أنفاسأجزم.. لم يكن لأبى يوماً مثل هذا الصندوق الأسود المرتفع؛ لم يكن في بيتنا مكان يمكن  إخفاؤه به.
  .... وكان يمد يده ويخرج أشياء متعلقة بطفولتي، لا أعرف، يقيناً، إن كانت مرَّت بسنوات عمري الأولى. أذكر الحُـلل العسكرية الثلاث: جيش، وطيران، وبحرية. أذكرها، وكانت – كلها -  تحمل رتبةً لم تتغير، هي "البكباشى"؛ ولا يزال محفوراً في وعيي حزني وحسرتي، لأنها كانت –  جميعهـــا -  بلا غطاء رأس.. كانت نقود أبى تعجز - في كل مرة- عن شراء الزيِّ كاملاً .. وكنت أقضي أيام العيد أحاول ألاَّ أُبدى النقص الواضح، ليكتمل زهوي بين عيال الشارع وتميزي عنهم. وكنت - عندما يسألونني - أرد عليهم، كما علمني أبى، وبشيـئ من عدم الاكتراث: الضباط العظام لا يضعون غطاءً للرأس في كل الأوقات!.
     دعوني أُســـــــلِّم بأن أبى كان يملك مثل هذا الصندوق الأسود الكبير؛ والحقيقة هي أنني متأكد من أن هذا الصندوق، نفسه، كان يخص "الجاويش الشوربجي"، زوج "الست أم محمود"، جارتنا بالبيت الكبير، في ( غيط العنب ). تسللت يوماً إلى حجرة النوم الملحقة بـ "المقعد الكبير".. كان الصندوق مفتوحاً، تفوح منه رائحة الملابس والمهمات المخزونة، وكان به بذلات الشاويش البيضاء الصيفية والسوداء الشتوية،  وأحذية غليظة،  وبطاطين ذات ملمس خشن؛ كان هدفي أن آخذ غطاء رأس أسود،  وأن ألمس المساحة النحاسية المستطيلة اللامعة في حزام الشاويش الشوربجى؛ ولكن الوقت لم يسعفني. كانت أم محمود مستلقية عارية فوق السرير .. لم تنهرني،ولكـن أطلقت ضحكتها الرنانة ذات الذيل، وقالت بلطف: " عايز إيه يا ولد إنت يا عكروت؟! ".

أنفاسحبات المطر في الخارج تتناثر بتمهل على زجاج النافذة ، فتحدث صوتاً ناعماً يشبه النقر البطيء على صفيحة فارغة . وضوء الشمس لم يعد يرسل جدائله.... يتسلل عبر خروم الستارة العتيقـة المتدلية على النافذة بوساطة مسمارين مثبتين على الحائط . كانت العاصفة الثلجية قد انجابت، وهدأت قبل قليل... وثقل المكان بالسكون، والقلق والترقب ، باستثناء نقر حبات المطر الخفيفة المتباعدة ، وصوت خرير مياه الأمطار تسيل باتجاه القنوات والحفر في الشارع الموحش الخالي من المارة .
في الداخل ، كان الزوجان جالسين حول وابور الجاز يطلق فحيحه باتصال قبيح ، يمـدان ذراعيهما فوق رأس الوابور المغطى بقطعة معدنية صدئـة ، يبسطان بطون أكفهما الباردة لحظة ، ثم يخطفانهما، ويشرعان بفرك البطن بالآخر، والأكف ، ينفخان، ويتوحوحان مثل طفلين بريئيـن يحاولان طرد البرد من أصابعهما البضة المتورمة . بالقرب منهما كيس بلاستيكي شفاف يطفح بالكستناء ، يأخذان منه الحبة يضعانها على الوابور يشويانها ، وفور أن تحترق القشور يدفعانها فتسقط على الأرض ، ثم يندفعان يقشرانها ، يلتهمانها بشراهة ، وهكذا دواليك الحبة تلو الأخرى .
قبالة الزوجيـن يرقد تلفاز لا يند عنه صوت ، هيئتـه تزيد من حدة القلق والقرف في نفسيهما ، بسبب صوت الأنيـن المنبعث من الغرفة الأخرى ، ينصتان إليه دون اكتراث أو وجل . كانت أم الزوج وحماة الزوجة : العجوز طريحة الفراش منذ مدة ، تصرخ وتتألم كأن ناراً نهمة تزدرد أحشاءها، تتـاخم حدود الموت : وتتأوه تأوهات جشاء . أنينها يقطع القلب ، ويكاد يهزّ الجدران ، ويصفق الأبواب والشبابيك ، وكأنه يريد فتحها يشرعها نحو الفضاء شاكيا علّ أحدا من العالم الخارجي تتحرك لواعجه .

أنفاسالتقيتها. لم تتأخر كثيرا عن الموعد المضروب بيننا سلفا, عيناها حمراوان مثل حبتي طماطم ناضجتين. دخلنا إلى أقرب مقهى هروبا من عيون تحترف الفضح كما قالت هي.
رميت جثتي على مقعد وجلست هي قبالتي. صرت أدخن, صامتا. عيناها الماتزالان حمراوين تنبشان في وجهي. أحسهما. أشعلت سيجارة أخرى بجمر السابقة. جاءني صوتها:
- تدخن كثيرا!؟
- .........
- لماذا تدخن؟
- لأني أدخن.
عبرت ابتسامة تفتعل الحزن إلى شفتيها.
سرحت بعيدا. كانت ترمقني, لعلها تنتظر أن أقول شيئا. ليس عندي ما أقوله. هي اتصلت بي وطلبت لقائي. كثيرا ما كانت تؤجل هذا اللقاء عندما كنت أنا أبادر بطلب ذلك. كانت تتذرع بأسباب لا تقنعني ولو أني كنت أبدي تفهمي لظروفها. وهاهي اليوم تبادر. لم أسألها عن سر الحمرة في عينيها. خمنت بأني لو فعلت ذلك فقد أفتح علي بابا من الإزعاج لا طاقة لي على إغلاقه. أيكون لهذا الأمر علاقة بلقائها بي؟

أنفاسالى الطاهر بنجلون
باريس ما أجملك وما أروعك !!!ونسيم هذا الجو الربيعي يعطرك, لو أنك تسمعين ...هاهي قدمي تطؤك ! عصفور أنا أغرد وغردت من اجلك كيف لا ؟ وانت الحلم والامل والسلام والشجرة!!!؟
يا جميلات الجميلات ,ويا عروس الحوريات ,هذا النمل النشيط سكانك! وهاته الأغصان الوارفة الظلال شوارعك !  وهاته الارواح المحلقة تحرسك فلاسفتك وشعرائك ومبدعوك!ا.
أيتها الحالمة الغارقة في فلسفتك الوجودية, كم تمنيت أن أجالس حراس معبدك: جان بول سارتر,فيكتور هوغو, وارتور رامبو ,وبول فيرلين،جان جاك روسو, وأرمان روبان...وغيرهم ممن تطول ولاتنتهي لائحتهم.
أيتها المتمنعة لو أردت وزن الشمس ذهبا مهرا , ووزن القمر قرطين هدية , ووزن الجبال فضة خلاخل تكسر صمت قدميك , لكنت الفارس اله عشتار يقدم اليك , وانت في ثوب عرس على جواد ابيض تنتظرين هذا الذي يشق غبار القدوم الى احضانك.
ها أنذا أغرد كالعندليب وقد حققت الحلم المستحيل لا أريد منك خبزا ولا عملا ولكن قبلة!!!ا

أنفاسألقى الموج بالجثة على الشاطئ كانت عالقة بصخرة تشبه لوحا من ألواح ركوب البحر ، كان صاحبها يضرب بيديه بين الحين والحين كما تفعل السلحفاة تماما وهي تنزع نحو البحر لتنجو من خطر الكواسر ، كان  الملح يعلو شفتيه ، و هو يهذي بين الفينة والأخرى ، طبعا لم أحاول أن أقدم له أي مساعدة أو إسعاف ، أولا لأنه لم يطلبهما مني ، وثانيا لأنني لا اعتقد أن ذلك ضروري ، يفيده أو يفيدني ، بل كنت أتمنى لو استطيع أن انسلخ من واقعي وأشاركه أحلامه ، فجلست إلى جانبه أسترق السمع ماذا يقول الإنسان لحظة وقوفه على العتبة الفاصلة بين عالمين.
قال :كانت لي قطعة أرض من أبي هدية له من أجداده، سقاها بدمه، ترابها بعض عظامه، بعض عظامي.
سكتت الجثة: أخذت حجرا ورميته في البحر فتلقته سمكة وعندما عرفت حقيقته تركته وانصرفت.
عادت الجثة تهذي:
زرعت القطعة وردا فجاء لونه بلون الدم، ورائحته رائحة الجنة، أعيش على استنشاق عبيره ؛ يسعدني وينعشني فلا أحتاج غيره ومنه تزوجت وأنجبت أطفالا، رائحتهم العبير وعيشهم العبير.
سكتت الجثة: أخذت حجرا ورميته في البحر فتلقته سمكة وعندما عرفت حقيقته تركته وانصرفت فقلت لها أنت طماعة.

أنفاسهو شهر شباط . الوقت ضحى. السماء داكنة وشاحبة، كسحنة جندي ذاهب إلى ساحة الحرب واثق من هزيمته. الضحى والقهوة يتعانقان، شربت قهوة الضحى، فاكتملت اليقظة في رأسي المثقل ببقايا نوم طال به الليل، وانسلت الصحوة إلى جسدي تنبهه متهادية بوقار جليل. إلى النافذة امتد كفي وفتحتها إلى النصف، اتكأت على حافتها الرفيعة، رنوت إلى حافة الأفق، ثم سحبت نظراتي واعدتها بسرعة إلى أسفل النافذة، إلى مساحة صغيرة متربة ثبت نظري فرأيت قط وقطة .. بحلقت إلى قط  اسود متسخ وملطخ بالطين، شكله يوحي أنه أجرب .. وقطة بيضاء نظيفة يلهو الهواء بشعرها الناعم الطويل الناصع الجميل. استلقت القطة بجسدها إلى الأرض وبالأرض التصق ظهرها. مدّت أطرافها الأمامية والخلفية على آخرها. تمطت .. برفق أخذت تتقلب بجسدها المرخي وبهدوء تتلوى، جسدها لين كأنه بلا عظام. ماءت برغبة عارمة للمواء الناعم الهادئ، استمرت تموء بإغراء، غنجت ، فارت، تثنت، ارتخت .. اقترب منها القط نافشا جسمه وشعره .. ضربته برقة ببطن ساقها الأمامي متمنعة، فقفز مبتعدا إلى الوراء قفزة واسعة. اعتدلت القطة ثانية، تبادلا النظرات، تشابكت النظرات متلاحمة في دائرة أخذت تضيق وتصغر في المسافة القليلة الكائنة بين جسديهما. ماء .. ماءت .. مواؤهما اقرب إلى الغرغرة .. أعادت ظهرها إلى الأرض وتمطت .. ماءت، تلوّت، توهجت .. اقترب منها  بحذر مقوّسا جسده المتسخ .. سكتت، ولنداء غريزتها استسلمت .. وقع عليها .. غاص في غريزته، ارتعش، انتعش، انتفض .. مدد جسده إلى جانبها مزهوا. أقعى، صار يغمض عينيه ويفتحهما مطمئنا كأنه يحمد الله ويشكره .. في عينيه بريق سعادة، ووهج نشوة حافلة بالرضا.

أنفاسانتهزت فريدة فرصة غياب والدتها التي كانت تمنعها لقائي,فأرسلت الصغيرة ذات الشريط الأحمر الذي يخنق ضفيرتها الكثة " نلتقي "كلمة واحدة خطت على عجل بقلم رصاص غير مبري بعناية.
سبقتها كعادتي,حجزت نفس المكان ,تحت نفس شجرة الخروب العملاقة واليتيمة وسط غابة نخيل...تصفحت الجريدة التي لم تبخل عنى بمداد لطخ كل شئ,والتي تحولت الى عصا أهش بها  حشرات تجرأت التحرش بي...
رفعت بصري, رأيتها آتية من الجهة الشرقية,تتقدم بخفة وسط ممر ظلله تعانق أشجار الاكلبتوس .خلفها حيث تنعكس أشعة الزوال, سور شامخ يحكي ذاكرة الذين مضوا مند مئات السنين ويحمل خربشات الذين مروا والذين لن يتذكرهم أحد بمجرد طلاء جيري خفيف.
 كانت كأنها تخرج من عبق هذا السور الشامخ أو كأنها لوحة من حياة أندلسية...
سرى نسيم حرك أوراق الشجرة,ظننت انها فتحت مسامها لتسترق السمع,جلسنا وحلمنا ببيت... وقبل لا يخالطها الوجل... وبأبناء ...
كنت ارقب ساعتي بين الفينة والأخرى,لم تقو على إخفاء تضايقها " وراءك شغل؟" أجبت" نعم" وأردفت " اجتماع مهم" .
تعميم استفز خجلها" ما الذي يستطيع أن يلهيك عني ,غير امرأة ثانية؟"

أنفاس[إلى روح نجمة الأرز الضائعة والفراشة غامضة الزهر
ايريس نهري ]

هذا كلامٌ عفويٌّ ليس سدادَ دينٍ ولا ردَّ جميلْ , كلامٌ عفويٌ لا غير , لطهر وسحر روحٍ ذوت في أوجِ الحياة وعنفوانها وأينعت في حدائقِ القلب ,
كلامٌ ينبعُ من مكانٍ خفيٍّ قصيٍّ هناكَ في أعلى الروحِ وأسفلها ولا يجفُّ ماؤهُ أبداً , ولا أريدُ له أن يجفَّ .

(1)

شعلةٌ من دمٍ , ومضةٌ في أعالي الشعورِ , ضحى شاعريٌّ , وليلٌ بطيءُ الهمومِ , إحتراقُ رؤىً تتسللُ من خللِ القلبِ ........
وحدي أنا وجميعُ البراكينِ بعدي هنا سوفَ تأتي كما قالَ ألبرتُ
في الأمسِ , واليومَ صمتكِ هذا المجللُّ بالغارِ , طهركِ , سحركِ
عيناكِ , رؤياكِ , مثلي الذي لا يُقالُ تقولْ