أنفاسكان منكمشا في أحد أركان الغرفة المتهالكة.. نظراته تتفحص الأشياء المبعثرة بشكل فوضوي على الأرضية المتربة ، وتحاول التوغل في كنه الأشكال التي نقشها التآكل المزمن ، والرطوبة المتواطئة على الجدران المهترئة.. يلذ له أحيانا في لحظات البياض وصفاء الذهن ، أن يتأمل تلك الأشكال ويتملى فيها .. لقد صاحبته منذ الصغر، ونمت مع نموه ، وهي بذلك ذاكرة أخرى ملازمة لملوحة عيشه .. يرى فيها صورا ووجوها وأجسادا وهمية ولكنها بالنسبة إليه حقيقته المطلقة.
انتقل طرفه في طرفة مفاجئة ، ليستقر على حذائه اليتيم .. ندت عنه آهة حرى دون قصد،وتماوجت مع غبار السنوات العجاف التي لا سمان بعدها ..تذكر اللقاء الأول مع هذا الحذاء ..أبحرت به سفن الذكريات إلى خرائب أيام خوال.. أيام كان طالبا في الجامعة ، كان يمني نفسه بجنة مستحيلة بعد التخرج.. تذكر دوامات الصراع الذي كان على أشده مع الجوع والبرد والمرض وكل طوابير بنات الفقر الأخرى .. دريهمات المنحة لاتكفي لتغطية عقيقة قطة جرباء..اللقاء الأول يكون دائما منقوشا في الذاكرة .. هكذا ترسخ الأشياء الأولى دائما .. تحفر وجودها ثم لا تغادر أبدا .. كان يوما متميزا من عنفوان الشتاء..يوم سولت له نفسه زيارة الحمام التقليدي القريب من الحي الذي يسكنه في العاصمة ..كانت الزيارة مرصودة منذ مدة ، ولكن كما يقال : كل شيء بأوانه والحاجة وازع لأية حركة..الزيارة كانت مموهة بالرغبة في إزالة الأوساخ المتراكبة على جلده في شكل طبقات مستورة بثياب كانت جديدة قبل أن يحصل عليها بثمن زهيد من( البال ) الذي غزا جنبات المدينة ..كانت الزيارة لمأرب أخرى مع سبق الإصرار والترصد..قادته النفس الأمارة توجهها حاسته الأخرى للقاء الحذاء ..

أنفاسها أنذا ألج أسوارك بعد غياب قسري طويل ..لا أدري..ربما يكون ذلك من منح القدر التي تستوجب الشكر .
لم تغير السنوات السبع التي قضيتها بعيدا عنك ، من شكل بابك الحديدي المستسلم لفلول الصدأ . رائحة عفن تنبعث بإصرار من مرحاض تركته يستجدي الرفق والإنقاذ ولا زال .
مقاعد متآكلة تلاشت معالمها وأضحت ملاعب غولف من كثرة الثقوب ، جدران مزينة بأقبح النعوت وأقذر العبارات ، فضاء أعد بفوضوية مزعجة ، جعلتني أومن شخصيا بأن مستقبل إصلاح التعليم لن يكون بخير، على الأقل في  أقرب الأيام .لم أكن أتصور يوما أن أجد نفسي في طابور طويل من المصححين ، ينتظرون آلاف الأوراق دون أي إحساس بالمسؤولية .
وجوه شاحبة ، ثياب بالية يزينها جمال العتق والقدم ، ...تفرق الجميع تلقائيا كالقطيع المروض مكونين أربع  ورشات ، إحداها خاصة بالإناث ،.. مساكين...هذا أول انطباع يمكن أن يأخذه المتفرس في ملامحهم والمتفحص لقسماتهم ،..صحيح أن أي واحد منهم لم يعد عدته لركوب هذه المغامرة ، اللهم من تسلحهم بأقلامهم الحمراء...
تحول الجميع بعد وصول أوراق التحرير إلى آلات بشرية مبرمجة  ، أشفقت على تلك الصفحات العصماء، وقد ملت من التقاط علاماتهم المتعبة ...بعد ساعة من طقطقات أقلام ترتطم بالأوراق موزعة كثيرا من الأرقام ، تهدأ الأكف المتعطشة .لتتوزع ابتسامات باهتة لا طعم لها ولا لون بين الكل .

أنفاسيتذكر البريق الذي فاجأه في ليلتهما الأولى.. ابتسامتها الدافئة التي أنقذته من الزغاريد المهللة خارجا.  لم تأت إليه مرعوبة أو مترددة. كانت تتوسط غرفة النوم مدثرة بلباس نوم أبيض شفاف. . في تلك اللحظة بالذات شعر بتيار ساخن يخترق جسده واستعاد شيئا من روحه الشابة.. تمنى لو أنه سمح للحلاق بأن يغطي الشعر الأبيض الذي غزى بعض رأسه. . انتصب واقفا، رفع رأسه في هيئة محارب وتقدم منها، واثقا...بقيت هناك، مستسلمة، دافئة بينما انقض على جسدها الفتي..
يتطلع إليها الآن، ذات البريق يسكن عينيها اللتين تحيطهما بالكحل:
إنه عمل طارئ، وسأتلقى أجرا مهما عنه.
وتستمر في وضع الزينة بيد مرتجفة.
انتهى الحلم  بعد ليال قليلة.. لم تتذمر  حين كان يخر على السرير متعبا.. لشهور ظلت تستقبله متى وكيفما أراد.. علم أنها تتقي به كلام الناس.. كانت على عتبة الأربعين حين اقترح إخوته أن يزوجوه بها.
إنها موظفة، وستتعاونان على تكاليف المعيشة. ثم إنك بحاجة للرعاية..
ثم أمام تردده المستمر، أردف أخوه الثاني:

أنفاسمع أذان العصر، وبعد أن انتهت الأم من نتف ما على وجهها وجسدها الرفيع الأبيض من شعر، وتبقع وجهها بالحمرة التي تخضب بها جسدها، أرسلت الأم طفلها حسان، عمره تسع سنوات، ليشتري لها فلقة صابون من السوق، وأعطته قطع النقود المعدنية المطلوبة بعد أن عدّتها ثلاث مرات وفركتها بين أصابعها مرتين، أعطته ثمنها بالضبط بلا أي زيادة أو نقصان، ورغم ذلك نسيت وطلبت منه أن يعيد لها باقي النقود وأن يمسكها بحرص، ويحكم إغلاق قبضته عليها باستماتة، وإلا ستقصف عمره إذا ضيعها.. وما إن خرج حسان من الباب حتى لحقت به أمه ووقفت عند العتبة كالعادة، مرسلة وراءه قائمة التوصيات الخالدة..
- امش على الرصيف يا حسان.. رح وتعال بسرعة يا بني.. أوع تزوغ هنا أو هناك.. خلي بالك من السيارات.. أوع تتأخر يا حسان.
أغلقت ألام الباب عائدة إلى الداخل.. مشى حسان على الرصيف مسرعا، وهو يضع النقود بين كفيه المغلقين ويخضهما قرب أذنه مستطعما صلصلتها، ثم دس النقود في جيب البنطلون، وأخذ ينقر الجيب بأصابعه الرفيعة فيتناهى إلى مسامعه خشخشتها التي تطربه فيستلذ.. وهو يلبس بنطلونا واسعا فضفاضا، فيحف به الهواء ويهفهف، ولو تمت إعادة تفصيل البنطلون من جديد فسيكفي لتفصيل بنطلون آخر وقميص مبحبح، وقد تزيد قطعة صغيرة تكفي لتفصيل قميص نوم نسائي..لأن البنطلون انتقل إليه من أخيه الأكبر منه بعد أن قصت الأم ذيله وثنته وخيطته قبل أسبوع، بعد صراع طويل مع ثقب الإبرة الضيق وهي تحاول لضمها، حيث انكسرت نظارتها الطبية من شهرين، لمّا سقطت عن التسريحة وهي تلقّط شعر حواجبها وتشذبه بملقط صغير..

أنفاسفي غابر الأزمان وفي قرية من القرى النائية ، كان يعيش صياد فقير ، وهو شاب في العشرين من عمره رفقة أخته الصغيرة . كل ما كان يملكه كوخ صغير ورثه عن أبويه المتوفيين منذ أمد بعيد . قوته اليومي سمكات يصطادها من البحر الذي يبعد عن كوخه مقدار ساعة من المشي السريع . كان يأخذ شبكته في كيس صغير من الخيش تاركا أخته الصغيرة تنتظره حتى يعود . كان الكوخ على مبعدة ميلين من القرية .لا يزوره أحد ولا يزور أحدا ، إذ كل ما كان يربطه بهذه الدنيا أبوان سرعان ما غادرا هذه الحياة تاركين إياه رفقة أخته الصغيرة .
   كان صديقنا الصياد الشاب يخترق غابة كثيفة الأشجار قبل أن يصل إلى شاطئ البحر ، حيث يلقي شبكته منتظرا ما يجود به البحر من سمكات قليلات ، وهو يخترق تلك الغابة كان يمر بشيخ عجوز يسكن كوخا بسيطا يتواجد في طريقه ، في الصباح تعود أن يسلم عليه ، فإذا عاد من صيده أعطاه سمكة من السمكات التي كان يصطادها ، ومع توالي الأيام بدأت الشبكة تتمزق بفعل الصخور الحادة . كان يرقعها ويصلح منها ما انقطع ، إلى أن أصبحت خيوطا رثة ولم يعد فيها ما يمكن إصلاحه ، حتى أنها بدأت تسمح للسمكات بالانفلات منها ، وشيئا فشيئا بدأ صاحبنا يعاني شح ما تمسك به هذه الشبكة ؛ ثلاث سمكات ، سمكتان ، سمكة واحدة ، فكان يحتار فيما يمكنه أن يقدم للشيخ العجوز . وفي أحد الأيام علقت شبكته في إحدى الصخور الحادة ، بحيث لم يتمكن من معالجتها إطلاقا . أصابه الذعر ، خاصة أنها وسيلته الوحيدة لصيد السمك ، فهو لا يملك ما يشتري به شبكة أخرى ، ولا يملك حقلا أو حتى نقودا يمكنه أن يشتري بها شيئا . لم يشأ أن يعود منذ الصباح إلى منزله ، ما الذي يمكنه أن يقول لأخته الصغيرة ؟  قضى نصف النهار جالسا على الصخور يفكر في محنته دون أن يجد حلا . مضى الوقت ثقيلا حزينا . وفي الأخير قرر أن يعود إلى المنزل ويقترح على أخته الرحيل إلى منطقة أخرى لعل الرزق يتسع ، وأرض الله واسعة .

أنفاسلو كان بإمكان هؤلاء ،أن يبيعوا لنا الهواء الذي نستنشق .. مُعلّباً .. لفعلوا ..
المستعمِر أرحم من هؤلاء . ماذا تبقى لنا . إنهم استحوذوا على كل شيء ..الأخضر و اليابس . الأراضي و البحار و السماء أيضا . كنا نأكل السردين حتى نشبع .. بدرهمين فقط . أما الآن فالسردين شملته ترقيتهم ..و صار يوضع بنظام في صناديق خاصة ، إلى جوار صناديق الأسماك الغالية الثمن كالميرنا و الكروفيت ..و أنواع أخرى لا أعرف أسماءها . أكتفي فقط بالنظر إليها بعمق..، أتـأمل لونها الجميل ..، و شكلها الغريب ..ثم أنسى نفسي ، غارقا في بحر من التساؤلات ، كثيرا ما أعود من سوق السمك بخفي حنين ، دون أن أتمكن من شراء السمك ، الذي طلبته مني ابنتي . و حتى لا أدخل بلا شيء إلى البيت ، أجد جسدي منقادا ،في خضم زحام السوق ، إلى بائع الدجاج ..
لا مكان لنا في هذه الأرض . لست أدري إلى متى سيبقى الوضع هكذا . هم يأمرون و يقرّرون .. و  نحن نستجيب و ننفذ بتلقائية.. و أحيانا بمتعة . نتهافت على وضع المشانق حول أعناقنا ..نختار القهر بأيدينا لأنفسنا ..لكن ..سيكون للتاريخ رأي آخر ..حين ..
تابعتُ آخر مرحلة إعداد الدجاجة الهزيلة . بعد إزالة ما تبقى من الريش الخفيف على ظهرها .. و من تحت جناحيها القصيرين ، قام الشاب الطويل ، بمعاودة وضعها داخل إناء مملوء بماء عكر ، تساءلت عن لونه ذاك ، هل هي أوساخ .. أم لون الإناء يعكسه الماء ..؟؟

أنفاسفي إحدى الليالي حزن الحمار لطول مكوثه على ذمة صاحبه " العَرْبي" الذي أبى أن يبيعه واحتفظ به في ملكه حتى مل عشرته  ، رغم أنه أنجب له حميرا كثرا:  ذكورا وإناثا ، و انسلخ ظهره في خدمته ؛ وبانت عليه مقدمات الشيخوخة  فأراد أن يعبر عن مصدر ضيقه  و حزنه لأبنه بجانبه ، قال:
يا بني : اعلم أن أباك صابر ابن صابر وأمي طاعة بنت نافع  ، أتميز بصفات أُحَب من أجلها ولا يستطيع أحد أن ينازعني فيها،  وعليك أن تفخر لأن فيك مني مثلها ، فأنا صبور حمال للمشقة ،  ورغم أن هذه الصفة تنسب غالبا إلى الجمل فيزهو بها على سائر ذوات الحافر و الأظلاف إلا أني أجد في نسبتها إليه دوني ظلما وتجنيا؛  لأنه قد يصبر على العطش أكثر مني ولا أجادل في ذلك، وقد يصبر على السير والضرب في أرض الله لمسافات أجد صعوبة في مجرد التفكير فيها ،  ولا جدال في ذلك ، ولكنه لن يستطيع بدوره أن يصبر مثلي  على تحمل  المهانات ، وأن يوسع قلبه الذي لن يتسع حتى وإن أراد لقبول الشتائم  التي يوجهها لي صاحبي" العَرْبي" فهو يستعيذ بالله من أي صوت يصدر عني ، أو أنوي أن أصدره تعبيرا عن وجودي ، أو طردا للأسى وترويحا عن الشجن ، أو اشتياقا وحنينا لخل  طوحت به الأيام  والقاطرات من سوق إلى سوق؛  ومن قطر إلى قطر.

أنفاس1- هذا الزمن المغربي الجريح ، كتاب مفتوح على المزيد ، من صرخات حجارة الصٌبار الجليل .
 ترى من يسقي شجرة الملح ، في أزقة مدن الضياع ، سوى أهازيج صقور ، هي الآن ماضية في وضع اللمسات الأخيرة ، لشكل اللعبة و لون الخريطة المصدرة ..؟
عنقود حروفها العقيمة هي .. يبست ، و كلماته الحمراء هو .. المسافرة ، على متن صهوة بحرنا  الغاضب ، لن يرعبها رصاص المرايا  ..
 هو .. زمن حالم ، و يئن تحت أقدام الأمكنة ..، أمكنة باتت تخدم  سلطان رياح شمال ، تتشكل فصوله القديمة ، و ما بين سطوره العميقة ، من حرارة الغموض البليغ ، و القادم من هندسة البارحة ، زمن عاد يصول خاطبا ، و نزيفُ عين الأسئلة الفياضة ، هو سيد المواقف الحالية .. فطوبى لزمن رديء ، تُرك وحيداً على جسر من قصب ..
لعلها تقلبات طقس السياسة الجوفاء ، و في ساحات الشوارع المعطلة ، عادت صقور الأمس ، تلعب معنا ، نحن الحجارة الحارقة ،  لعبة محارات الغميضاء ، و  بداخل الغرف المثقوبة ، و المعلقة من أنوفها العليلة  ، علينا تطل أحزان أشباه الرجال ، في عالم صغير ليست له رائحة ..