أنفاسإنه  وهج البحر ، هذا القادم من مركب أسئلة معتقة، في فصل ساخن  ، تستعد  أشجاره الحزينة ، أن تلقي بنفسها للهيب الصمت المختلف ، قربانا لآلهة الحرف المهمش، الذي لم يولد بعد . هي مدخنة العمال تحكي ، تلك التي تنفث الآن رائحة الأجساد المحلقة في عيد السواعد ، و تجاعيد بحر قوي ، فضل ركوب صهوة الاندهاش .
هل حان وقت ثأر الأحجار من عنف أسواط الانتظار ..؟
كيف السبيل ، إلى إشعال شرارة صهيل  هذا الفرس الهارب باستمرار ، و المنقسم إلى فصول علاها صدأ الأمس ؟؟ و بفعل نزلة حرارة لا حد لها ، يزداد الفارس انكماشا و حيرة ، داخل صرخة صمت بحر تدخنه الحيتان ، و بإتقان كبير تلسعها  محارات قصائد جميلة ، تمجد يقظة تجاعيد شوارع المدينة ، و لا تمجد جليد المستنقعات  . 

أنفاسمنذُ مساءٍ طاعنٍ في عهرهِ , عرفتهُ فتىً كنهرٍ ضائعٍ في أبدِ الصحراءِ
كانَ هادئاً وناعسَ العينينِ والمسحةِ كابنِ النبلاءِ , مائعاً
جمالهُ مُهذَّبٌ , مشذَّبٌ , وصوتهُ مُقصَّبُ الصباحِ والمساءْ
نظرتهُ / بسمتهُ , مصيدتانِ للَّتي ما رجعت يوماً إلى أحلامها البيضاءِ
أو جنتِّها الخضراءْ
نموذجاً مُطوَّراً عرفتهُ , لكلِّ ما الذئبِ من قساوةٍ
لكلِّ ما في الثعلبِ الأحمرِ من دهاءْ
مُحتالُ عصرِ النتِّ والبورصةِ والعولمةِ الهشَّةِ والفضاءْ
يمزجُ عبقرِّيةِ الخداعِ والزيفِ بعبقرِّيةِ الذكاءْ
لكنني مستغربٌ لوهلةٍ , كيفَ استطاعَ ذئبهُ استدراجَ آلافَ الظبِّياتِ ....
استطاعَ نَسرهُ استدراجَ آلافَ اليماماتِ ؟

أنفاسلا حاجة لكرنفال لاستقبالي, ولا حاجة لكم لتقديم التعازي في الميت انا ؟؟ كل ما هنالك أني مت , وأني في شوق لأسمعكم حكاياتي , حكاية موتي... لقد علمت قبل مقدمي اليكم عفوا قبل تنفيذ القاتل لجريمته في حقي أنكم أيضا قتلتم .
آه نسيت!!!! كنتم  شموعا مثلي وخضعتم لقانون روبرت بويلي حيث يستحيل على فأر أن يعيش في هواء تشتعل فيه شمعة , وحيث يستحيل لشمعة ان تشتعل في هواء مات فيه فأر؟؟
 نعم نفس الفأر ونفس الموت ونفس القاتل -الإله المقدس- "فأر ميت" ولكني وبالمناسبة هاته ليست في حقيبتي إلا الأخبار السيئة , أن  جرائم القتل تقيد ضد مجهول - باعتبار قتل الالهة للشموع واجبا مقدسا- بل واكتشفت نظرية خطيرة أن هذا المجهول الفأر الميت-  من حقه ان يطفئ الشموع ويقتل الشموع ويمتص دماء الشموع لأنه ببساطة لا بد للعميان من اله يقدس! ولينبعث هذا الفأر الميت لابد من تقديم دم الشموع قرابين له.
ببساطة لان العميان لا حاجة لهم بشموع؟
أيها الموتى!

أنفاسلا تخفي عيناه كلّما تحسَّستا ظِلَّ صاعدٍ إليه ، ما يُضمرُهُ بسبب   التناوُب عليه في تفَقّدِ أحواله بين الساعة والساعة ، في مواجهة تساؤل أصحابي عن اعتكافه الذي طال أكثر من عشر سنوات ،لا أجد أشبهَ بِعمِّي المعتزل في غرفة السطح ، غير أبي العلاء المعري رهين المحبسين ، أقتربُ من العتبة دون  افتعال تلك الكحّة المتقطعة إيذاناً بوصولي، قال لي في المرة الثانية : صرتُ أعرفك من رائحة خطواتك .
ظلّتْ أمّي عنيدةً في مُصالحته لآخر لحظةٍ في حياتها، غير أنّها لم تذكُرْهُ أمامنا بسوءٍ يُكَرِّهنا فيه، سمعتُها تنتفضُ في وجه أبي مُتوسِّلاً إليها برحمة عزيز قوم ذُلّ : كيف يكون ذليلاً واسمُه على كل ألسنة المدينة إلى الأطراف ؟ لا أدري إن كانتْ تعيِّرهُ في خُلْوة الليل، بما صار يظهر عليه من تراجُع عن الحلم بالتغيير الذي عهدناه مُتعلّقا به.
دعاني ذلك المساء إلى جانبه ، بعدما كنت أتَّخِذ الركن تحت النافذة مُقْـتََعَداً لمُجالَسته ، سألتُه يوماً عن توجيهي إلى ذلك الموقع بالذات، رغم تسلّل المطر من بين شقوق الإطار، صمتَ كثيراً ثم قال : من خلال صوتك أتلمّس خيوط الضوء في العتمة، كثيرة هي عباراتُه التي لم أفهمْها إلا بعد رحيله .
- طال صمتُكَ يا عمّي ، متى تخرج للناس ؟

أنفاسينتقل بخفة في أرجاء المكان.. حاملا سنواته السبعين، يرتدي جلبابين، لابد أن الأول كان يوما ما ناصع البياض، هو مصفر الآن.. بينما ضيع الثاني لونه البني واتشح بالسواد... عندما اقترب وجالس امرأتين بجانبي، لاحظت وجهه المطبع بالتعب.. لمحت إشراقة تطل من خلف زجاج نظارته القديمة والسميكة.. بدا صوته يافعا. كان يقذف الكلمات بشكل متسارع والسيدتان تنصتان بخشوع متفاوت......
الكبرى مدثرة بجلباب وغطاء رأس ابيض ، غلبت هالة الاستسلام على محياها.. كانت تقلب بين أصابعها وريقات غصن الريحان وتتمتم بكلمات غير مفهومة.. بجانبها كانت الفتاة الأصغر سنا تحاول جاهدة طأطأة رأسها.. تلتفت خفية إلى المارين، تتطلع إلى الرجل المسترسل في قراءته، تعدل وقفتها، ترتب المنديل الأصفر الذي يغطي رأسها، تنفض غبارا غير موجود على جلبابها المزهر بورود مختلفة الألوان.. ثم تطأطئ رأسها من جديد.

يغادر الرجل المرأتين مسرعا.. يقفز فوق الأبنية الصغيرة.. بعضها حديث الطلاء، الآخر مزين بالنعناع.. هنا أيضا، بدت مظاهر التفاوت الطبقي.. أبنية مغطاة بالسيراميك وأخرى ارتفعت أكثر من جاراتها..

أنفاس- كل عام وانت بخير عمتي.
- ومن اين يأتي الخير .. الا ترى حالتي كالميت الذي لا يقوى على الحركة.. آخ ..آخ .. ما قيمة هذه الحياة البائسة وحيدة هنا .. لو وقعت ومت فلن يدري بي أحد .. اتمنى الموت على هذه الحياة .. لعلي اجد فيه راحة لم أعرفها في حياتي .. لقد نشأت على الشقاء والعذاب ..
كان قلب خالد يحدثه طوال الطريق أن هذا الحوار سيقع لا محالة، وسيسمع الشكوى التي صارت تؤرقه .. فحال عمته خيرية يرثى لها، وهو لا يستطيع ان يفعل لها شيئا. كانت تنظر وهي تخاطب خالد بعيون فيها الحزن والحسرة الممزوجة ببصيص ضئيل من الامل الى الصورة المعلقة على الحائط.. الله يرحمه عمك جمال .. كان زينة شباب البلد .. كان طيبا ووطنيا ويحبه كل الذين عرفوه.. نظرت الى الصورة .. حدقت فيها .. كانت صورته باهتة الجوانب باللونين الاسود والابيض وقد صارت بفعل الزمن مصفرة ارضيتها ويبدو عليها كأنما اخرجت من تحت اكوام التراب والغبار .. اه كم مرت سنوات عليها وهي معلقة مكانها..ولكن ملامح عينيه ووجهه ما تزال واضحة. صارت صورة جمال جزءا لا يتجزأ من حياة خيرية.. لقد سمَّى ابنها الاوسط عدنان عندما ولد له أول صبي بعد انتظار سنوات على اسمه .. الكل ينادي عليه جمال ويذكره بالراحل الذي لم يعد .. يشعر أنه اكتسب محبة خاصة بين اخوانه بسبب الاسم. الكل يتحدث عنه بافتخار ومرارة.. لقد انتظرت وصفية سنوات لاجله .. كانت ترفض من يتقدم لها .. تقول لهم ان جمال سوف يعود .. كانت تصر على لبس خاتم الخطوبة رغم مرور سنوات على غيابه .. صار الكل يعرف قصتها .. كانت كلما تذكرته، تشرع في البكاء بصوت مكتوم خشية ان تبدو علي وجهها عواطفها واضحة .. كان هذا علامة ضعف غير مقبول وشيئا اجتماعيا غير مألوف ان يصدر من البنت بين الناس!

أنفاساعتاد على المرور من هنا . تحمل حميره رمالا على أظهرها يسوقها نحو أماكن البناء أ و الترميم داخل المدينة العتيقة. ينادونه باسمه.  (Juanito ) هو ذاك الاسباني الأصيل النازح من بلاد الأندلس تجاوز الخمسين من عمره . يشتغل بحميره منذ أ ن وطأ ت قدماه شمال المغرب أيام النزوح الاسباني إلى هناك . الجميع من أهل البلدة يعرفونه. يتعامل معه الكل بحذر زائد حازم في عمله . حميره هي الأخرى لا تكل فكم بيت من بيوت تطوان حملت رمال بنائها . كانت ذا أصل إسباني لونها أشهب ولها علو كعلو البغال. ذات أرجل قوية، صبورة ومدربة تدريبا كان يجعلها تمر وسط الأحياء بازدحاماتها وفوضويتها دون أن تحدث أية خسارة .
كانت سبعة، بعدد أيام الأسبوع وكان لكل واحد منها يوم راحة، خاصا به. فحين يعمل الستة يظل السابع في عطلته الأسبوعية، في زريبة بمكان يسمى ( عقبة الحلوف ) . كان موعدي في جلسة المساء، حين تميل الشمس تاركة ظلها قرب باب دكاننا، فتنشر حرها المسائي على باقي السطوح المجاورة والفجوات المنسية . كنت أخرج كرسيا خشبيا أجعله مقعدا لجلوسي في انتظار قافلة الحمير المحملة بالرمال، وكان لها قائد يتقدمها بناقوس علق في عنقه، فكانت تسير على إيقاع خطواته . وكانت شمس الصيف الحارقة تدفع حشد المارين ليستنجدوا بظل الألواح الخشبية المثبتة فوق أبواب الحوانيت تحميهم من لفحاتها . وكنت أستغل اللحظة فأخرج لجلستي المعتادة .. وكانت عند عصر كل يوم. أستأنس بظل الكروم التي تتدلى بين ألواح متشابكة ومثبتة على الجدران .

أنفاسليس من السهل على أي وجه آدمي ألا يضحك ويكركر من الضحك فور أن يرى قدمي خالد الغريبتين.. مهما كان هذا الوجه جادا أو صارما، حتى لو كان صاحب هذا الوجه موغل في التزمت ومتماد في الوقار.. سيضحك حتى لو رآهما في كل لحظة. اعتاد أهل الحارة على رؤية قدمي خالد الكبيرتين المفلطحتين، دائما مفروشتين على الأرض وتشغلان مساحة واسعة من أي مكان يقف أو يمشي عليه. ولا بد أن يضحك الإنسان للنكات والتعليقات التي تقذفها الأفواه بلذة وتتلقفها الآذان بمتعة.. صبية الحارة يطلقونها والرجال.. أحيانا النساء يطلقنها مستلذات بها. وما أسرع انتشار النكتة كسرعة انتشار أغنية فيديو كليب جديدة..
- قدماك تصلحان لتسوية الشوارع غير المسفلتة.
- أعطني قدميك لأهجم بهما على إسرائيل.
- الشلوت من قدمك يفسخ الإنسان إلى فلقتين.
- كل قدم منها مثل الحوت، لا لا .. مثل سمكة القرش.
 البعض يبالغ في كبرهما بقصد التفكه ويقول أن طولهما يصل إلى ثمانين من السنتيمترات، لكن في الحقيقة بالكاد يصل طول كل قدم إلى أربعين من السنتيمترات.. يبرز على جانب كل قدم درنات شبيهة برؤوس الفئران، ومشط القدم منفوخ مقوّس كالسلحفاة، فيبدوا قدمه كحبة بطاطا مزرّعة بالغة الكبر بما نبت بها من أدران.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة