذلك في القرآن الكريم، وهو دستور المسلمين، رغم ورودها في صيغة مشتقّة في قوله تعالى:»فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ « (الانفال /57). ولكن المجال هنا لا يسمح بالتوسّع في ذلك، و ما يهمّنا فقط في هذه العجالة، إنّما هو طرح مجرّد ملامح لوجوه مفهوم المثقف الحقّ، الذي ظهر كمصطلح في أوروبّا الشرقيّة قبل أوروبّا الغربيّة، وذلك وفق تعريفات بعض مفّكّري وفلاسفة الغرب ومن حذا حذوهم من المثقّفين العرب.
عندما يكتب هايدغر عن علاقته بالنازية ـ محمّد المهذبي
أثارت علاقة مارتن هايدغر بالنازيّة جدلا مطوّلا بدأ في حياة الفيلسوف الشهير ولم ينته بمماته. غير أنّ الكتب والمقالات العديدة التي تناولت هذا الموضوع لا يمكنها أن تعوّض الوثائق. وتمثّل بداية نشر "الدفاتر السوداء"، في السنة الماضية، وهي اليوميات التي كان يكتبها فيلسوف الغابة السوداء، منعرجا جديدا لهذا النقاش. غير أنّ ذلك لا ينبغي أن ينسينا أهميّة وثائق أخرى مثل الرّسالة التي كتبها هايدغر إلى الفيلسوف الأمريكي هربرت ماركوزة، بتاريخ 20 يناير 1948، نظرا لخصوصيّة السياق. فهايدغر لم يتطرّق لعلاقته بالنازيّة طيلة حياته تقريبا. وحتّى الحوار المطوّل الذي أجراه مع مجلّة دير شبيغل الألمانية والذي تضمّن حديثا مستفيضا عن الفترة النازية وعن دوره فيها، لم ينشر إلاّ بعد وفاته، احتراما لوصيّته، وكان ذلك في 31 مايو 1976 رغم أنّه يعود إلى سنة 1966. ولكنّ الفرق واضح بين حديث صحفي موجّه للعموم ورسالة مكتوبة لا تخلو من بوح ومن حميمية.
«الفيلسوف والسياسة» حوار مارتن هايدغر لمجلة Der Spiegel ـ ترجمة وتقديم : حمودة إسماعيلي
عرفت الفلسفة في تاريخها عدة انعطافات، أبرزها انعطافة نيتشه الذي قلب الطاولة الفلسفية على اعتبار أن قيمها لا تصلح للحياة بعدما تحجرت أخلاقياتها، عند نيتشه هناك لزوم لقلب التاريخ الفلسفي حتى ينقلب الخطاب الميت أو الداعي/الممجد للموت إلى خطاب نحو الحياة والوجود والمرح. عند هايدغر يصل الأمر لأكثر من ذلك، باعتبار أن ذلك التاريخ بانعطافاته ليس سوى انحرافا في التفكير، "تناسيا" كما يصفه في تأويلاته الأنطولوجية، بذلك تطلب الأمر العودة لأسس ذلك التاريخ ـ الإغريقي بجوهره ـ للتساؤل مجددا حول أهم المقولات الفلسفية كـ"الإنسان"، "الوجود"، و"الفكر". لوضع التفكير في اللامفكر فيه، أو التفكير مجددا بأننا لم نكن نفكر. هايدغر كما هو مفكر إبستيمولوجي ذا خطاب فلسفي (بامتياز) هو أيضا بالعمق مفكر سياسي بالمعنى الواسع للممارسة السياسية : كتنظير/رؤية/توقع. في هذا الحوار الذي أجراه معه كل من رودولف أوغشتاين وجورج وولف لمجلة الشبيغل الألمانية ب23 سبتمبر (أيلول) 1966 : يتداخل ما هو فلسفي بما هو سياسي في حديث هايدغر ـ الذي يتجلى بكامل هيئته الفكرية ـ حول رؤيته للحضور الإنساني الحديث والحالة الراهنة للعالم، ليرتكز بحديثه أكثر على السياسة التكنولوجية للعالم اليوم، الوضع الذي تصفه الفرنسية سيمون دي بوفوار بتعبيرها : "مهما كانت الدولة، رأسمالية أو اشتراكية، فالإنسان مسحوق أينما كان من طرف التكنولوجيا، التي تجعله متغرّبا عن عمله، مسجونا، ومجبرا على التخلف".
تم نشر الحوار بـ31 من شهر ماي (أيار) سنة 1976، بعد خمسة أيام من وفاة هايدغر ـ بناءً على طلبه بأن لا ينشر الحوار بحياته ـ تحت عنوان "إله فقط هو من باستطاعته إنقاذنا"، وهي جملة تضمنها حديث هايدغر بالحوار، وتم اعتماد نفس العنوان بالترجمات التالية لهذا الحوار :
لماذا يجب أن نكون ديكارتيين ؟ ـ هادي معزوز
يجب أن نكون ديكارتيين أولا، لأن بنية أسئلة الواقع المعيش، تفترض منا الانطلاق من التفكير للتأسيس للوجود، إذ كل وجود متماسك هو نتيجة تفكير منهجي صارم، قائم على روح السؤال والشك في البديهيات، ومبني على صرح عقلاني محض، العقل ملكة تساعدنا على التمييز بين الصواب والخطأ، يحتفظ بما هو صائب، ثم يعود للخطأ يفككه إلى أكبر قدر ممكن من الأجزاء، يركبه مرة أخرى ثم يفحصه ويراجعه ليس باعتباره خطأ متعاليا، وإنما بمدى قوته ووقعه علينا.
نحن ديكارتيون إذن لأن بنية مجتمعنا لازالت محكومة بروح اتصالية، لازال الانفصال أفقا بعيد المنال، إذ ليس بينهما تضاد كما يُعتقد، بقدر ما أن الانفصال ابن بار للإتصال، صحيح أنه قتله، لكن الأمور من أساسها تُؤخذ، والأصل يبقى دوما منبع الفصل والتفرع، واقعنا المعيش واقع تحكمه عقلية القطيع، وكل منفصل عن القطيع مصيره الطرد الرمزي منه والمادي، واقعنا واقع إمَّعة يتوجس من الفرد لصالح النحن، إذ الفرد عندنا ليس من التفرد والفرادة وإنما من الفردنة والعزلة، إننا نعتبر كل استئصال تنكر للأساس، ونعتبر قتل الأب جريمة، إننا ننتج أبا فينا من حيث لا ندري، من هنا تنبني خصوصية مجتمعنا على الاتصال ضد الانفصال، على الأصل ضد الفرع، وعلى الأيقونة ضد السيمولاكر.