تجتاح العالم كل لحظة أكاذيب من النوع الذي يسميه جون. ج. ميرشيمر " الكذبات الاستراتيجية"، أي صيغ التلفيق و التصريحات الخادعة و المتحررة من كل قيد أخلاقي، والتي يضطر الساسة و الزعماء لاقترافها حرصا على المصلحة، وتجاوبا مع عالم مليء بالمخاطر. و لا يمكن تفسير أي حدث سياسي دولي بمعزل عن التفكير في الكذب ومبرراته المنطقية، ومنافعه المحتملة التي تحمل السياسي على ارتكابه، إن على مستوى الشأن المحلي للبلد أو على مستوى السياسة الخارجية.
إن قلة الأبحاث العلمية التي تعالج بوضوح مسألة الكذب في السياسة الدولية، وترصد تكاليفه وتأثيراته على العلاقات الدولية كانت حافزا لجون ميرشيمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، وأحد ألمع الباحثين الأمريكيين في السياسة الخارجية، لإصدار كتاب يقترح من خلاله أطرا تحليلية توفر أطروحة نظرية عن الكذب في الإطار الدولي، وتُعرف بقائمة الأكاذيب التي تساير التقلبات الدولية، لكنها لا تخلو من ضرر وأثر سلبي على الجبهة الداخلية.
من المؤكد أن الكذب عمل مشين في الحياة اليومية، ولا يقبل أحد أن يوصف بأنه كاذب. لكنه في الحقيقة سلوك مقبول في السياسة الدولية مادامت الذريعة دوما متصلة بالمصلحة الوطنية وحماية البلد. لذا يجد الساسة أنفسهم مطمئنين إلى أن الشعوب لن تعاقبهم بسبب خداعهم ،مالم تنتج عن أفعالهم عواقب وخيمة. وهنا ينتصب الفرق واضحا بين الكذب المحلي الذي لا يشجع عليه المجتمع، بل ويحاربه، وبين الكذب الدولي الذي يجري توظيفه كأداة استراتيجية للحفاظ على البلد. و في ظل سياسة دولية قاسية تفتقد لسلطة يمكن اللجوء إليها في حال التعرض لتهديد حقيقي، يضطر القادة للتجاوب مع منطق "ساعد نفسك بنفسك"، مما يفتح الباب واسعا أمام ألوان الكذب و الغش. و لا يعني هذا، يقول ميرشيمر، إنكار أن كثيرا من القادة يفضلون حلبة دولية محكومة بمبادئ أخلاقية، لكنه يظل أمرا غير واقعي في غياب بنية سيادية تتولى فرض تلك المبادئ.(1)
يندرج الكذب و التلفيق و التكتم ضمن عنوان أشمل هو الخداع، أي تبني خطوات متعمدة لمنع الآخرين من الوصول إلى الحقيقة ومعرفتها. و بينما يتضمن الكذب تأليف أخبار مزيفة، أو إنكار ما هو صحيح منها، فإن التلفيق، رغم ضبابية التمييز بينهما، يقوم على عرض الحقائق ضمن ترتيب معين يخدم مصلحة شخصية. بمعنى أنه ليس كذبا وإنما مبالغة تركز على جوانب معينة وتتجاهل أخرى. أما التكتم فمرتبط بحبس وإخفاء الحقائق التي لا يخدم إظهارها موقف الفرد. وعادة ما يفضل القادة التلفيق و التكتم عل الكذب الصريح، لكونهما أقرب إلى الاقتصاد في قول الحقائق من إطلاق المزاعم الباطلة.
يحدد ميرشيمر خمسة أنواع من الأكاذيب يجري اختلاقها في أروقة السياسة الدولية، و تحظى بقيمة استراتيجية لكونها تروم تحقيق المصلحة العامة. وتشمل كلا من "الأكاذيب بين الدول"، و "أسلوب إثارة الذعر"، و"التغطيات الاستراتيجية"، و "الأساطير القومية"، ثم "الأكاذيب الليبرالية". ورغم صعوبة الحصول على أمثلة يكذب فيها القادة و الدبلوماسيون بعضهم على بعض، لكونها تظل في الغالب مُحكمة الإخفاء على من هم خارج منظومة صنع القرار، إلا أن الكاتب يميل إلى الاعتقاد بأن ممارسة الكذب بين الدول ليست أمرا اعتياديا بالنظر إلى تكلفته التي تتجاوز الفوائد أحيانا، و إلى المخاطرة العالية التي قد تلحق ضررا بمنسوب الثقة المفترضة بين الدول. أما حين يتعلق الأمر بالحق في البقاء و حماية المصالح الاستراتيجية فإن الكذب يصبح جزءا من منظومة الطرق الملتوية التي تكفل حماية الأوطان. موقف تعبر عنه بوضوح مقولة إسحاق شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق: من أجل إسرائيل يجوز الكذب!
يعود الدافع لتبادل الكذب بين القادة إلى محاولة كسب تفوق استراتيجي، وتوفير حماية ذاتية. فتحت بعض الظروف، يقول الإعلامي الأمريكي جودي باول، ليس للدولة الحق في أن تكذب فقط، بل يصبح الكذب واجبا إيجابيا. وضمن قائمة طويلة من الأكاذيب الدولية ينتقي ميرشيمر نماذج يعتبرها الأكثر رواجا، ومن بينها:
● المبالغة في تصوير قدرات الدولة لردع العدو وإخضاعه، كما فعل هتلر بشأن قدرات جيشه إبان الحرب العالمية الثانية، حيث بالغ في تضخيم قوة الدفاع الألمانية ( فيرماخت) للحؤول دون إعاقة بريطانيا وفرنسا لمحاولته إعادة تسليح بلده .
● التقليل من قدرات الجيش أو من فعالية سلاح حربي معين، تفاديا لأي استفزاز يؤدي إلى تدمير لتلك القدرات أو وقف تطوير السلاح. وهو الأسلوب الذي اعتمدته بريطانيا في الحرب العالمية الثانية عند اختراعها للدبابة، حيث أطلقت سلسلة شائعات موجهة للألمان، مفادها أن الاختراع ليس سوى صهريج لنقل المياه للخطوط الأمامية، وأن المصنع الذي يتولى إنتاجه ليس من اختصاصه الصناعة الحربية.
● التأثير في نشاط دولة أخرى منافسة، ودفعها للقيام بأمر لم تكن ترغب القيام به. تماما كما فعل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان عام 1986 ، حين أثارت مخاوفه نوايا إرهابية للعقيد الليبي معمر القذافي، فنشر البيت الأبيض تقارير كاذبة عن قصف أمريكي وشيك لليبيا، وربما انقلاب عسكري يقصيه من الحكم. تهديد أخذه القذافي على محمل الجد فتخلى عن دعمه للإرهاب .
● المبالغة في الإمكانات الحربية لدولة منافسة لحث الحلفاء على التدخل، وتبرير ضربة استباقية. وقد لجأت حكومة بوش إلى هذا النوع من الكذب لحمل الصين و اليابان وكوريا الجنوبية على اتخاذ موقف متشدد من كوريا الشمالية، حين بعثت بموظفين أمريكيين من مجلس الأمن الوطني في العام 2005 للادعاء بأن كوريا الشمالية زودت ليبيا بمادة اليورانيوم، بينما كان المزود الحقيقي هو باكستان.
● الكذب للخروج بأفضل النتائج أثناء التفاوض أو عقد اتفاقيات و معاهدات رسمية. ولهذا النوع أمثلة عديدة منها: حظر السلاح، و مفاوضات وقف الحرب، و التعاملات التجارية و غيرها. حتى صارت قوة التفاوض، برأي توماس شيلينغ الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، هي القوة في الخداع و التمويه.
إن نزعة الكذب هذه تقود بالأساس إلى الشعور بعدم الاطمئنان، خاصة بين الدول التي تعيش في مناطق نزاع، وتشعر دائما أنها معرضة للخطر. لكن ذلك لا يمنع تمرير نوع من الكذب اليسير حتى بين الدول الصديقة. كذب تمليه المصلحة الاستراتيجية التي يؤمن واضعوها ومخططوها بأن لاوجود لتحالفات دائمة.
الصنف الثاني من الأكاذيب هو استخدام أسلوب إثارة الذعر، و الذي يتضح جوهره في التصريح الشهير لكمال أتاتورك :" من أجل الشعب، رغما عن الشعب ". و يهدف في العادة إلى إثارة حالة من الخوف عن طريق تضخيم تهديد موجود فعلا لكنه محدود الأثر، سعيا وراء سند شعبي للزيادة في الإنفاق العسكري، أو دعم التجنيد الإجباري. ولهذه الاستراتيجية يرجع الفضل في جر الشعب الأمريكي المتردد وغير المتحمس للحرب إلى المصادقة على التدخل العسكري الأمريكي في شتى أنحاء العالم طوال سبعين سنة الماضية؛ فقد مكنت روزفلت من ذريعة مناسبة للمشاركة في الحرب العالمية الثانية، وهيأت لليندون جونسون تفويضا مطلقا لشن الحرب على فيتنام الشمالية، بل وأتاحت للرئيس بوش التغلب على حالة الممانعة القوية لغزو العراق سنة 2003. لكن يظل هذا الأسلوب غير ديموقراطي لكونه يعتمد الخديعة طريقة وحيدة لتحريك الشعب، وإثارة حماسه إزاء مخاطر غير واضحة. وأحيانا جره للموافقة على قرارات لن يقبل بها في الأحوال العادية. غير أن حملات الذعر السيكولوجية لا تنطلي على النخبة من المتعلمين المتمردين، والقادرين على تقدير الحقائق وتقييمها، مما يسيئ لاحقا إلى المؤسسات الديموقراطية، ويقود إلى كوارث إنسانية كما حدث في العراق و فيتنام .
يتمحور الصنف الثالث من الأكاذيب حول التغطيات الاستراتيجية. وهي أسلوب يعتمده القادة إما للتستر على سياسة تعرضت للفشل الذريع، أو لإخفاء استراتيجية جيدة قد تثير الجدل، وتواجَه برفض جماهيري. والغاية من ذلك هي إخفاء نقاط الضعف عن العدو، وتجنب قلاقل داخلية قد تسهم في تقويض الوحدة الوطنية.
في الرابع عشر من أكتوبر سنة 1953 انطلقت فرقة كوماندوز تحت إمرة الميجر آرييل شارون، و بأمر من القيادة للمركزية للجيش الإسرائيلي، لتنفيذ مذبحة بقرية "قبية" في الضفة الغربية، حيث لقي تسعة وستون فلسطينيا مصرعهم ردا على مقتل امرأة إسرائيلية وطفليها. أثار هذا التصرف ضجة عالمية بما في ذلك أوساط الجالية اليهودية بأمريكا، إذ اعتبر الباحثون أن المذبحة الرهيبة مثال للقسوة غير المسبوقة في تاريخ إسرائيل القصير، وتعرضت الحكومة الإسرائيلية جراء ذلك لهجوم كبير ومشاكل جمة على المستوى الداخلي، فضلا عن الأضرار التي لحقت سمعتها الدولية.
لم يجد رئيس الوزراء آنذاك، ديفيد بن غوريون، سوى التغطية الاستراتيجية على الحدث عبر توجيه اللوم للمستوطنين في الحدود اليهودية، و الادعاء بأن التحقيق في المجزرة أثبت عدم تواجد أية وحدة عسكرية في قواعدها ليلة الهجوم !
يعمد القادة إلى التغطية الاستراتيجية فيما يرون أنه يخدم المصلحة الوطنية. وعادة ما تكون الدولة آنذاك في إحدى الحالات التالية: إما التماس جغرافيا مع منطقة مشتعلة، أو التورط في أزمة، أو التواجد في حالة حرب، أو حتى التعامل مع منافس. و النقطة الجوهرية هنا هي أن احتمال اللجوء إلى التغطية الاستراتيجية تحكمه نفس الملابسات التي تدفع الدول للكذب بعضها على بعض.
مع ظهور القومية الوطنية في القرنين الماضيين تخللت عملية بناء الدولة القومية أساطير مقدسة عن الماضي، تصور كل عرقية بشكل أفضل، بينما تضع الخصوم في صورة سلبية. و تطلب اختراع تلك الأساطير اتساع نطاق الكذب، سواء بشأن الوقائع التاريخية، أو تبرير بعض الأحداث السياسية المعاصرة. هكذا أصبحت الأساطير القومية كذبة ضرورية، تشكل برأي المنظر السياسي الفرنسي إرنست رينان عنصرا مهما في بناء الدولة.
تتولى النخبة المسيطرة على مسارات التفكير في كل دولة قومية مهمة اختلاق الأساطير لتحقيق مطلبين أساسيين هما ترسيخ التضامن الاجتماعي، وخلق شعور قوي بالوطنية، يستدعي الإحساس بالانتماء وتحمل الصعاب في سبيله. و تعد إسرائيل مثالا حيا للدولة التي تعتمد في بنائها على آلة مؤثرة لاختراع الأساطير. بل ضمنت تلك الاستراتيجية للصهاينة تعزيز موقعهم في الساحة الدولية، وإقناع جاليات الشتات بالقدوم إلى أرض الميعاد بعد نكبة 1948.
فعند نشوب الحرب بعد قرار التقسيم، والإجلاء العرقي لنحو سبعمائة ألف فلسطيني، وجدت إسرائيل نفسها في وضع المعتدي، مما خلف ردود فعل دولية ضدها. لذا لجأت بدعم من أصدقائها الأمريكيين، وعلى امتداد أربعة عقود، للترويج لأسطورة مفادها أن ما جرى لم يكن تطهيرا عرقيا وإنما فرار طوعيا للفلسطينيين من منازلهم، بعد أن طلبت منهم الدول العربية ذلك لتتمكن جيوشها من إلقاء اليهود في البحر. و لم يتم تفكيك أوهام هذه الأسطورة إلا خلال العقدين الماضيين، مما أثر على التعاطف الأمريكي الشعبي مع سلوك إسرائيل.
تهدف الأساطير إلى تلميع الذات، وإخفاء السلوك المشين الذي يصحب عادة الظروف القاسية و العنيفة لإنشاء الدولة، فتجتهد النخبة لنسج قصص النبلاء في صراعهم مع الشياطين! و رغم التحدي الذي تواجهه تلك الأساطير إلا أن الجهود المضنية لتسويقها لا تزال حتى اليوم تحقق مكاسب مثيرة، لأن الأفراد بحاجة إلى من يقنعهم دوما بأنهم أخيار. يقول ميرشيمر: " إن خلق الأساطير القومية ليس مجرد تأليف بعض النخب قصصا مُختلقَة وتمريرها إلى جماهيرهم. فالحقيقة هي أن الناس العاديين يكونون عطشى لتلك الأساطير؛ فهم في حاجة إلى سماع قصص و حكايات عن الماضي تصورهم بأنهم أحياء ذوو قبعات بيضاء، في مواجهة القوميات الأخرى ذوي القبعات السوداء. و بالتالي فإن خلق الأساطير القومية هو فعل مدفوع من الأدنى كما هو مدفوع كذلك من الأعلى "(2).
ورغم إقرار قادة العالم بمنظومة الأعراف الليبرالية التي تحدد أشكال السلوك المقبول بين الدول في حالي الحرب و السلم، وتأكيد التزامهم بسيادة القانون، إلا أن مخالفة تلك الأعراف بات أمرا مقبولا تمليه مصلحة البلد، مثل انتهاك نظرية الحرب العادلة في النزاعات، أو فرض عقوبات اقتصادية جائرة تخلف كوارث إنسانية، كالحظر الجائر الذي راح ضحيته خمسمائة ألف عراقي وفق تقديرات منظمة اليونيسيف .
إن تصرف الدول على نحو مخالف للقانون الدولي يغذيه الحس البديهي لدى معظم الناس بأن السياسة الدولية شيء قذر، وأنه لا غضاضة اليوم من التصرف بواقعية و التحدث بمثالية. بيد أن الناس يحبذون بالرغم من ذلك القول بأن دولهم تتصرف بعدالة واحترام للقوانين بخلاف أعدائهم !
للأكاذيب الدولية آثارها السلبية، كما أن احتمال انتكاستها العكسية يظل قائما حين تترسخ لدى القادة نظرة دونية لشعوبهم، ويتوهمون أن الجماهير لا تفهم القضايا المهمة في السياسة الخارجية، فيصبح التلفيق و الخداع عملة رائجة حتى في القضايا الداخلية. إن فقدان السند الشعبي في هذه الحالة ضريبة مؤكدة، سيؤديها القادة جراء الاعتماد المفرط على الأكاذيب، لأن هذا السلوك يظل في قرارة النفس مشينا ومُدانا، برغم المكاسب التي قد يحققها في مشهد سياسي يعاين فيه الجميع، وعلى نحو جنائزي، ارتخاء قبضة القيم !
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- جون .ج. ميرشيمر. لماذا يكذب القادة ؟ المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب. الكويت 2016. ص26
2- نفس المرجع. ص90