رسالتي إليك يا بُني ربما تكونُ الأولى وفي ذاتِ الوقت الأخيرة، فلا أدري .. قد تسعفني الكلمات ولا يمهلني القدر، هل ســــ تقرأ كلماتي فتسمعها؟ أم تصم آذانك وتولي عنها مدبراً؟ اعلم يا صغيري أني أكتب لك الآن لتفهمَ بعد سنين، ولعلك حين تكبر لا تجدني بجوارك، فإن استوحشت طول الدرب وقلة السالكين فاذكرني، واعلم أن روحي معك تعينك وترقبك، فتسعد بطيبِ فِعالكَ، وتحزن لسوءِ مآلك، وثق يا بني أنكَ مشيئة الله في هذا الكون، فما كان في ذهننا أنك ستقبل على الدنيا، وكنا نتفادى مجيئك أنا وأمك قدر المستطاع، فقد عزمنا النية أن نكتفي بأختك لخمس سنين، ربما لرعايتها على الوجه الأفضل، وأن تأخذ حقها من الاهتمام كما حلمنا، لكن.. شاءت إرادة الله أن تأتي، فاستسلمنا لما ليس منه بد، وقلنا لعل الخير يكمن في غير إرادتنا، وليكن في فكرك أني كنت عن الزواج عازف، وما تزوجت إلا خشية أن يحاسبني الله على قدرتي أن أعفَّ مسلمة وتخاذلت، وكنتُ أفرُّ من أن أكون سبباً في قدوم أناس للحياة يعانون في بلدٍ همها وأد الحريات، وتكميم الأفواه، وسرقة الفقير والعطف على اللصوص والقتلة... وأنا الذي في قناعتي أن من يفر من الزواج وهو قادر عليه كمن يفر من الجهاد سواءً بسواءٍ، وأن الأرامل والعوانس هما حقيقة ذنوبُ البعض إن لم يكونا كبائرهم، وقلت في نفسي: لعل الله يرزقني بولدٍ يكون سبباً في دخول الجنة، فحين أكتب إليك فاسمع وكأني أحادثك، ولا تصم أذنيك حين أناديك وأنا في عالم الغيب، ففي مواطن الضعف كن قويا بالله ثم بي، وبدلاً من أن تكون بعض ذنوبي فزد في قليل حسناتي.
عودة ـ قصة : حسن لشهب
كل خطوة يخطوها في اتجاه الحرية تصبح عبارة عن جمرات تحرق قدميه... يلتصق الجلد الدامي بالأحجار، جوانبها المسننة تمزق لحمه، تفتح مسارات لسيلان الدم مدرارا...
مع كل خطوة فوق التراب ينتابه شعور بالارتياح... تختلط الدماء بالتراب فتغدو عجينا يلتصق بالجراح... يصبح مانعا لها من السيلان.
يتوسل لبقايا إرادة جريحة ويناجي نفسه، لا أريد أن أنسى... أريد أن أحيا لأتذكر...
لكأنه ساع لاسترداد شيء عزيز ضاع منه...
ويصر قائلا "مؤكد أنني لن أنسى"
لأكثر من عشرين سنة عاش أسيرا ، قضاها مع رفقاء حولهم السجانون إلى عبيد، تفننوا في إذلالهم وكسر عزيمتهم.
يجمع قبضة يديه بعزم ويواصل السير، "مؤكد أنني لن أنسى".
كانت الزنازين عبارة عن غرف طينية ضيقة وخانقة. تملؤها روائح البول والغائط، ونتانة أجساد متسخة؛ بل هياكل آدمية توشك على الهلاك جراء الهزال والجروح غير المندملة والقمل الذي يتغذى على ما تبقى فيها من حياة.
اغتــراب ـ نص : عبد الرحيم بيضون
انخطاف أن اكتب عن هذه اللحظة الشاذة التي انتقلت كالزئبق من بين يدي. فكيف لي أن أعطي اللحظة حقها و أنا لا امتلكها؟ هكذا اعترف بتيهي في امتلاك أويقات من هذا الزمن المارد، الذي صير الإنسان مجرد فرد منعزل داخل عالم من الأشياء، مدعيا أنه امتلك أخيرا صيغة عالمة المستقل بذاته. فما هذا الضبط الذاتي الآلي؟ و ما معنى هذه السيادة المتزايدة للأشياء التي أصبحت حقائق ضرورية إنسانية ؟!
إنه غثاء، إنه جنون تجاه هذا الزمن الذي ندفع فيه الثمن غاليا من أجل القليل من كرامتنا.
ففقر اللحظة يشعل أنواري بلفحاته، تاركا خلفه رماد سنين الكفر، تاركا خلفه دمارا على دمار على ذل و عار... فلما لا تكون خطوطي سرمدية، معانقة غموض اللحظة العبوسية؟ فهي غنية في اضطرابها، مرتبطة في قناعاتها، مدهشة في ارتعاشها. إنها حالة هوس مجسدة بواقعية ساحرة. إنها جنون ذو نفحات مهدمة لمنابع الحب و الأمل. فكيف لي محاورة اللحظة المهزوزة و طوماهوك يمطرنا؟ و الجفاف و الجوع يرتديننا و الأقمار الاصطناعية ترغمنا على الخنوع لهذا السيناريو الجديد بعد أن عاينت تحركاتنا.
المقامة السّلكيّة! ـ نص : د. جريس نعيم خوري*
الوحدةُ سياحةُ الذكرياتْ، تجوبُ فيها أروقةَ ما فاتْ، وتعرّجُ على غيمِ ما هو آتْ. فهي جلاءٌ للقلب وصفاءٌ للراسْ، ووقتٌ للمراجعةِ والحسابِ والقياسْ، ومعَ ذلكَ، يا أخي، إنْ طالتِ الوحدةُ صارتْ همَّا، وإن أزمنَتْ أعقبتْ حُمّى، لا تنقطعُ بغيرِ مُعاشرةِ الخِلّانْ، واحتساءِ القهوةِ في أقربِ ديوانْ، ويا حبّذا لو كان ديوانَ نسوانْ! فكلّ همّ لديك لا بدّ يذوبْ، وسْطَ امرأةٍ تُرغي وأخرى تَلوبْ، وثالثةٍ تنقلُ أخبارَ الحارَه، وما قالَه الجارُ للجارَه، ورابعةٍ تفتحُ لكَ الفنجانْ، (وتفتحُ معَه راسَك كمانْ!) تتفلُ فيهِ وتمسحُه بالبنانْ، وتُسمّي وتتأمّلُ كي يبانْ، حظُّك أو تعسُك بإذنِ الحَنّانْ:
- بختك يا بْنيّ مبخوتْ، ومكتوبْ عورقِ التوتْ!
- خير إن شاء الله يا أمّ شكري، ماذا ترَينَ أريحي فكري!
- شايف السمكِه؟! السمكِه برَكِه، رزقة في طريقها إليكْ، فافتح لها ساعديْكْ، وامددْ لها كفّيكْ، وتشبّث بكلتا يديكْ... قل ان شالله فيفرجَها الرحمنْ!
- إن شاء الله! (قلتُها وأنا يأسانْ! فعهدي بهذه المرأة، والظنّ من الشيطانْ، أنّها كلّما قالت: "رِزْقَه!"، فرغ الجَزدانْ!)
يَومُ فرحٍ ـ قصة : نجيبة الهمامي
نظرت فرح في المرآة العاكسة للسيارة، أنزلت النظارات الشمسيّة قليلا على أرنبة أنفها، تثبّتت بعض الشيء في عينيها وقالت:
-سأغيّرها... لم تعُد على الموضة... لونها لم يعد مميّزا... ربما لو تركت اللون الطبيعيّ لكانت النتيجة أفضل؟
أدارت وجهها يمينا ثمّ شمالا، أنزلته قليلا ثمّ رفعته قليلا. مرّرت يدها على رقبتها الصقيلة. سرّحت شعرها بأصابعها وقالت تحدّث نفسها:
- ماذا أفعل أيضا؟؟
فكان الردّ نعيقَ منبّهات وصراخَ سُوّاق خلفها يستحثّونها الانطلاق، فالإشارةُ الضوئيةُ خضراء وهي تسدّ عليهم الطريق. لوت فرحُ شفتيها، وسوّت وضع النظارات على عينيها، ولوّحت بيدها في الهواء بإشارات استمطرت تعليقات بذيئة ردّت عليها بأحسن منها، ثم ضغطت على دوّاسة البنزين بقوة فانطلقت السيارة كطلق ناريّ.
لم تكن ترومُ مكانا بعينه، فطافت كلّ شوارع العاصمة مرارا وتكرارا ثمّ قصدت ضواحيها البعيدة وحيدة: شربت قهوة وسيجارة فوق صخرة على شاطئ المرسى المهجور من عشّاق كانوا يمرّون به فيُودِعُون رملَه وموجَه ونسائمَه أثر خطواتهم وحرارة قُبَلهم ورقّة همساتهم. اجتازت مجموعاتِ عمّال حانقين مجتمعين أمام بعض النُّزل السياحية المقفلة بعد الثورة. تناولت عصير برتقال بمشرب على ضفاف وادي مجردة الهادِر وكأنّه ينذر بفيضان وشيك... الخ.
أهوار ـ نص : ماجدة غضبان المشلب
الطعام هنا لا يكفي ، و الماء يشح بإستمرار.. و الحر قاتل..
مشاجرة مع مخالب الفضاء قد تسببت في كسر جناحي ، و تناثر ريشي على اغصان شجرة برية مشوكة ، عدا جروح طفيفة في الجؤجؤ..
الساقية الضحلة التي يسمونها فخرا بالنهر.. أصابت خيال اللاغطين بعطب ما ، و غرقت في قعرها العاري كل آثار رحلاتنا نحو الشمال..
رغم انها ليست كل ما في الأرجاء ، فقد كررت الشموع المقدسة ذوبانها على سطحها الآسن ، و احتشدت آلاف الطيور عندها خاشعة..
بعض المخضرمين يعزفون عن الإصغاء الي ، و اليافعون يجدونني حمقاء ، ابدد وقتي في تطلع شاذ..
خسارتي لجناحي القوي و ريشي جعلتني محط سخرية كل طيور السبخة..
_ما تشرق الشمس الا لتقول انها قضت ليلتنا في مكان آخر يبتهج بضوئها..
دربُ الأماني! ـ قصة : عمر حمَّش
رمق شرخَ المرآة، وهو يسرّحُ بأصابعِه بقايا شعرِه، عدّل ياقتَه، ثمِّ غافل زوجتّه ...!
في الشارع عاودته الحياة، السيارات تعدو بكلّ الأصناف .. كهولا ، وصبيانا ، ونسوة .. يلقون بعيونهم، ثم يمضون .. الدربُ الطويلُ يتعرّجُ، ويعودُ يستقيم .. زمّ شفتيه، وأطلق صفيرا مترنّما .. يجبُ أن يحيا كما يشاء، ألا يعبأ بمتاعبِ العمر .. لن يكون مثل جارِه أبي حمزة .. ما الذي يجنيه أبو حمزة من صراعِه اليومي .. لا شيء سوى الفضائح .. صوتُ أمّ حمزة يجري من فوق الحيطان .. وأبو حمزة دوما يفرّ؛ يشهر للخلقِ باطني جيبيه الفارغين .. ويردُّ على صراخِها بصراخٍ : من أين أتي لكِ بالنقود!
أربع وعشرون ساعة ـ قصة : وئام روين
10 و30 دق (صباحا)
حركت شدقيها بعصبية ليدور الدم فيهما قبل أن تعيدهما إلى الوضعية الأولى. لترسم على شفتيها ابتسامة تتسع مع انفتاح الباب المقابل لها كل مرة. تستقبل الوافدين على الشركة تحييهم و تجيبهم عن أسئلتهم تهديهم نحو الوجهة الصحيحة لاعبة دور الدليل في ذاك المبنى.
11 و و 15دق (صباحا)
مر وقت طويل لم يلج فيه احد ذاك الباب فانتهزت الفرصة لتتجه نحو الحمام لتبلل وجهها ولتخلو إلى نفسها و ترتاح قليلا. دفعت الباب ببطء لتجد زميلاتها منتشرات أمام المرايا الأربع يعدلن من جمالهن. خرجت فلا مكان لها بينهن.
خرجت إلى الحديقة. كانت الشمس تقترب شيئا فشيئا من كبد السماء تبالغ في إرسال أشعتها. بحثت عن مكان ظليل في مقعد خشبي كان تحت شجرة توت وافرة الأوراق. لمحت "ادم" يدخن سيجارة غير بعيد منها. سرت رعشة في أوصالها. تزايدت دقات قلبها. كانت ستولي هاربة لولا سماعه يناديها.