أنفاسقديما قالوا : ً الولد سر أبيه ً ، وإذا صح هذا القول ، فإن ً المعلم إبراهيم ً صاحب هذا السر بامتياز ، فقد كان والده ً الحاج علي ً شيخ المقاولين في مدينته التي اتسعت أطرافها على يديه ، فكم عمارة أعلى ، وكم برج بنى وشيد ، وحمل عنه ابنه إبراهيم أمانة البناء ، وأضاف إليها دهاء ونباهة وذكاء أكبر ، ولم لا وهو المتخرج من مدرسة الحياة التي أكسبته حكمة وصبرا وجلدا أقوى وأمتن. تلقى أصول الحرفة من أبيه ، وعمق خبراته من اتصاله بأصدقائه البنائين ، وزملائه المقاولين من داخل المدينة وخارجها ، فتهيأ له الاطلاع على خبايا  هندسة العمران ، ودهاليز فن البناء.
كانت الغاية التي بلغها ً الحاج علي ً أنه وضع ابنه على المسلك الصحيح ، ومكنه من اقتحام المشاريع برباطة جأش ، تقيه من الخسارة التي تلازم عادة جل المقاولين الشباب أينما حلوا وارتحلوا. أما المعلم إبراهيم،  فقد تجاوز حدود أبيه ، فقد آل على نفسه الابتكار والإبداع ، وكانت آراؤه وأفكاره الجديدة حلقة من حلقات تطور فن البناء بمنطقته ، ناهيك عن كونه صاحب مبدأ في الحياة ، هذا المبدأ الخالد سمعه كثيرا من والده  : ً من غشنا فليس منا ً

أنفاسابتلعت العتمة كل البيت الصغير الذي يشبه شكله أكثر ما يشبه علبة اللحمة البرازيلية، من الخارج.. أما من الداخل فهو إلى حد بعيد مثل مكعبات شوربة ماجي. هو بيت في احد مخيمات وسط قطاع غزة.. يزيد عدد سكانه في الليل عن عشرين نسمة، الأب وألام والأبناء وأبناء الأبناء، يحشرون به حشرا حين يجتمعون إذا حل المساء.. وبالكاد يصل العدد إلى خمسة أنفس في النهار. تأبى الشمس أن تزور البيت، كأنها حلفت بالله على ذلك، والهواء قليل وفاسد لا يتجدد إلا ليفسد مرة أخرى.. وليس بمقدور أنوفهم انتقاء ما يشتهون من هواء نقي وطازج ليتنفسوه، فيبذلوا أقصى جهدهم لنيل حصة أجسادهم منه، بعد كفاح مع صدروهم المليئة بالحنق على الحياة.. والزمن الذي على الدوام يلعنونه ويسبونه..
- يلعن أبا الدنيا.. حياة مثل الكندرة القديمة.. ساق الله على أيام زمان.
جلسوا مثلما اعتادوا أن يجلسوا في مساء كل يوم بعد أذان المغرب بقليل، وكان يقينهم في نيل وجبة عشاء مشبعة أو غير مشبعة بدأ يزوغ، الوجبة التي تأخر مجيئها.. وكان الجوع قد بدأ يتسلل إلى أجسادهم النحيلة التي أنهكها التعب، فهمدت قواها، واسندوا ظهورهم إلى جدار مشقق مائل، جدار بحاجة إلى جدار آخر كي يسنده. كانت الوجوه العابسة تقابل العيون المكسورة في وجوم وقلق.. بعضهم مدوا أرجلهم ليريحوها، والبعض تربع على حصير تثنت أطرافه مع مرور الأيام، ونسلت زواياه ومزقت حوافه أيد الصغار، الصغار الذين لا يكفّون عن تحويل أي شيء إلى أداة لهو.

أنفاسوجاءت الحرب، واللعنة على الحرب وعلى الذين يصنعوها، لم تجلب لنا غير القهر والتعاسة. 
وكنت أحلم  حالما أعود من الحرب أن ألبس ذلك الحذاء الجديد  و أن أخاصر زوجتي اللحيمة ونسير في شوارع المدينة وأن أكون سعيداً وأنا أسمع طقطقات الحذاء على  إسفلت الشوارع .
طاق ..طاق ..طاق .  ذلك الحذاء الجديد. !! هي الحرب ولعنة على الحرب التي لم تجلب لنا غير غلاء المعيشة وندرة الحليب للرضع وانقطاع الماء والكهرباء  وأكواما  من الجثث . هذه الحرب حرمتني من أن أنتعل حذاءي الجديد.
حين جاءت، كدت أن أضع الحذاء في حقيبتي الوحيدة٬ لكنهم  قالوا : " هذا الحذاء لن تحتاجه في الحرب ".  تركته في علبته البيضاء ملفوفاُ في ورق حليبي شفاف،  بعد أن مرَرت أطراف أصابعي على جلده اللامع الأسيل وألقيت نظرة أخيرة عليه. لكنني عقدت العزم على إنتعاله حالما أعود من الحرب . لكن !! حين عدت،  تعذر علي إنتعاله،  ليس فقط لأن الحذاء لم يعد يلازم علبته التي قد تكون إنتهت إلى سطل القمامة،  ربما منذ زمن بعيد ، بل كذلك لأنني عدت بلا قدمين بل حتى بلا رجلين ، وبعطب في رجولتي.
 حين قدمت من الحرب ، زارني عمُو ، ذلك الرجل الغريب .  لم يسبق لي أن شاهدته في الحي فكرت " لقد تغيَر كلُ شيء بعد كل هذه السنين التي قضيتها هناك !" ربما يكون الرجل قد قدم إلى الحي في غيابي .

أنفاسقال الموظف للشاب الذي تقدم من مكتبه : ألم أقل لك أمس وقبل أمس بأن ملفك ناقص ... تنقصه وثائق ، تساءل الشاب : أنت لم تحدد لي الوثائق اللازمة ... وبنبرة صارخة قال الموظف : هل أنت أمي ؟ ألا تقرأ ؟ أسأل نفسك ، هذه ليست مهمتي ، أنا أتسلم الملفات كاملة ، بعد ذلك أنجز عملي لا أقل ولا أكثر ، مفهوم ؟ رجع الطالب الشاب القهقرى وهو يتساءل وبصوت مسموع : ما الذي ينقص هذا الملف ؟ لقد تأكدت أكثر من مرة من الوثائق ... تقدم منه رجل في متوسط العمر ، أمسك بيده ... جره بعيدا ... قال له : لاشك أنك لم تتمكن من دفع الملف ، أليس كذلك ؟ أجاب الشاب بحماس : نعم ... نعم كان يطمح في أن يقدم له الرجل إرشادا ... لكن صاحبنا قال : لا شك أنك لا تحسن الإدغام ... هنا رد الشاب بغضب : كيف لا أعر ف الإدغام وأنا طالب جامعي في شعبة الأدب العربي في السنة كذا ... في كلية ...
ـ انتظر يا ولدي ... أن تعرف الإدغام شيء وأن تحسنه شيء آخر ...
قال الطالب الجامعي والحيرة تملأ محياه : ما هذه الهرطقة ؟ الإدغام هو :<< إدخال الشيء بالشيء >> هكذا يقول صاحب كتاب التعريفات ... العلامة ...

أنفاسنظر اليها وابتسم ، فابتسمت ، واسرع الخطى نحوها
تصافحا  ، وسارا الى اقرب مقهى ..
-لنتعارف..
-اهلا وسهلا
-انا سيمو
-وانا سهام
-انت رائعة ،انت ملكة جمال
-وانت ايضا رائع
-شكرا
لا شكر على واجب

أنفاس لم يكن يتوقع وهو يحتضن نسخًا من كتابه الأول، مثلما تتلقف أمّ بحنو فرحتها البكر وأول عطر الأمومة.. أن ينتهي به المطاف بائعًا متجولا ، تخيّـل لو أنّ بضاعته (سي دي) لاختلف الوضع، ووجد من يتحلقون حوله حد الاختناق...!
واصل طريقه كاتــــــــمًا حنقه، لاعنًا اللّحظة التي اكتوى فيها بنار الحرف.
 أجابه صاحب المكتبة العجوز- وهو يقترح عليه الاطلاع على نسخة من كتابه، ودون فتح حقيبته اليدوية التي يضعها على كتفه- محرّكًا رأسه بالنفي..
العجوز استكثر عليه حتى الرد بكلمتين.. فكّر في أن يقترح عليه أن يغيّر مهنته، ويبيع أيّ شيء غير الكتب، حث الخطو في اتجاه مكتبة أخرى مقاوما رغبته في التقيؤ على الزمن الرديء!
انتظر صامتًا حتى سألْته عن رغبته وهي منشغلة مع زميلتها بالزبائن وحاجياتهم من الكتب المدرسية.. كرّر نفس الجملة الرتيبة، التي بدأ يحس بكراهية بغيضة اتجاهها، جاءه ردّها - باردًا- بأن صاحب المكتبة غير موجود، أيقن أنها تكذب، فمنذ ما يفوق عشر سنوات وهو يلمح طلعتها البهية في هذا الدكان الأغبر.. أحس ببقية كلامها كالصفعة :"مرة أخرى...!!".

أنفاس… لم يبرح الحزن فؤاد "السيد سين" بعد، حزينا، منكسرا، كسيف البال ما يزال، بيد أنه يتحامل على نفسه، فيتصنع الانشراح، يتباسم طورا و "يتمسحق" بأمارات السعادة الظاهرية ليخفي شقاءه وتعاساته.  
بات شديد النقرة من الناس، كثيرا الازورار عنهم. قلى الأمكنة التي ارتادها هنا وهناك في أحياء مدينته المكمورة في جوف الأطلس لتحرسها الجبال من كل الجهات. في العدوة الشرقية للمدينة تسيدت مقهاه الأثيرة "لافونتين" الأنيقة والفخمة، هناك يقهي، ويلتهم ما يقع في يديه من كتب الأدب العزيزة على قلبه، ويتصفح الجرائد التي يجود صاحب المقهى بها على زبنائه من "العيار" الخفيف، أمثال السيد سين، هناك يحس بالاغتراب وعدم التجانس مع فضاء أعد لغيره : لأعيان المدينة. خلا هذا المكان، وتنبه السيد "سين" ألا يوقفه أحد قط، وأن يكتفي بإرسال التحية إليه من بعيد، لكن لما يحدث أن يستوقفه أحد يبدل جهدا كبيرا كي يبدو متماسكا، محاولا السيطرة على أعصابه، والحفاظ على هدوئه وإذا كانت نار ملتهبة تثوي بداخله، آه لكم ودّ أن يصرخ في وجه الناس : كلكم منافقون، لئام، ثعالب، أنانيون، وصوليون، انتهازيون، همازون، لمازون، مشاؤون بنميم، ولكنه يتذكر الناس الطيبين فيتراجع في آخر لحظة.

أنفاسلعل أمنيته تحققت ..وهل ما بعد أمنية "المدير" أمنية أخرى أجل وأعظم !! الكثيرون يتمنون وظائف أقل بكثير من وظيفة "المدير" .. أما هو فقد أحس أن مفاتيح الدنيا كلها ، قد منحت له ليرتع وينعم كيفما شاء وأنى شاء.. أموال طائلة ستدر عليه من خزينة الدولة ، لم يكن يحسب لها حسابا .. أناس كثيرون سينحنون له إجلالا وإكبارا ، في ذهابه وإيابه ، في غدوه ورواحه... أهلا بالسيد المدير .. مرحبا بالسيد المدير .. !! سيغير من حاله رأسا على عقب .. سيرتدي أفخر الثياب وأغلاها ثمنا.. سيدخن أغلى السجائر ، حتى يزداد مهابة ووقارا بين الناس .. أما السيارة فيترك الاختيار لأصدقائه العارفين بنوع السيارات الفارهة .. سيتدرب منذ الآن أن يحسن من مشيته حتى تتلاءم ومشية المدير .. أما رأسه المطأطأ دوما ــ من كثرة ما عانى أيام العسر ــ فسيرفعه عاليا حتى يعطي لسمعة "المدير" وهيبته ما تستحق .
أما حليلته ، فستزداد فتنة بين النساء من كثرة ما سيغدق عليها من الذهب والألبسة الحريرية .. ستغادر حليلته أحلامها البالية ، إلى أحلام وردية تتحقق على أرض الواقع بفعل الجاه والثروة .. كم ستتحسر صديقاتها ويعضضن على أناملهن من الغيظ والحسد والكمد !! حين سيلمحن ما تغير من حياتها جذريا .. آه لو كان كل أزوجهن مدراء !! يا ألله ما أسعد زوجة المدير !!