شِعْرُ الرِّثَاء لَيْسَ تَجميعًا عشوائيًّا لِصِفَاتِ المَيِّتِ وخصائصِه وذِكرياتِه وأحلامِه ، أوْ حُزْنًا عابرًا سَرْعَان مَا يَذهَب إلى النِّسيان ، إنَّ شِعْر الرِّثَاء نظام إنساني مُتكامل ، تَندمج فيه رَمزيةُ اللغةِ معَ مركزيةِ الألمِ لِتَوليدِ فَلسفةٍ اجتماعية تُؤَسِّس لحالة تَوَازُن بَين حَتميةِ المَوْتِ ( الانطفاء ) ومَرجعيةِ الحُزْنِ ( الاشتعال ) ، حَيْث يَنبعث الحُزْنُ في التفاصيل اللغوية العميقة مِن أجْلِ تَجميدِ الزَّمَنِ ، وتَخليدِ المَيِّتِ . وإذا كانَ البُكَاءُ على المَيِّتِ لَن يُرجعه ، فإنَّ اللغةَ قادرة على إرجاع المَيِّتِ طَيْفًا حالمًا مُتَدَفِّقًا لا جسدًا ذابلًا مَحدودًا .

     والإنسانُ في الواقعِ الماديِّ المُغْلَقِ هُوَ كِيَان مِن لَحْمٍ ودَمٍ، مَصِيرُه إلى التُّرابِ ، ولكنَّ الإنسانَ في رَمزيةِ اللغةِ المفتوحةِ هُوَ تاريخ مِن بَريقٍ وفَضَاء ، مَصيرُه إلى الذاكرةِ . وهذه الذاكرةُ ضَوْءٌ يَتَفَجَّر في أقاصي الشُّعور وأعماقِ المَعنى .

     مَركزيةُ الألمِ في شِعْرِ الرِّثَاء لَيْسَتْ تَخليدًا للمَيِّتِ فَحَسْب ، بَلْ هي أيضًا تَجسيدٌ للوِجْدَانِ وَفْق صُوَر شِعْرية مُهَيِّجَة للمَشاعرِ والأحاسيسِ ، وإعادةُ تأويل للوُجود ، بِحَيْث تُصبح الأحداثُ اليوميةُ المُعاشة تفاعلاتٍ مُستمرة بَيْنَ الألمِ والحُلْمِ ، وانفعالاتٍ مُتواصلة بَيْنَ الحُزْنِ والرَّمْزِ ، وهذا يُؤَدِّي إلى كَشْفِ أسرارِ الحَيَاةِ ، ومَعرفةِ مَسَارِ الإنسانِ ومَصيرِه ، والوُصولِ إلى مَغْزَى الروابطِ الإنسانيةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية في عَالَمٍ مُتَغَيِّرٍ يَقُوم على التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّةِ والواقعية . ولا يُمكِن أن يَثْبُتَ الحُلْمُ إلا في الذاكرة ، ولا يُمكِن أن يصير الجَسَدُ طَيْفًا إلا في اللغة .

     والمَوْتُ يُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة ، فَتَصِير الكلماتُ شُعلةً مِنَ الحَنين ، الحنين إلى أزمنة سحيقة لا تَتَكَرَّر ، والحنين إلى أمكنة غابرة لا تَعُود ، وتَصِير المعاني مصابيح مِنَ الدَّمْع ، الدَّمْع النابع مِن التَّأمُّلِ في طبيعة الحياة الفانية ، والدَّمْع النابع مِن ماهيَّة المَوْتِ باعتباره الحقيقة الوحيدة في كَومةِ الأوهام التي تُمَزِّق رُوحَ الإنسانِ ، وتَستنزف جَسَدَه حتى الرَّمَقِ الأخير .

آه يا تونس الخضراء لقد مضى ربيعك سريعا خجولا تائها منهكا هرما وصار صيفا لهيبا حارقا يلفح أغصان ثورتك البريئة، هذا ما أرادت أن تبوح به رواية حرائق قرطاج للمبدع خير الدين جمعة من خلال مشهد سردي شامل لأحداث الثورة التونسية التي وقعت في العام 2011.

اعتمد الكاتب في بنائه لهذا المشهد الروائي على أسلوب السرد بالشخصية المتعددة  بالمعنى الذي ذهب إليه المفكر الفرنسي رولان بارط ، ويسمى أيضا أسلوب السرد بالضمير الأول؛ فقام بتقديم أحداث الرواية من خلال رؤية ومنظور شخصيات الرواية نفسها مستخدما ضمير المتكلم، ليكون السرد مباشرا وشخصيا عكس من خلاله آراء ومشاعر وتغيرات هذه الشخصيات النفسية والاجتماعية والفكرية، الأمر الذي يسمح للمتلقي بالتواصل والتفاعل العميق مع الشخصية، وفهم دوافعها وتحليلاتها الفكرية، والتأثر بها أيما تأثر؛ ليضفي مزيدا من الواقعية على أحداث الرواية.

استخدم الكاتب في روايته لغة شاعرية مترعة بالصور والتعبيرات البلاغية، وتنوع في أساليب السرد والوصف والحوار مع توسع ملحوظ للوصف والسرد ،  الأمر الذي أضفى المزيد من الحركية المناسبة للصراع بين شخوص الرواية والواقع المرير، والمزيد من الواقعية أيضا.

الشخصية الأولى: خليل بن خليفة (المال )

يصدق فيه قول الشاعر  الفلسطيني محمود درويش ( انتصرت، مجازا أقول خسرت، ويمتد وادي سحيق أمامي  ). خليل الانتهازي رمز لتلك الطبقة الثرية التي تتكيف مع كل الظروف لتحقيق مصالحها، وتعيد تشكيل نفسها وتغيير جلدها كالحرباء، وقد تكون هذه الفئة الأكثر تأثيرا في فشل المشهد الثوري التونسي برمته؛ لأنها تلدغ في العمق، وتسري كالسرطان في كل مجال من المجالات التي تمثل المجتمع ككل.

لم تظهر شخصية خليل في الرواية بهذه السلبية والسوداوية بشكل مفاجئ بل تطورت مع تطور الأحداث وتناميها؛ فقد نشأ خليل في أسرة  انتهازية محبة للمال والنساء، وكان قدوته في هذا خالد الأخ الأكبر له، وهو الذي أوصله بطريقة ما إلى سناء، وكان والده تاجرا بخيلا على ما يبدو على أبنائه، وعندما رفعوا عليه قضية الحجر على الأموال استغل خليل الفرصة جيدا وحصل على الثرورة كلها بحكم علاقته الجيدة بوالده، بعدما تعاون معه في تسليم رفاق الأمس للأمن  الداخلي و من ثمّ اعتقالهم و سجنهم  فترة توهج الثورة ، ثم انعزل عن  رفاق الثورة بالثروة  متلفعا بعاره .

يبدو أن التفكير في الأدب لا ينفصل عن الممارسة الأدبية نفسها، على الأقل حين تمر هذه الممارسة عبر الكتابة: إضافة إلى الثقافة الغربية، فإن كل الحضارات التي عرفت الكتابة، سواء أتعلق الأمر بالهند، أم الصين، أم اليابان، أم بالفضاء الثقافي الشاسع للأمة الإسلامية، قد أنتجت ثقافة محلية حول الإنتاجات الأدبية. صحيح أن طريقة التفكير التي طورها الغرب قد بدأت نتزع إلى استئصال أنماط التفكير المحلية، منذ القرن التاسع عشر، بموازاة مع التوسع السياسي والاقتصادي للحضارة الغربية: ولكن من المهم أيضا أن نؤكد على أن الحضارة الغربية لا تنفرد بالتفكير في اللغة، كما أن المفاهيم الوصفية والمنهجية المؤسسة لتقاليدها النقدية لا تشكل النمط الوحيد الوجيه للتفكير في الأدب.
ليس مجالنا هنا أن نقدم عرضا لتاريخ التفكير في الأدب عند الغربيين، والذي لم يتوقف عن مواكبة التطور الأدبي بأشكاله المختلفة ، منذ أرسطو وحتى خلال العصر الوسيط (خلافا للرأي الشائع)، (انظر كلوبش، 1980، هوغ ، 1985). سنقتصر هنا على التذكير ببعض الوقائع العامة التي يمكن أن تساعد على فهم أحسن للوضع الراهن.

النموذج الكلاسيكي
منذ العصور القديمة حتى نهاية القرن الثامن عشر عموما، مورس التفكير في الأدب أساسا وفق ثلاثة محاور، مع اختلاف في التأكيد على هذا العنصر أو ذاك باختلاف العصور:
1) الشعرية: والمقصود بذلك دراسة الوقائع الأدبية من زاوية الفن اللفظي. إن التفكير في فن الشعر الذي أسسه أرسطو كشكل خاص للدراسة، قد ظل حاضرا عبر العصور، رغم أنه سيفقد بسرعة استقلاليته التي منحها له صاحب كتاب فن الشعر، وسوف يتم احتواؤه من طرف البلاغة. واقتضى الحال أن ننتظر عصر النهضة، وإعادة اكتشاف نص أرسطو لكي تستعيد الشعرية استقلاليتها.
2) البلاغة: وتعني تحليل الخطابات ، وخاصة مجموع الوسائل المستخدمة لضمان التواصل الجيد. إنها مهارة تقنية مرتبطة بالحياة العمومية أولا ( يجب أن يتعلم المرء الوسائل اللسانية المناسبة للاستخدام من أجل تحقيق الهدف المقصود)، ومع ذلك فإنها تحمل في طياتها منذ البداية مكونا تحليليا ما دام اكتساب فن الخطابة يمر عبر دراسة النماذج الخطابية الجيدة. ولأسباب تاريخية ( ومنها على الخصوص تراجع الديمقراطية في العصور القديمة)، فإن النصوص الأدبية بحصر المعنى ( الأعمال التخييلية والشعر) ستحظى بمكانة متزايدة الأهمية على مستوى النماذج الخطابية التي تشكل موضوعا للنقاش. وفي نفس الوقت، فإن الخطاب الأدبي سيحتل مكانة مركزية بين الأجناس الخطابية المدروسة. وسوف يستمر هذا التطور خلال العصر المسيحي ليؤدي إلى إفقار حثيت وعنيف للبلاغة التي سيتم اختزالها تدريجيا لتقتصر على مشاكل البيان.
3) الهرمنوطيقا: والمقصود بها نظرية التأويل. ورغم اقتصارها في الأصل على النصوص المقدسة، فإنها تناولت أيضا منذ العصر الإسكندري المشكل الفقهي اللغوي المتعلق بتأسيس النصوص الآدبية الدنيوية. أضف إلى ذلك أن النصوص المقدسة في التقليد اليهودي والمسيحي تحمل مجموعة من القواسم البنيوية مع النصوص الدنيوية الترفيهية (نصوص سردية وشعرية): فبعض المشاكل الخاصة التي تتناولها هرمنوطيقا النصوص المقدسة تتدخل أيضا في فهم النصوص الأدبية بحصر المعنى، خاصة قضية الرمز والحكاية المجازية. وفي النهاية عوض النقد الفيلولوجي ابتداء من عصر النهضة بشكل متزايد هرمينوطيقا النصوص المقدسة، رغم اقتصارها في البداية على الأعمال المنتمية للعصور القديمة.
في دراسة كلاسيكية حول تقاليد النقد الغربي، ميز أبرامس ( 1953) بين أربعة ، وليس ثلاثة ، توجهات نقدية. حسب ما إذا كان الناقد يركز على الفنان المبدع، على العمل الإبداعي، على الواقع كما يعبر عنه هذا العمل أو كما يفهمه الجمهور المقصود بهذا العمل. لقد ميز أبرامس بين : النظريات التعبيرية، التي تحدد العمل الأدبي كتعبير عن ذاتية فنية؛ النظريات الموضوعية التي تحصر العمل الأدبي في بنيته النصية المحايثة؛ النظريات المحاكاتية التي تحدد هذا العمل في علاقته بالواقع الذي يمثله؛ وأخيرا النظريات التداولية التي تحلل العمل الأدبي من زاوية آثاره على المتلقي. تنتمي الشعرية طبعا للنظريات الموضوعية، وتنتمي البلاغة للنظريات التداولية. هذا صحيح على الأقل إذا التزمنا بالحدود الكلاسيكية لهذين المجالين المعرفيين، رغم أن هذه التحديدات قد تبدو إشكالية نظرا لصعوبة الفصل بين العوامل التركيبية والتداولية ضمن تحليل الخطاب. أما النظريات المحاكاتية فإنها تنتسب للقطب الهرمينوطيقي، إذا نظرنا إليها كنموذج مميز للتحليل الدلالي ( وهو عمليا تحليل من زاوية العناصر المرجعية). أما النظريات التعبيرية فلم تتطور بشكل فعال إلا مع العصر الرومانسي.

     قَصيدةُ النثرِ لَيْسَتْ فَوضى لُغويةً بلا وزن ولا قافية ، وإنَّما هي تَكثيفٌ وُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي، وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ للتَّجنيس، وكاسرةٍ للقوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّة مُسْبَقًا ، وتَوليدٌ للإيقاعِ الإبداعي في داخلِ الألفاظِ الوَهَّاجَةِ والتعابيرِ المُدْهِشَةِ . وهذه المَنظومةُ المُعَقَّدَةُ لُغَوِيًّا ، والمُرَكَّبَةُ شِعْرِيًّا ، تَهْدِف إلى اكتشافِ العناصر الفكرية المَقموعة في العلاقات الاجتماعية ، واستخراجِ القِيَمِ المَعرفية المَنْسِيَّة في التجارب الحياتية ، وابتكارِ أنظمة شِعْرية مُتَحَرِّرَة مِنَ قُيود المَواضيع المُسْتَهْلَكَةِ ، والخَصائصِ اللغوية الشَّكلية المُبْتَذَلَة التي فَقَدَتْ تأثيرَها بسبب كَثرة استعمالها .

     وقَصيدةُ النثرِ انعكاسٌ لِرُؤيةِ الشاعرِ للوُجودِ شَكْلًا ومَضمونًا ، وإعادةُ صِياغةٍ للقوانين الحاكمة على مصادر الإلهام الشِّعْري ، بِحَيْث تُصبح مُوسيقى اللغةِ نُقْطَةَ التوازنِ بَيْنَ وُضُوحِ الألفاظِ المُتدفقةِ أفقيًّا وعموديًّا ، وبَيْنَ غُموضِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُتَفَجِّرَة وَعْيًا وإدراكًا ، وتُصبح العلاقةُ بَيْنَ الألفاظِ والمَعَاني تَجديدًا مُستمرًّا للعلاقةِ بَيْنَ الشاعرِ ونَفْسِه مِن جِهة ، وبَيْن الشاعرِ ونَصِّهِ مِن جِهةٍ أُخْرَى ، باعتبار أنَّ الشاعرَ هُوَ الرُّوحُ الساكنةُ في جَسَدِ اللغةِ ، والتَّجسيدُ الحقيقي لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع .

     وإذا كانَ الإبداعُ الشِّعْرِي سُلطةً مركزية قائمة بذاتها ، فَإنَّ قصيدةَ النثر هُوِيَّةٌ رمزية مُستقلة بِنَفْسِهَا ، واندماجُ السُّلطةِ معَ الهُوِيَّةِ في النَّسَقِ الشِّعْرِي الذي يَتَوَالَد مِن نَفْسِه يَجْعَل زَمَنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ كائنًا حَيًّا قادرًا على استلهامِ التُّراثِ وتجاوزِه ، ويَجْعَل رُوحَ اللغةِ كِيَانًا حُرًّا قادرًا على صَهْرِ المَاضِي والحاضرِ في بَوْتَقَةِ المُسْتَقْبَلِ . وهذا يَعْنِي انفتاحَ الزَّمَنِ في العلاقاتِ اللغويةِ بشكل مُطْلَق ، مِمَّا يُولِّد وَعْيًا شِعْرِيًّا خَاصًّا بِتَحليلِ عَناصرِ الواقعِ ، وتَغييرِ زَوَايا الرُّؤيةِ لتفاصيل الحياة .

     وكُلَّمَا وَسَّعَت اللغةُ حُدودَ الزمنِ دَاخِلَ الهُوِيَّةِ الرَّمزيةِ والتُّراثِ المَعرفيِّ والذاتِ الإنسانية، اتَّسَعَ الوَعْيُ الشِّعْري للتجاربِ الحياتية إنسانيًّا وإبداعيًّا ، وهذا الاتِّسَاعُ سَيُصبح معَ مُرور الوقت تاريخًا جديدًا لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع ، ومُتَجَدِّدًا في مُوسيقى اللغةِ ، ومُسْتَقِرًّا في مَصادرِ الإلهامِ الشِّعْرِيِّ ، ومُكْتَفِيًا بِذاته مَعْنًى ومَبْنًى . وإذا كانَ التاريخُ لا يَنفصل عَن الوَعْي ، فَإنَّ اللغة لا تَنفصل عَن الحُلْمِ . وهذا الترابطُ بَين هذه التراكيب الوُجودية سَيُكَوِّن فَضَاءاتٍ جديدة لقصيدة النثر .

للمواضيع والقضايا منطقها الذي تستمد منه فعلها، فتجعلنا نرشف بقوة إيحاءاتها، هذا ما يمكن قوله حول " الموت في لندن " للقاص المتميز " مأمون أحمد مصطفى "، التي تمتد على مساحة أرضية ساخنة تتراوح بين " أفعى من نوع آخر " وحتى يوم من أيام المخيم، الصادرة عن دار كنعان للدراسات والنشر " عام 2010، والتي حملت في مجملها إشارات ودلالات حميمة مثقلة بالمعاني التي أبرزها القلق، والوجع، ولذعة الاغتراب متكئة على وصف دقيق مشحون برصد أدق يعانق الأفق الغوغولي بشكل واضح، وما يعنيه جدل الأسئلة المبطنة المطروحة بلغة رشيقة دون رطانة، عوضت غياب الوطن، والبعد الإبعاد عنه بإعادة المعنى المشرق إليه، وان كان الفاعل في جملة النصوص افتقد الإحساس المادي بالمواطنة، رغم امتلاكه لرمزيتها التي حملت العديد من الوخزات، والشحن المتمكن وان كان بدون ادلجة.
منذ البداية تتداخل الصور والإشارات في قصته " أفعى من نوع آخر "التقليديه التي اجتاحت النص بقوة، وأيضا حالة الحلم التي استحضرت حنان الأم ووجعها كرائحة نافذة، لذيذة تتناقض مع أي رائحة.
" تنشق رائحة غير رائحة ملابسها، غير رائحة عرقها، غير رائحة أمومتها المعهودة، رائحة تفوح من مساماتها لأول مرة، مميزة، ذات نكهة خاصة، لم يستطع أن يحدد نكهتها بادئ الأمر، لكن لحظة أن هوت البندقية على رأسه، انتشرت الرائحة لتغطيه كله، رائحة تراب معذب، يضخ شوقا" ص8.
هذا التوحد الصوفي بين الأم الحلم الوطن عوض القاص فقدانه المادي باللغة، وإعادة المعنى إلى موطنه، وهي في بعض جوانبها تلتقي مع قصة " ولادة " التي تعبر عن تصدي الجسد المغلول للفاشية الصهيونية التي تلبس ما هو أسوأ من محاكم تفتيش القرون الوسطى، والتي لا يسفهها سوى صمود الأم الأرض الشجرة التي رغم العذاب لم ولن تنكسر.
" أنت لا تريدين أن تريهم انكسارك وتلهفك، وهذا أروع ما فيك هذه الليلة، كابري ما استطعت، اضربيهم بسياط صبرك، ودعي الألم يدمي قلبك دون أن يروه " ص 110- 111.
وإذا كان القاص دخل عمق ملامح علاقة الأشياء بأشيائها كمصطلح ابستمولوجي متميز جعل " النصية " في قصة " المدينة " ملاذا ينفي عن البطل الفرد المجموع الحلم شعور الاغتراب، فهو يقدم مسروديته حينما يبرز في إحساسه بالوطن المستلب مستوى من الإحباط.

"لا يبقى العالم كما كان بعد أن تُضاف إليه قصيدة جيدة"
 ديلان توماس
من عليائه الشعرُ تنزَّل، فارداً جناحيه على امتداد الفضاء ووُسْع المدى، يعلوه الجمال والكمال والجلال والبهاء، يغسل وجه الوجود، ويُحيي موات الموجودات، يحضن الحائرين والعاشقين والمعذّبين والسائرين نحو الجمال. كُتِب بماء الذهب، وعُلّق على جدار الكعبة تكريماً واحتفاءً وتقديساً، فكانَ بدايةً للكلام والحكمة، وكان ديوان الإنسان والقبيلة، وحامل أخبارهم وأسرارهم وقصصهم ورحلاتهم وحروبهم. دوّن الأخلاق العربية، الكرم والوفاء، الشجاعة والإقدام، الانتماء للأرض وللديار، الحب والحسب، البيداء وصفاء الفضاء مع رحابته..

تغيَّر الظرف، وجاء الإسلام بنوره ليضيف قيماً ويلغي أخرى، ويفتح للشعر آفاقا جديدة حيث ارتبط بالدعوة الإسلامية، فانخرط شاهراً كلمته، منافحاً عنها بالكلمة، ومسجّلاً فتوحاته وغزواته وآثاره قصائد. وتتعاقب العصور تَتْرى، يلاحق بعضها بعضاً، والشعر يسير جنبها خاضعاً للتغييرات التي يأتي بها كل عصر، ففي العصر الأموي ظهرت الخلافات السياسية والقبلية والمذهبية، وتحيَّز الشعر إلى الجماعات ينشُر أفكارها ويدافع عنها، ولبس لكل موقف وجماعة لباسها، وتنقَّل بين الفخر والوصف، وبين المدح والهجاء أو خاض في الغزل والخمريات والنقائض..

ثم أضحى عبّاسياً حين انفتح على الثقافات الأجنبية التي وسَّعت مجالاته وآفاقه، فجدَّد ألفاظه، ومال إلى المُحسّنات البديعية والألفاظ الجديدة تبعاً لتطور الحياة، فجاء الشعر رقيقاً في النَّسْج، ودقيقاً في التصوير، ومُزخْرفاً في اللفظ، ومتيناً في الصّنْعة..

وحين هبَّت رياحُ الأندلس، أصبح للشعر طعمٌ جديد وميزانٌ، وأحاطتْ به أَلْسُنٌ تنوّعتْ بين اللاتيني والقوطي والبربري والعبري، نما وتجمَّل حِسُّه وهو يصغي للآذان يصدح من المآذن، وللأجراس تدقّ في تناغم جميل. ازدان حَرْفه حين وصف المنتزهات والعمارة وانساب موشّحاتٍ وموسيقى وغناء..

ثم امتد إلى العهد العثماني حيث تدهورت الأوضاع ولم يتدهور الشعر، لأنه لسان الزمان والوقت، فنشأ البديع والتصوف والمديح والمراثي والملاحم.. ليصل إلينا مُزهِراً، جمع حول محرابه منَ العاشقين والحالمين والغاضبين والسّائرين نحو الحق والحب والجمال، يؤوبون إليه حِصنا حين تشتدُّ الأزمات، وتنقبِضُ دوائر التّوحُّش والقُبح على الإنسان، أو حين يرتاح القلبُ على أعتاب الجمال، فتتَّسعُ رؤاه، فيفرد جناحيه طائرا مُحلّقا مُنْشداً ركنا قويا ينسُج سر الكلام والبوح، أو يَسْرحُ حرّاً في فضاءات لا نهائية لوجودٍ يتّسعُ كلما اتّسع للحرف الكلام، شعراً حرّاً أو نثراً ينقل معاناة وغضب الإنسان، والسير به ومعه على صهوة السِّحر والجمال والدهشة مرة، والغضب والصراخ والمواجهة مرات أخرى..

"كل شيء يسيرُ وفق التداعيات، فكل ذكرى تستدعي الأخرى؛ وصورةُ شيءٍ تجذب إليها صورةً أخرى، عندما تقوم بين الطرفين علاقةُ تَشابُهٍ وتَعارُضٍ أو تَجاوُر."
(أرسطو)

أولا: من الذاكرة إلى الكتابة:

تُمَثل الذاكرة في كتابات عددٍ من الأدباء مادة خصبة للكتابة، حين يستنطقونها، ويسترجعون ما تسعفهم به من أحداث ووقائع، وما تمدهم به من مشاعر وأفكار. "فالذاكرة، عندما نحاول استعادتها، تصبح عنصرا أساسيا في الإبداع، تولّد الأفكار والإيحاءات، وتعمّق المشاعر."(1) إنها بهذا المفهوم لا تستطيع مبارحة وضعها الثابت والمحجوب، نحو صيغة مكشوفة ومقروءة، إلا بوساطة الكتابة التي تجعلها متاحة للقراء، ومشاعة على الورق لمن شاء الاطلاع عليها. وتقتصر الكتابة هنا على مفهوم التدوين الحرفي وحده، بعيدا عن أنواع أخرى من الكتابة التي عدَّدها جاك دريدا، كالكتابة التصويرية، والموسيقية، والنحتية... والعسكرية، والسياسية، بل وكتابة ألعاب قوى...(2) إن الكتابة بالمفهوم الذي أشرنا إليه تغدو وسيلة ناجعة لإخراج الذاكرة من جمودها، فتنفُث فيها روح الحياة، وتجعلها مِلكية مشتركة بين الجميع، تنقل إليهم ما كان مستترا، ومتخفّيا في باطنٍ مُغلَق لا يستطيع الفكاك من إساره.

ومنذ القديم كانت الكتابة أداةً لنقل المعرفة، ونشرها بين مختلف الأقوام والشعوب، ووسيلةً لحفظ التراث الإنساني من الضياع والتلَف. بل إن أفلاطون اعتبرها علاجا للذاكرة، إذ باكتشافها تم اكتشاف "سر الحكمة والذاكرة."(3) ولعل السائد بين الجميع، الآن، أن إحدى وسائل صيانة الذاكرة، إن لم تكن أوْكَدَها، هي توثيقها حرفيا، فلن يكون للذاكرة من ترياق إلا الكتابة.(4) فكم من تراث غير مادي اندثر وتلاشى بموت أصحابه، لأن الحظ لم يُسعفهم بتدوين ما اشتملت عليه ذاكراتهم من ثروة معرفية، وتاريخية، وإنسانية أُقبِرت معهم بموتهم!

ولا غرو أن تكون الكتابة كذلك بمثابة نوع من التطهير (الكاثارسيس)، يسمح بالتخلص من مجموعة من الشحنات التي ظلت حبيسة الذاكرة، فلا يَتِمُّ نفثها بشكل سليم وإيجابي إلا بفضل الكتابة. وهذه الأخيرة تصبح ذات معنى، وتحمل نصيبا من الدقة والصدقية أكثر مما يُتيحه مجرد الكلام؛ لأن "المرء يؤدي مشاعره عندما يتكلم، وأفكاره عندما يكتب، فهو عند الكتابة ملزَم بأن يَحمل كل الألفاظ على معناها العام، ولكن الذي يتكلم يُنوِّع من الدلالات بواسطة النبرات ويُعيِّنُها مثلما يحلو له..."(5) وهذا التمييز بين الكلام في مستواه الأدائي، واللغة في مستواها الخَطي يمنح للكتابة صفة مُعقَّدة، تُلزِم الكاتب باختيار ألفاظه بكثير من الدقة والتركيز،  وتمحيص الأفكار التي ينتقيها بعناية، والغوص على المعاني في مظانها البعيدة؛ لأن الكتابة، على العكس من الكلام، مجرّدة من التنغيم والنبر اللذين يُمكِّنان المتكلم من توصيل كلامه، مستعينا بالإضافة إليهما، بالحركة، والانفعال، والإشارات، والتعبيرات الجسدية الموازية التي لا تتأتّى للكتابة.

"وأمّا منْ أراد التّمهر في أقسام الشّعر ومختاره وأفانين التّصرف في محاسنه فلينظر في كتاب قدامة ابن جعفر في نقد الشّعر وفي كتب أبي علي الحاتمي ففيهما كفايةُ الكفاية والتّوسع والإيعاب لهذا المعنى"[1]ابن حزم.

"وبهذا الّذي ذكرناه في هذا الكتاب يُعْرَفُ التّفاضُلُ في البلاغة والفصاحة، وهو قَدْرٌ كافٍ في فهم ذلك في كتاب الله وسُنَّةِ نَبيِّه وفي الْمُخاطَباتِ كُلِّها، لم يَشذَّ منه إلاّ ما هو من موضوع صناعة الْعَروضِ وصناعة القوافي وبَعض ما يختصّ بالشّعر من حيث هو شِعْر. وأمّا ما هو مِنْ موضوع صناعة البديع والبلاغة ولم يختص به الشّعر من حيث هو شعر فلا"[2]ابن البناء

فاتحة

   هذا هو المقال الثّالث المخصّص لمناقشة كلام محمد العمري حول كتاب "المفتاح"؛ وقد تتبّعنا في الأوّل ما اعتبره "كشفاً واستخراجاً!" لـبنية هذا الكتاب ونسقه في "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"[3] فظهر أنّ آراءه وأحكامُه تقع بعيدا عن عمل السّكاكي، وَتَرِدُ في كلامٍ عام متفاوتٍ ومتحلِّل من مستلزمات العلميّة على مستوى النّظر والمنهج والتّعبير؛ وتتبّعنا في الثّاني ما قاله عنه في كتاب "المحاضرة والمناظرة، في تأسيس البلاغة العامة"، فكان أن اطّلعنا على إمعان العمري في التّحلُّل من تلك المستلزمات إمعاناً انجرف به إلى الإتيان بأكثر ممّا أتي به في الكتاب الأوّل من آراء وأحكام لم يجد سبيلا إلى تبريرها غير التّحايل والتعسّف! وقد أوضحنا بعض ذلك بوقوفنا عند "بيانـ"ـه لتحويل السّكاكي لمسار البلاغة وأخذِه لروحها. وإذا كنّا في ما سبق من مقالات عن كتاب "المحاضرة والمناظرة" قد التزمنا بالسّير مع العمري "خطوة خطوة"، فإنّنا سنُخالف ذلك في المقال الحالي، لأنّ كلام العمري عن السّكاكي في الصّفحات 18 و19 و20 سائبٌ يجمع إلى تكرار ادّعاء إقصاء السّكاكي للسّؤال الشّعري وما يرتبط به من تعجيب وتغريب وتوهيم ومخادعة وغرابة! ثرثرة حول كون صاحب المفتاح ليس ملوما، وأنّ كتابه ينبغي أن يفهم بالرّجوع إلى ابن المقفع وابن وهب وأنّ المسؤول عن المشكلة هم من "استخصوا من مفتاحه ما يهمهم".. لهذا سنكتفي بفرز ما يُمكن أنْ يعتبر نقدا لكتاب المفتاح ممّا نرتّبه في الفقرات التّالية:

1.    عدد صفحات «علم المعاني» في المفتاح دليلٌ على هيمنة النّحو واختزال الشّعر:

   يورد محمد العمري الجدول التّالي الّذي يبيّن أنّ "علم المعاني يحتلّ في خريطة مفتاح العلوم مساحة تضاعف مساحة كل فصل من الكتاب على حدة":

ع. الصرف

ع. النّحو

ع. المعاني

ع. البيان

ع. البديع

ع. الاستدلال

ع. الشّعر

63

10-72

88

73-160

168

161-327

86

329-414

10

423-432

72

433-514

62

515-577