أنفاس "على بال مين يللي بترقص بالعتمة" مثل شعبي
***
سكون أثير يجتاح المكان، يخترق الأروقة الضيقة، الأزقة التي لا تعرف الاعتدال. سكون يراودني بينما يعم الشخير أرجاء المنطقة، يتطاير مع ريح ألفت ولوج المعارك. شخير متقطع يتهادى مع رقصات بالية تستمر دؤوبة في نوم السيدة الممدة في الغرفة، تنفثه والأنف المدبب يفترش الوجه، أراه وأنا أتلهف شوقاً للنوم.
ورقصت ..
هكذا كما ترون، وكما أخبرتكم من قبل، رقصت وقد كنت منهكاً، خائر القوى، أهيم على نفسي جنوناً، أهيم وفي رأسي خيالات مرعبة للمرأة الممدة في جوف الغرفة.
كانت نسمات شتائية لذيذة أطلت من شفق الحكاية، داعبت شعري الكث دون أن تحرك فيه ساكناً. بلغت حد الانفجار، التخمة حين دارت على أعتاب غرفة متوسطة الحجم ولم تجد أياً من أحياء يتشظون في صقيعها، ولجتُ والريح امرأة صبية في عمر جدتي القديم، كانت تشخر كأنها في حرب دامسة لم تصل حد النهاية، أردت أن أطفئ لهيبها، لكن الصوت أرعدني فقررت عدم المشاركة في الفراش.
كأنني رقصت ...
ولجت المكان متأخراً كعادتي، في ساعة لم أعرف كنهها، أردفت إلى بيتي الذي لا يتجاوز عدة أمتار، غرفة واحدة تضمنا جميعاً، أنا، وهيكل هلامي لامرأة أحدودب ظهرها عطشاً لبيت جديد، بجوارنا خمسة أطفال، أكبرهم في عمر شجرة الزيتون التي زُرعت في حارتنا قبل أعوام.
ولجت المكان وفي نفسي غصة لم يزل لها طعم العلقم، الجميع في نوم الموات، لا أحد منهم يحرك ساكناً، لم أرهم منذ زمن بعيد يتحلقون حولي كمريدين في زاوية الحياة، يعطونني قبلة على ظهر يدي فأعطيهم حباً وحناناً. والزوجة المتهدلة الثياب والشعر تعطيني قائمةً طويلة من المتطلبات.
ورقصت ...
بداية الأمر، استهجنت الفكرة، كيف لي أن أفعل ما أنكره على زوجتي أمام الناس، أمام النساء اللاتي يرفضن فكرة النظر إلى وجه زوجتي الذميم.

أنفاس دق الباب، هرعت أناي من ذاتي كأن انفجارا قذف بها لتكتشف من الطارق. منذ مدة وهي تحيى قبليا هذه اللحظة، ذوات الزقاق الضيق تسأل أناي عن ذاتي؛ غاب الجد، انتزع من عالمنا الممكن. كيف ينزوي في هامش علينا أن نكتشفه في أسفارنا الطويلة القادمة في اتجاه النسيان كلما مررنا من حيث كان يجلس في خلوته يستعيد عبر ذوات الزقاق ذاكرة وطن هو بسعة الحلم..هو الآن يتأمل دواتنا -من هامش ما -يرأف لحسرتنا ،يتألم لدموع ذات الصغير على سطح المنزل،يحرك فينا كل التفاصيل اليومية التي لم نأبه بها يوما ؛هاهي اليوم في عمق تفكيرنا تنزع عنها كل الحجب لتنكشف إشراقا توحدنا بجوهرنا ؛ تصدح بحضوره فينا، في كل ألأمكنة التي مارسنا فيها شغبنا الطفو لي ، في كل ألم ارتكاسي من جراء قسوة أب يتوهم تنشئة صغاره وفق خارطة طريق تتنكر لحكايات الجد المسائية؛ فيها من عوالم الجدة أنين نساء كل الوطن ...لكنه الآن هنا بدون ملامح فيزيقية هو الجد الذي يسكننا، يحدثنا، يفتح باب غرفنا كل مساء، يتحول عصب عالمنا الممكن.
 دخل خلسة ألبوم صوري ، يحملني بين ذراعيه، نظراته للعلياء وشفتاه بالآذان تكبر لله في أذني  يملأ وجداني بفيض الله وبعشقه. لم يكن يعلم حينها أنه كان يبذر في حب الميتافيزيقا وقلق السؤال وعطش ارتقاء السماوات واقتحام القلوب والحفر عن أصل الأشياء .كنت بخجل أتبع خطواته المتثاقلة وهو يشق أزقة المدينة القديمة في اتجاه زاويته ..هاهي منتصبة في هذه الصورة شاهدة عن ورعه. هي عالمه حيث كان على موعد يومي بممكنه ،كنت اجلس خلسة وراء مريديه، أسمعه دائما يردد أنه عالم يسع كل المدينة  الثاوية في قلبه بل وأرض الله الواسعة .

أنفاس كان عبد الله يجوب القرية قلقا. بدا أن أحدا غيره لم ينتبه.. كانت البلدة تعج بسكانها. لم يكن الفصل صيفا، ليأتي المغتربون والأصدقاء بهذه الكثرة. لم يكن في البلدة غير أهلها.. لماذا هذا الإكتظاظ، إذا؟
لقد لاحظ منذ بعض الوقت أنه لم تحدث أي وفيات.. وأنه لم تل صلاة الظهر أي صلاة عن الموتى. إنه لا يستطيع أن يتذكر آخر جنازة حدثت في البلدة. انتبه للأمر منذ أيام فقط. جارته التي تجاوز عمرها المئة عام والتي تعاني من عدة أمراض مزمنة، لم تمت. ومحمود الراعي، حين وقع من أعلى الجبل في الجرف العميق، لم يمت. والحاج عبد السلام، مازال يصارع المرض الخطير والألم منذ أزيد من الستة شهور، وإن أكد له الأطباء كل مرة أنه لن يتجاوز نهاية الأسبوع... الحالات كثيرة جدا.. حتى إن سعيد الذي أصيب برصاصة طائشة  في صدره، من بندقية صديقه القناص، لم يمت.
لكن عبد الله، لاحظ أيضا أن كل حالات النجاة من الموت، لم يصاحبها شفاء معجزة. فكل الناجين يعانون من المرض ومن حالات ألم رهيب. في الليل، حين يجافيه النوم، يسمع بوضوح أنين الألم من بيوت الجيران. ربما لأن كل بيت كان فيه ناج يتألم، لم يبال أهل القرية بالظاهرة. فالكل كان يتألم لألم قريب له.
شعر عبد الله بان عليه ان يجد تفسيرا للأمر.. لابد أن هناك سببا وراء معاناة أهل القرية. غدا، يوم جمعة. بعد صلاة الظهر، سيخبر أهل القرية بملاحظاته.

أنفاسدخل أبي من عمل ، هو بمثابة فخ جميل و محترم بالنسبة إلي . يبدو عليه التعب واضحا . أظهرت بذكاء طفولي اهتمامي بالدرس و التحصيل الناجح . فتحت محفظتي ، و أخرجت من كتاب التربية التشكيلية ، الورقة المزدوجة الزرقاء التي حصلت فيها على أحسن نقطة في قسمنا خلال الأسبوع الفائت . قبل أن يقف هو للذهاب إلى ساحة الدار، حيث تعود على الوضوء . قدمت له ورقة نتيجتي . نظر إليها دون أن يكترث بالأمر . لكن و هو ينظر دون أن يفهم ، لفت انتباهه الرسم في الورقة . قال و عيناه في عيني :
ما هذا الدود الذي و كأنه في سباق ..؟
إنه ليس دودا  ..هي حيوانات منوية ..يا أبي .
الحيوان أعرفه ..لكن ..المن..وية لا أفقه فيها شيئا ..
الحيوان المنوي يا أبي منه خلقنا ، هكذا قال لنا معلمنا في الدرس ..
سقطت الورقة من بين أصابعه الغليظة و الصلبة .. حاولت الانحناء لالتقاطها قبل وصولها إلى الأرض ...،شدني بقوة من ذراعي النحيفة .و قال بنوع من القسوة ، التي عرف بها ، عندما يحس بعدم الارتياح . ثم قال :
أفصح ..هل صحيح المعلم هو الذي قال لكم أننا خلقنا من حيوان ...؟
ليس من أي حيوان ..هو حيوان منوي ..يشبه الديدان يا أبي .. كما في الورقة .

أنفاس ....كان قد مضى على وفاته عدة أسابيع عندما رأيت في منامي أني أقف أمام جثمان أبي... كان الجثمان مسجى على سرير متعدد الطوابق، من ذلك النوع الذي يستخدمه البحار ة والجنود.... في الطابق الذي يقع في مواجهتي مباشرة كشفت الغطاء عن وجهه فأدهشني أن عينيه كانتا مفتوحتين رغم موته!، وأنه يطل إلي بنظرته الحزينة، بل خيل إلي أن عينيه فيهما بقايا دموع!!. وحين رددت عليه الغطاء حانت مني التفاته إلى الطابق الأسفل من السرير... كان ثمة جثمان آخر مسجى... حين كشفت عنه الغطاء فوجئت بأنه أيضا جثمان أبي، وأنه يطل علي بنظراته الحزينة الضارعة!!... رحت أنقل نظراتي بين طوابق السرير... في كل منها ذات الجثمان، وذات النظرات والدموع.
***
استيقظت مذعوراً والعرق البارد يتصبب على جبيني.
* * *
يوم الجنازة، وقف أبناء عمومتي إلى جانبي يستقبلون العزاء... ينظر المعزون إليهم فيبادلونهم النظرات، ثم ينظر الجميع إلي فيتجمد الدم في عروقي لحظة، ثم يغلي. في نظراتهم معنى لا يخطئه أحد. ليس في بالهم غير الميراث الكبير من الأرض الشاسعة، أو بالأحرى.. التي يتصورون أنها مازالت شاسعة، والتي سوف استأثر بها وحدي.
***
حين وقف الشيخ فزّاع لكي يودعني، قبل أن ينصرف شدّ على يدي بعنف؛ حتى كاد يسحقها، وقال لي بابتسامة باهتة صفراء.
- لا تحزن فالله أخذ، والله أعطى.
هممت لحظتها بأن أبصق عليه. لكنني لسبب ما، أحجمت.

أنفاسفرح الحفاة، فالسحب كانت رحيمة وتحب الاحسان إلى عباد الله المعوزين، فأمطرت أحذية من مختلف المقاييس غير أن عبد الله بن سليمان كان نائماً فلم يفرح إذ لم يظفر بحذاء ظلت قدماه حافيتين. وهكذا فقد حدق عبد الله بن سليمان إلى أحذية الناس السائرين في الطرقان بينما يفترسه الحسد. والحسد وقانا الله منه أصل البلاء، وهو كما تعلمون شر عظيم والمرء الحسود ينال ما يستحق من عقاب، فالله ساهر لا تخفى عليه خافية، لا يهمل ولا يمهل. لقد ولد عبد الله بن سليمان حافياً، وترعرع حافياً، ويسير حثيثاً إلى القبر بقدمين حافيتين ولكن ابليس اللعين خزاه الله وسوس في أذنيه وزين له أن يصير من عباد الله مالكي الأحذية، فلم يرفض عبد الله بن سليمان اغراء ابليس انما خضع له. ولا بد أنكم تعلمون أن ابليس ذو وجه يخلو من الوسامة ، وله قرنان وذيل.
ولم يكن عبد الله بن سليمان يملك من النقود ما يكفي لشراء حذاء، ولذا لم يتردد في اللحاق برجل حذاؤه جميل لامع الجلد، ثم انتهز فرصة سيره في طريق فرعية تخلو من المارة، فانقض عليه بخنجره المحدودب النصل الذي ورثه عن أبيه، وطعنه في صدره طعنة واحدة، فهوى الرجل في الحال كحجر ثقيل وارتطم بالأرض، فسارع عبد الله بن سليمان إلى الركوع بجواره محاولا انتزاع الحذاء من قدميه.
وفي تلك اللحظة مرت دورية من رجال الشرطة، فقبضت على عبد الله بن سليمان الذي لم يجرؤ على انكار فعلته البشعة، فالخنجر ملطخ بالدم، والرجل الممزق الصدر يتخبط في دمه وتتحشرج أنفاسه وقد أشار إلى عبد الله بن سليمان معلنا أنه هو قاتله.

أنفاسفي المقهى كبرت شجرة السر الخطير، وانتقل الخبر من منصة إلى منصة حتى  استقر به المقام في المصب الأخير لكل النفايات- بين يدي الدوائر الحكومية- كيف وقع ذلك للمواطن الملعون وهو الذي لم يضبط متلبسا بقراءة جريدة، لافي المقهى مع جماعته من الحشرات الصلعاء، ولا وهو في الصف ينتظر صرف المعاش النحيف، ولاوهو يفر من الدائنين الكثر؟
كيف وهو الذي لم يتعرف على كاتب أوصحفي؟ كيف قرر فجأة أن يكتب يومياته؟
في كل ليلة –حسب تقرير السر الخطير- يسترخي المواطن الملعون في سريره وفي الضوء الشاحب لمصباح صغير يشرع في كتابة يومياته.
كتابة اليوميات، ترف رئاسي، غواية وإغراء فني للكتاب والشخصيات المهمة، طريقة لبقة لتقاسم نشوة القمة مع الحشرات، كل ذلك مقبول، ولكن أن يكتب المواطن الملعون يومياته ، هذا أمر لايحتمل.
قامت حالة الطوارئ في الحي بكامله، بل في كل أنحاء المدينة ، وساد هرج ومرج في الدوائر الحكومية،
الخضارفي خطر، فهو عامل المواطن الملعون بطرق تفاوتت بين الشدة واللين، مؤسسات الدولة التي قطعت عنه الماء والكهرباء لبضعة أشهر تخشى من أن تطل لعنة الظلام والعطش في يومياته، أسعد الناس حظا هو الجزار فهو لم يكن يتملى بطلعة المواطن الملعون إلا في المواسم...
في الصباح، وقبل أن تستيقظ عصافير الحي كان جمهور غفير من الناس قد احتشد مقابل بيت المواطن الملعون بتحفيز من الدوائر الحكومية، وفي لحظة خاطفة وبإشارة خفية كان الجميع يندفعون إلى الداخل بعد أن هشموا الباب المتآكل.

أنفاساقبل الليل ، بعتمته وسكونه اقبل ، بثقله وهمومه . الآن يبدأ السمر ، صحيح انه مرّ إلا انه سمر ، و له بداية .. أطبق الليل شفتيه ، فعم الصمت و عام به الليل  فأغرق الدنيا بالسكوت .
لكن اليوم الخميس و ليس ليله كأي ليل ، فهناك شعائر زوجية تمارس و تقام طقوس زاخرة بشهوة الأجساد ، وأرواح تنعش بالحب .. أو ألا حب .
عاد إلى البيت عابس الوجه ، يرفل بجلباب لونه رمادي اقرب إلى لون الفئران ، ألقى بطاقيته المخرّمة على كرسي خشبي متآكلة أطرافه و قاعه مخزوق . تقدم بضع خطوات و ألقى نظرة متفحصة ملية على وجوه كومات لحم نائمة مبعثرة بعشوائية و يختلط فحيح أنفاسها الساخن ليخدش هيبة الصمت ، ثم تراجع خطوات قليلة وعلى الحصير تربع . اسند ظهره إلى الحائط المتسخ بالبقع والخرابيش ، و اخذ يصغي لنقرات الماء في الحمام ، و هسيس رشقاته المنسكبة على جسد زوجته ، ويحدق في السقف الموشوم ببيوت العناكب و الممهور بالهبو .
خرجت زوجته من الحمام و قد تدلى شعرها المبلول يقطر و يغطى وجهها المدّور ، ورائحة الشامبو الرخيص تفوح ، وقد لفت جسدها بفوطة كبيرة ، فطوقتها من أعلى صدرها إلى أسفل ركبتيها ، ما أن رأته حتى فلت من فمها رشقات الضحك الرنان المتبوع بغنج ، و أضاء وجهها مثل الشنبر .. فلم لا تضحك ؟ فكل شيء على ما يرام ، فنهار الخميس قد انقضى وجاء الليل ، هي ليلة الجمعة ، و الزوج زوجها و موجود أمامها بعظمه ، صحيح انه بلا أي شحم أو لحم و لكنه زوج والسلام .. و أكوام اللحم تغط في سبات عميق ، إذن كل الظروف مهيأة لهذا الوقت المنتظر من أسبوع على أحر من الجمر .. كانتظار الأرض العطشى لماء المطر .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة