هو الآن قريب من ثلاثينيات العمر، نضج إلى مستوى يستطيع به أن يعي كيف يتحرك العالم، و كيف هو واقع مجتمعه و كل الحروب الصغيرة والكبير التي تطحنه، لكنه لازال عاطفيا إلى درجة التطرف كما كان في طفولته، هي من أعادته إلى ذلك العمر، إلى تلك الابتسامة التي قتلته في المرة الأولى، و هاهي تصر على قتله مرة أخرى بعد كل هذه السنين، الآن لم يعد كما كان، ولن يستطيع أن يفعل ما كان يفعله حينها و أن ينتظرها بنفس الطريقة، لقد تغيرت أشياء كثيرة في حياته، أصبحت الأمور أكثر تعقيدا بالنسبة له، الآن حبيبته لم تكن تربطه بها فقط خمسة دقائق و ابتسامة، بل كانت أحلاما كبيرة خططا لها معا، وتفاصيل دقيقة عاشاها كل يوم، كانت بالنسبة له هي محور حياته، هي أيضا كانت تحبه إلى درجة أنها كانت تسميه حلما جميلا و مختلفا قد تحقق..
"وردة" ـ قصة : عــــبــد الـعــــزيــز اكــرام
اليوم كان غريبا...يحمل في ساعاته المتتالية احلاما حقيقية، ويرسم في الذاكرة قلبا نابضا يسمو بالروح الى عالم "افلاطون" حيث الاشياء المثالية. لم يعد هناك "ديكارت" ياعزيزي احمد!! ولى فولت معه كل تلك الشكوك الفانية، التي لا تسمن ولا تغني من جوع... التي لا تسمن ولا تغني من جوع!!
اليوم وانت تطير في سماء قلبها ودفء فؤادك يداعب جفنيها...تكتشف حقا انك موجود!! انك حي ترزق!! انك عائد لتوك من مدينة الاشباح بعد معركة دموية دارت بينك وبين العدم!! فكنت انت البطل فيها!! وها انت اليوم تصنع نصرك وتعانق وجودك!! ها انت الآن تحس بالحياة لأول مرة مع "وردة"، هذه الفتاة الفاسية التي طالما بحثت عنها فوجدتها...
احمد، هذا الشاب اليافع، الصادق الأمين، صاحب قلب عظيم ولكنه فقير!! يعود لتوه من كوكب الزمان بعد بحث طويل عن "الطفولة"
- "لم تعد هذه الطفولة تعني لي شيئا، سأطلقها فورا!! لأنه في احشائها عشت آلاما وجروحا لا تضمد". هكذا قال عندما ارتطمت عيناه بعيون وردة، هذه الفتاة التي طالما ذرف الدموع من اجلها.
رقصة ليلية بائسة ـ قصة : عبدالله محمد حجازي
انها المرة الأولى التي يلازمه الأرق فيها فلا يهدأ ، وتنصب الهواجس في خياله فتذرع بتبديد النوم من عينيه الغائرتين، كمن يحرث أرضا يابسة. وبوجوم حاد تفرس وجه زوجته وصغاره، تكسوه الخيبة، ثم انغرس في الغرفة التي أكلها السواد والعفن, وأخذ يقلب نظراته بقلق وحيرة، وفي منتصف الغرفة طاولة خشبية ثبت فوقها قدميه الهزيلتين كراقصٍ صوفي وأخذ يدور ويدور كالمجذوب، والمسافة بينه وبين السماء تتضاءل أو هكذا شعر، أحس بالتلاشي عن هذا الكون السحيق، وكأنما ألقى بنفسه في فلك سماوات سبع، يفتش عن الراحة ،أو عله يلقى الله فيخبره بتلك الآهات المدفونة في صدره من شدة الحزن الرابض فيه .
لعبة قدر ـ قصة : عبد الباسط بوشنتوف
-1-
أَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ كُلَّ صَبَاحٍ، عَلَى الحَصِيرِ الخَشِنِ المَصْنُوعِ مِنَ "الحَلْفَةْ"، وَتَحْتَ ضَوْءِ مِصْبَاحٍ خَافِتٍ، لَا يَكَادُ يُنِيرُ حَتَى وَ إِنْ مَسَتْهُ نَارُ جَهَنَّمَ " الحَمْرَاء"، أَقُولُهَا وَ أَنَا غَيْرُ مقتنع بها فما أدراني أن السعير حمراء ، أما كان لها أن تكون بيضاء مثلا أو قزحية كعين "الباتول" الجالسة هنا وراء حجاب، إزار أسود ما كان ليحجب عطرها البلدي الذي اشتهرت به بين بنات الحي، كانت هي أيضا تجلس بين يديه، و تقاسمني نفس الخوف من تلك العصا الطويلة التي لا تفارق يده، طويلة حد الوصول إلى "عبد القادر" الذي عُلِمَ مكانه هنالك خلف الجميع، يحضر دائما متأخرا يستند إلى السارية ذاتها، بجلبابه الصوفي المرقع ذاته، يدخل رأسه في " القب" ، مهتزا يمنة و يسرة ، يستجدي إغماضة عين، قبل أن تباغته العصا مخلفة أزيرا يقذف الرعب في قلوبنا الصغيرة، كنا نهابه وكان أهل القرية يحترمونه
- " نْخَافْ نَكْذَبْ تْقُولْ عْلِيهْ نَصْرَانِي وَاسْلَمْ" بهذه الكلمات كان الكثير يتحدث عنه، إلا والدي فكان كلما التقاه أفصحت عيناه عن كره شديد يحمله بين جوانحه له، لكن خلقه فرض على الكل احترامه، هو نقيض تلكم الصورة التي التقطتها أذهاننا عن إخوانه في "الحرفة".
وإذا الموؤودون... ـ قصة : حسن أردّة
لأنّ عدَدَنا كَانَ كَبيراً جدا فلم يكن "الأب" يهتم بتذكُّر وجوهنا في المناسبات التي نراه فيها على عربته المذهبة. في الواقع لم يكن ينظر إلى أيٍّ منا إلا نادرا، وإذا حدث فسوف يتخذه الابن المحظوظ عيدا وذكرى يفخر بها بيننا، وحين يقرّب إليه منا فردا لا نراه مرة أخرى أبدا. في سريرتنا نعلم انه يبادلنا نفس النفور، لعله أيضا شعور ممزوج بغيرة حاقدة: ففي الوقت الذي كنا نهرَم سريعا منتقلين إلى قوافل المنسيّين، لم نكن نعرف سر احتفاظه بفتوته حتى لَيراه الناظر شابا في مثل سنّي. ولكن أصحابه ـ الذين يبدون أكثر منه حيوية بالطبع ـ يتمادون في مدح قوته وقدرته وشبابه الممتد عبر الأجيال، خصوصا على مسامعنا. محض نفاق طبعا، ولكن فيه جانبا كبيرا من الصحة. فهذا الأب العجيب الذي يتفرد بين أصحابه بلباس متناقض تعلو فيه ربطة العنق على السروال التقليدي الفضفاض، هذا الأب الذي لم يكن يتورع عن وضع السبحة جانبا ليمسك سيجارة الحشيش من صديقة المقرب "فابيو" السمين، كان صلدا كالحجر ذا قوة سحرية تكمن في أساور يديه الذهبية التي ترتبط بجني غير مرئي كما كنا نعتقد!
وأهم ما كنا نعـرف انه يعرفه عنا هو شـدة كراهيتنا له وخوفنا القديـم منه.
عدا كل هذا يظل الله بعيدا، بعيدا جدا لدرجة أننا لم نكن نعرف هل يدري في عليائه ما يجري في بيتنا الجبلي الكبير ام لا.
في الطريق نحو الضريح المقدس ـ نص : د.ماجدة غضبان المشلب
ملمس الضباب كملمس جدار قاس....
قمته العالية تعوي بين صدغي.. ويقيم سرداقه مهترئا بين جفني.. حاشرا سكاكينه الحادة في وسادة دمع طافية تتسربل بحزنها حتى امتداد المدى المبتور الفضاء..
ظل النور يحتشد في بؤبؤين جزعين يصحوان على جلبة فقأ عيني اليمنى..
مستنقع مستوحش يغلي في المحجر المستلب لعطايا البصر.. يستحيل شيئا فشيئا لبركان يحصد حممه من قطيع أشلاء مجهولة الهوية..
بضع بحيرات في مستقر ما.. تفتقر لأرتعاش مويجات ماء.. قصور رمل تتهاوى تحت ضجيج الموج الدامي، وقدماي تشتهيانه أرضا تردي ارتعادهما القادم من حيث زُرع الطريق..
بصمات بنقوش مميزة تستقر على راحتيّ كفيّ وانا احاول التشبث بالجدار المهول الزلق..
أحفاد يوم الخلق ـ نص : د.ماجدة غضبان المشلب
بعد رحيلك الأخير ، لم أتحرك من مكاني ، و لم أحاول غلق الباب الذي تـُرك يترصد إبتعادك..
أشجار إعتلت آثار أقدامك ، و أبطلت بإخضرارها كل لون لم تألفه..
و غيوم أمطرت سماوات سبع غير التي ذكرتها الأساطير..
أراض سبع ركعت تحت سلطان صمتي..
برمشة عين من جفني سقطت قطرات أحلامك.. دون موسيقى المطر..
و بحركة من سبابة يدي سقطت أغصانك المعتمة في فصل خامس لا مكان له في سنة البشر..
الموشور الذي ورثته قد أفلح في تحليل الضوء الصادر من شرارتك الأخيرة..
يقال انه أفلح..
لم ألحظه بداية على جدران الغرفة..
أحفادي الصغار لمحوه ، و رسموه بأقلام كنت أجدها دون لون ، لولا انها غرست في دفاترهم ، و آستظلت تحتها حياتي الموشومة بألوانك المستعارة من إنقراضك الحتمي..
ما كان أشقانا بألوان قوس قزح..
صباح ومسا ! ـ نص : رامي ياسين
لا أعرف سرّكِ وربما لا أجيد كتمانه !
هكذا قال لنفسهِ قبل أن ينام، ولم ينم..
أصبح يرى وجهها في وجوهِ النّساء اللواتي لا يشبهنها، في وجهِ مذيعةِ التّلفاز، في وجهِ مقدمةِ الحفلِ الذي ذهبَ إليه ذلك المساء برفقةِ صديقه، في وجهِ امرأةٍ عابرةٍ في سوقِ الخضار.. يراها في كلّ الوجوهِ حينَ لا يستطيع أن يراها؛ ويبتسمُ!
يشتاقها ويشتاقُ مرور ابتسامتها كطيفٍ يشبهُ نسيمَ الخريفِ على بالهِ في لحظةٍ تشبهُ حالةَ نشوى تدومُ لثوانٍ: تلمعُ عيناه ويبتسمُ دون أن يريدَ ذلك.
هي تسلّلُ همسةٍ خفيفةِ الظلّ على روحهِ بأنها هنا، هي صوت هدل الحمام كما بداية الوجعِ اللذيذِ، هي انشغالاته المتكررة عن الأشياءِ المتراكمةِ عليه، هي تأخّر الوقت حين المجيء حيث يتوقف الزمن، وهي تأخرّه عن مواعيدهِ أيضاً.