أنفاسدخل أبي من عمل ، هو بمثابة فخ جميل و محترم بالنسبة إلي . يبدو عليه التعب واضحا . أظهرت بذكاء طفولي اهتمامي بالدرس و التحصيل الناجح . فتحت محفظتي ، و أخرجت من كتاب التربية التشكيلية ، الورقة المزدوجة الزرقاء التي حصلت فيها على أحسن نقطة في قسمنا خلال الأسبوع الفائت . قبل أن يقف هو للذهاب إلى ساحة الدار، حيث تعود على الوضوء . قدمت له ورقة نتيجتي . نظر إليها دون أن يكترث بالأمر . لكن و هو ينظر دون أن يفهم ، لفت انتباهه الرسم في الورقة . قال و عيناه في عيني :
ما هذا الدود الذي و كأنه في سباق ..؟
إنه ليس دودا  ..هي حيوانات منوية ..يا أبي .
الحيوان أعرفه ..لكن ..المن..وية لا أفقه فيها شيئا ..
الحيوان المنوي يا أبي منه خلقنا ، هكذا قال لنا معلمنا في الدرس ..
سقطت الورقة من بين أصابعه الغليظة و الصلبة .. حاولت الانحناء لالتقاطها قبل وصولها إلى الأرض ...،شدني بقوة من ذراعي النحيفة .و قال بنوع من القسوة ، التي عرف بها ، عندما يحس بعدم الارتياح . ثم قال :
أفصح ..هل صحيح المعلم هو الذي قال لكم أننا خلقنا من حيوان ...؟
ليس من أي حيوان ..هو حيوان منوي ..يشبه الديدان يا أبي .. كما في الورقة .

أنفاس ....كان قد مضى على وفاته عدة أسابيع عندما رأيت في منامي أني أقف أمام جثمان أبي... كان الجثمان مسجى على سرير متعدد الطوابق، من ذلك النوع الذي يستخدمه البحار ة والجنود.... في الطابق الذي يقع في مواجهتي مباشرة كشفت الغطاء عن وجهه فأدهشني أن عينيه كانتا مفتوحتين رغم موته!، وأنه يطل إلي بنظرته الحزينة، بل خيل إلي أن عينيه فيهما بقايا دموع!!. وحين رددت عليه الغطاء حانت مني التفاته إلى الطابق الأسفل من السرير... كان ثمة جثمان آخر مسجى... حين كشفت عنه الغطاء فوجئت بأنه أيضا جثمان أبي، وأنه يطل علي بنظراته الحزينة الضارعة!!... رحت أنقل نظراتي بين طوابق السرير... في كل منها ذات الجثمان، وذات النظرات والدموع.
***
استيقظت مذعوراً والعرق البارد يتصبب على جبيني.
* * *
يوم الجنازة، وقف أبناء عمومتي إلى جانبي يستقبلون العزاء... ينظر المعزون إليهم فيبادلونهم النظرات، ثم ينظر الجميع إلي فيتجمد الدم في عروقي لحظة، ثم يغلي. في نظراتهم معنى لا يخطئه أحد. ليس في بالهم غير الميراث الكبير من الأرض الشاسعة، أو بالأحرى.. التي يتصورون أنها مازالت شاسعة، والتي سوف استأثر بها وحدي.
***
حين وقف الشيخ فزّاع لكي يودعني، قبل أن ينصرف شدّ على يدي بعنف؛ حتى كاد يسحقها، وقال لي بابتسامة باهتة صفراء.
- لا تحزن فالله أخذ، والله أعطى.
هممت لحظتها بأن أبصق عليه. لكنني لسبب ما، أحجمت.

أنفاسفرح الحفاة، فالسحب كانت رحيمة وتحب الاحسان إلى عباد الله المعوزين، فأمطرت أحذية من مختلف المقاييس غير أن عبد الله بن سليمان كان نائماً فلم يفرح إذ لم يظفر بحذاء ظلت قدماه حافيتين. وهكذا فقد حدق عبد الله بن سليمان إلى أحذية الناس السائرين في الطرقان بينما يفترسه الحسد. والحسد وقانا الله منه أصل البلاء، وهو كما تعلمون شر عظيم والمرء الحسود ينال ما يستحق من عقاب، فالله ساهر لا تخفى عليه خافية، لا يهمل ولا يمهل. لقد ولد عبد الله بن سليمان حافياً، وترعرع حافياً، ويسير حثيثاً إلى القبر بقدمين حافيتين ولكن ابليس اللعين خزاه الله وسوس في أذنيه وزين له أن يصير من عباد الله مالكي الأحذية، فلم يرفض عبد الله بن سليمان اغراء ابليس انما خضع له. ولا بد أنكم تعلمون أن ابليس ذو وجه يخلو من الوسامة ، وله قرنان وذيل.
ولم يكن عبد الله بن سليمان يملك من النقود ما يكفي لشراء حذاء، ولذا لم يتردد في اللحاق برجل حذاؤه جميل لامع الجلد، ثم انتهز فرصة سيره في طريق فرعية تخلو من المارة، فانقض عليه بخنجره المحدودب النصل الذي ورثه عن أبيه، وطعنه في صدره طعنة واحدة، فهوى الرجل في الحال كحجر ثقيل وارتطم بالأرض، فسارع عبد الله بن سليمان إلى الركوع بجواره محاولا انتزاع الحذاء من قدميه.
وفي تلك اللحظة مرت دورية من رجال الشرطة، فقبضت على عبد الله بن سليمان الذي لم يجرؤ على انكار فعلته البشعة، فالخنجر ملطخ بالدم، والرجل الممزق الصدر يتخبط في دمه وتتحشرج أنفاسه وقد أشار إلى عبد الله بن سليمان معلنا أنه هو قاتله.

أنفاسفي المقهى كبرت شجرة السر الخطير، وانتقل الخبر من منصة إلى منصة حتى  استقر به المقام في المصب الأخير لكل النفايات- بين يدي الدوائر الحكومية- كيف وقع ذلك للمواطن الملعون وهو الذي لم يضبط متلبسا بقراءة جريدة، لافي المقهى مع جماعته من الحشرات الصلعاء، ولا وهو في الصف ينتظر صرف المعاش النحيف، ولاوهو يفر من الدائنين الكثر؟
كيف وهو الذي لم يتعرف على كاتب أوصحفي؟ كيف قرر فجأة أن يكتب يومياته؟
في كل ليلة –حسب تقرير السر الخطير- يسترخي المواطن الملعون في سريره وفي الضوء الشاحب لمصباح صغير يشرع في كتابة يومياته.
كتابة اليوميات، ترف رئاسي، غواية وإغراء فني للكتاب والشخصيات المهمة، طريقة لبقة لتقاسم نشوة القمة مع الحشرات، كل ذلك مقبول، ولكن أن يكتب المواطن الملعون يومياته ، هذا أمر لايحتمل.
قامت حالة الطوارئ في الحي بكامله، بل في كل أنحاء المدينة ، وساد هرج ومرج في الدوائر الحكومية،
الخضارفي خطر، فهو عامل المواطن الملعون بطرق تفاوتت بين الشدة واللين، مؤسسات الدولة التي قطعت عنه الماء والكهرباء لبضعة أشهر تخشى من أن تطل لعنة الظلام والعطش في يومياته، أسعد الناس حظا هو الجزار فهو لم يكن يتملى بطلعة المواطن الملعون إلا في المواسم...
في الصباح، وقبل أن تستيقظ عصافير الحي كان جمهور غفير من الناس قد احتشد مقابل بيت المواطن الملعون بتحفيز من الدوائر الحكومية، وفي لحظة خاطفة وبإشارة خفية كان الجميع يندفعون إلى الداخل بعد أن هشموا الباب المتآكل.

أنفاساقبل الليل ، بعتمته وسكونه اقبل ، بثقله وهمومه . الآن يبدأ السمر ، صحيح انه مرّ إلا انه سمر ، و له بداية .. أطبق الليل شفتيه ، فعم الصمت و عام به الليل  فأغرق الدنيا بالسكوت .
لكن اليوم الخميس و ليس ليله كأي ليل ، فهناك شعائر زوجية تمارس و تقام طقوس زاخرة بشهوة الأجساد ، وأرواح تنعش بالحب .. أو ألا حب .
عاد إلى البيت عابس الوجه ، يرفل بجلباب لونه رمادي اقرب إلى لون الفئران ، ألقى بطاقيته المخرّمة على كرسي خشبي متآكلة أطرافه و قاعه مخزوق . تقدم بضع خطوات و ألقى نظرة متفحصة ملية على وجوه كومات لحم نائمة مبعثرة بعشوائية و يختلط فحيح أنفاسها الساخن ليخدش هيبة الصمت ، ثم تراجع خطوات قليلة وعلى الحصير تربع . اسند ظهره إلى الحائط المتسخ بالبقع والخرابيش ، و اخذ يصغي لنقرات الماء في الحمام ، و هسيس رشقاته المنسكبة على جسد زوجته ، ويحدق في السقف الموشوم ببيوت العناكب و الممهور بالهبو .
خرجت زوجته من الحمام و قد تدلى شعرها المبلول يقطر و يغطى وجهها المدّور ، ورائحة الشامبو الرخيص تفوح ، وقد لفت جسدها بفوطة كبيرة ، فطوقتها من أعلى صدرها إلى أسفل ركبتيها ، ما أن رأته حتى فلت من فمها رشقات الضحك الرنان المتبوع بغنج ، و أضاء وجهها مثل الشنبر .. فلم لا تضحك ؟ فكل شيء على ما يرام ، فنهار الخميس قد انقضى وجاء الليل ، هي ليلة الجمعة ، و الزوج زوجها و موجود أمامها بعظمه ، صحيح انه بلا أي شحم أو لحم و لكنه زوج والسلام .. و أكوام اللحم تغط في سبات عميق ، إذن كل الظروف مهيأة لهذا الوقت المنتظر من أسبوع على أحر من الجمر .. كانتظار الأرض العطشى لماء المطر .

أنفاس *1* الجدار
استيقظ الرجل متأخرا من نومه ، ...وجد ضبعا .. أنيقا يهيئ فطور الصباح .. في مطبخه ،..و عندما خاف الرجل من الضبع ، عاد إلى نومه ..مستسلما للشخير ../
و في الصباح الباكر الموالي ..قال لزوجته المطروزة من رحيق الورد ..و هما على مائدة الإفطار ../ ..
- ( إنني  قضيت  معك يا وردتي  ليلة الأمس )..
 ..فصدقته..زوجته .. لكن ..، لم يجرؤ هو .. على تقبيلها ..كالعادة ...
*2*الحصان
كان أبي يحب ركوب الحصان ..حتى الثمالة .
و في مساء يوم يقطر حبات رمان .. خرجت من صمتي ..فرسمت ، في دفتري المغسول الوجه برائحة الطين ..
 شمسا كالعروس ..و هي ..غارقة في الضحك ..، على صهوة  حصان أزرق ..يلتهم الطريق التهاما../
لما وصل أبي .. من رحلة صيد خاسرة ..، علقني  كالشاة ، من أحرف قدمي  العاريتين ..و الطويلتين ../
 لأنني لم أرسم الحصان أبيضا ..، كحصانه .. الذي توفي .

أنفاس  على المشجب الخشبي,وضع طربوشه,معطفه فسرواله لكي يتجنب عناء كيه ثانية.تمدد ليريح قدميه وظهره من وقوف النهار...ونفسه من اهاناته المتكررة...نظر الى المشجب بتوجس....
تحرك ببطء,فتح الباب ... وأحكم اغلاقه خلفه..هرول وسط الزحام.
نجا من نزق دراجة حادت منكبه.
دلف من الباب المحروس للبناية.لم يوقفه الحارس لأن الشارة لاتزال تزين الجانب الأيسر من المعطف.اندس مع آخرين في مصعد خاص...
فتح الباب دون أن يطرقه,لم يغلقه...
خلف المكتب رجل بدين يرفع قدمين نزع عنهما الحذاء والجوارب...
اندهش.كيف لبوابه أن يقتحم عليه خلوته دون استئذان؟
ولان الباب ظل مواربا,سمع دوي صفعة...

فتفككت أوصال المشجب الخشبي...

أنفاسلم نتمكن من قطع الجسر .. لأننا اختلفنا في نوع الحذاء ..، و لون القبعات ..، و شكل المعاطف ..، التي تلزمنا كألبسة ..، للنجاح في تجاوز هذا الجسر اللعين .. وصلنا إليه في منتصف الليل . أقمنا خيامنا الصغيرة فوق الجسر العملاق . قلنا سنمضي هذه الليلة هنا ، و في الصباح الموالي ، سنشد الرحال إلى ما بعد الجسر ...إلى الضفة الأخرى .
لكن تحول وضعنا هذا ، لأسباب في أنفسنا ، ظلت مجهولة إلى اليوم ، إلى إقامة إجبارية ، على جسر معلق في سماء متصلبة ، دامت لسنوات طويلة ..، و صعبة للغاية ..و لا تزال مستمرة حتى الآن ..ننتظر جميعا أن نتفق حول طبيعة اللباس و لونه و شكله ، الذي يناسب رحلتنا فوق جسر عملاق ..كجسرنا . لم نتفق بعد ..، بل تضاعفت حرارة اختلافاتنا ، حيث بتنا نعثر في كل صباح ، على جثة داخل خيمة من خيمنا ..و لما بحثنا و حققنا في الأمر ، انتهينا إلى أن هذه الجثث تحمل كلها علامات و "عضات" نفس الأفعى ..، و أغلب الظن ، أنها "سافرت" معنا متخفية في إحدى الحقائب ، منذ انطلاقتنا من  مدينتنا ..
لقد  جعلنا هذا الحدث ، نحن الثلاثة ، الذين نقيم تحت سقف نفس الخيمة ، نفكر في حل أنجع ، يليق بوضعنا على الأقل نحن الأصدقاء المتفقين و المنسجمين ..و لن يكون هذا الحل إلا بخرق العهد ..الجماعي ..و تأسيس موقف جديد ..و ذلك بترك الجسر ، و البحث عن الحياة .. حياة حقيقية خارج الجسر .هكذا، انسللنا  في إحدى الليالي العاصفة ، عندما كان جميع أفراد فريقنا ، رجالا و نساء و أطفالا، نياما .