أنفاسقبل هذا السقوط الجذاب لألوان شمس تحرسني و أعرفها .. لمع نجم في يسار المدينة .. لكنه نجم كباقي النجوم التي مرت من هنا .. لم يقو هو الآخر على هدم تماثيل القرية .. فخان العهد القديم .. حين صدق القمر .. و أفرط في مدح بحور الخليل .. و صعد إلى أسفل الجحيم .. فوق جسر هرِم معلق بخيوط من حرير في قمة هذا الهَرم .. هي الآن حروف تمضي  في حماية وضع حافل بمجاهل كوابيس الأمس .. قلت و قالت معي فراشات البحر القادم : لا فرق بين ألوان شمس أخمد لهيبها فيضانُ الثلج ..
 لكِ مدينتي الفاتنة العينين جلالة المساء .. و لك صفاء هذا السكوت المحمل بغيمات حبلى بأمطار الحجر .. عني الآن تزدادين  ابتعادا و أحيانا تتواري عن أنظاري إلى حد لا يطاقٌ .. حيث  وجدت نفسي اليوم أتيه بين أدغال ركض أزرق لأجسام هذي الطريق الطويلة المزروعة بأنفاسي . . هي ذي الآن تبدو لي المقاهي مكعبات ثلج مصقولة الكراسي بنظرات روادها المدعوين لمداعبة مدخنات يبس أزمنة عنيدة  . . أكره تحديقات صديق  مستلب الذراع .. و بالحروف المتنازعة و المتقاطعة .. كأحلام الجراد في جريدة حزبية مكبلة الصوت بترديد إملاءات الأقمار العارية إلا من غصن توت تدمع عيناه ..

أنفاسأتته بكامل زينتها دون موعد فكانت مفاجأة  أن تدخل عليه في مقهى الانترنت حيث يشتغل. كان منزويا يقرأ كتابا إلكترونيا رغم ما قد يشكله ذالك من عظيم خطر على عينيه.
في اللحظة التي وصلت كان يقرأ قصة مثل عربي أثير إلى قلبه-أكلت يوم أكل الثور الأبيض-
بعد التحية ومدح المفاجأة انقلبت فرحته خيبة ابتلع ريقه ليتجرعها :
قالت : -كنت على موعد مع صديقتي كريمة وقد تأخرت وقلت لا بأس من انتظارها هنا.ثم أضافت:لقد اشتقت إليك، ما أخبارك ؟
أجاب بأنه بخير وعلى خير وانه اشتاق إليها وأنه وانه....
في أعماقه تحسس ثقل السؤال جاثما على صدره :        
(أكل هذه  الزينة من اجل كريمة؟)

أنفاسإلى اللقااااااااء...».
صاحت الأفواه الصغيرة متلاحقة تنفذ واجبها اليومي المقدس، فجاءت العبارة شاردة، متعثرة وساحرة. لفظتها شفاه صغيرة مازالت تتحدى رخاوتها لترويض الأبجدية.
تلك عادتهم حين يخرجون من الروض كل مساء.. أطفال بطراوة الخيزران، يتسابقون ويتدافعون،  وبمجرد ما يتجاوزون الباب يطلقون من حناجرهم المنهكة بالأناشيد وعد اللقاء، وينطلقون منتشين بالانعتاق من طاولاتهم الخشبية الصغيرة. فتسبح العبارة في الفضاء كغمزات النوارس. وينتشرون في الأزقة متوجهين إلى بيوتهم كفراشات ملونة.
غدا خروجهم مألوفا لدى المارة والجيران. وأضحت وشوشاتهم وهتافاتهم لازمة يومية، تنبه الخاملين في غفوة المساء، وتذكر النسوة العجائز بموعدهن اليومي، فيأتين إلى متربة الروض، بعد فراغها، ليكملن النهار بالثرثرة ومشاطرة الأخبار والأسرار "العجوزة".

أنفاسأباح لي  صديقي بنبرة حزينة ، ساردا علي قصة من أجمل ما سمعت :
 أتدري يا صديقي أنني تسلمت رسالة من فتاة يافعة،  ذات فتنة لا تضاهى . لا تعرف شيئا عن تاريخ حياتي ، ولا من أكون . بل هي لا تعي عن تعقيدات الوجود وعبثيته أي شيء .
 ابتدأت رسالتها  بعبارات دامعة :
 " خفق قلبي من شدة الوجد لما رأيتك مارا أمامي .. اخترقتَ أحلامي  بعنف ، عيناي ما فتئت ــ  منذئذ ــ  تذرف الدموع دون توقف . لئن لم تستجب لخفقات القلب سأنتحر".
 ضحكتً من سذاجتها وسألتًه :  وما كان ردك ــ يا دون جوان العرب ــ ؟؟

أنفاسلا أحد يعلم ماالذي جعل مرجانة تسدُ نوافذ البيت ؟ سدّتها جميعها إلا فوهة الباب وكوّة صغيرة في السقف تعدُ عبر ضوئها الشحيح طعامها وترتبُ أشياءها وترتقُ أثوابها وما كانت لتستعين بأحد في ذلك بل خلطت بنفسها الطين والقش والماء وقطع الزجاج والصفيح ورصّفت الحجر في النوافذ ثم طلته بحرص شديد ووقفت ترقبُ أن يجف البناء وهشت الصبيان لئلا يعبثوا بجهدها . لم تكن مرجانة كثيرة الكلام ولا كانت تستسيغ هذر الآخرين لذك لم تر موجبا لشرح ما أقدمت عليه, ولكن زوجة إبنها التي كانت تسكنُ غير بعيد عنها ذكرت أنها ترى ما لا يُرى وأن عينها كعين الحية لذلك كانت تُبصرُ في الظلام وتنقي القمح من الحصى والدنيا غبش وتعد نقودها وتعين الإبرة دون مصباح. بل ذهبت إلى أكثر من ذلك فاتهمتها بالسّحر والشيطنة وإلا ما حاجتها إلى الحرابي تلك التي كانت تجمعها ؟وما حكاية القطة السوداء التي تلازمها كظلها وما نصبها الفخاخ في الخرائب القبلية لاصطياد ذكر البوم ,؟ وما هذا البخور الحارّ الذي يصدرُ كل مساء من بيتها فيُعمي العيون ويحرقُ الحناجر ؟

أنفاسوحيدةً كالفارس المارد .. تدخن المدينةُ أضلع صدرها الواسع سعة البحر . . وحيدةً كالغريب تتيه العيون الجافة .. تبحث زاحفة في بيداء شوارع ضيقة .. كانت في الأمس القريب مرتعا لأرجوحتي .. مدينتي الآن ليست مدينتي .. و لا تعرفني .. و لها أكثر من وجه .. حيث أنا تعلمت فن السباحة داخل أقفاص ماء السواقي .. غيمة كانت قبلتي الأولى إلى عوالم لعب الكبار قبل الصغار .. أرصفة مشروخة الوشم تعلوها التجاعيد .. أشجار صفصاف سامقة حبيسة شحوب المعاني القديمة .. كبّلتها مدخناتُ  السجائر اللعينة .. أين بريق شعلة الدروب .. و رائحة الفوانيس العائمة في بياض البيوت الحجرية .. لماذا اعتقلتها دوريات الشرطة الوافدة ..؟

أنفاسماتت أحلامي.
لم يعد بإمكاني أن أحلم بالشمس والعصافير والحمام.
أسمع صوتاً منبعثاً من قعر بئر فارغة يقرع أذني:
- الغالية.. الغالية.. انتهى زمن الأحلام، أَسِرَتْكِ آلهة الجحيم. طردتك من جنتك الصغيرة.
نما في نفسي إحساس عميق بالذنب. تلبدت سماء نفسي بالغيوم. بدأت تسقط من شجرة ذاتي، تباعاً أوراق الحنان والاطمئنان والوفاء والقيم التي شذبتها أمي ورعتها. عاريةً أصبحتْ شجرتي تقف وسط الأشجار الخضراء المثمرة. لم تصمد أمام رياح الغواية والإغراء. نخرت دودة الخطيئة جذعها فبدأت تتهاوى..
        تتهاوى..
                   تتهاوى...

أنفاسنظر فى ساعته فقد جاوزت الشمس على الغروب ولم تأتى بعد
اعتلى صخرة قريبة والقى نظره على الصحراء الممتدة حوله ولا اثر لشئ
كانت عاصفة رملية تتهيأ لتغطى المكان ..فقرر ان ينسحب
**
اقترب من اطراف الواحة .. وعند البئر القابع بين جمع من النخيل كأنه الحرس الخاص لماء القبيلة
كانت تحمل جرة و تتهادى كفراشة اعياها الضوء .. ويتبعها كظلها قطتها البيضاء
ابتسم لها.. احمر وجهها خجلا وارتعشت .. فأسقطت الجرة
هم يساعدها .. همس فى اذنها ..هل نسيتى الموعد؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة