
.... وكان يمد يده ويخرج أشياء متعلقة بطفولتي، لا أعرف، يقيناً، إن كانت مرَّت بسنوات عمري الأولى. أذكر الحُـلل العسكرية الثلاث: جيش، وطيران، وبحرية. أذكرها، وكانت – كلها - تحمل رتبةً لم تتغير، هي "البكباشى"؛ ولا يزال محفوراً في وعيي حزني وحسرتي، لأنها كانت – جميعهـــا - بلا غطاء رأس.. كانت نقود أبى تعجز - في كل مرة- عن شراء الزيِّ كاملاً .. وكنت أقضي أيام العيد أحاول ألاَّ أُبدى النقص الواضح، ليكتمل زهوي بين عيال الشارع وتميزي عنهم. وكنت - عندما يسألونني - أرد عليهم، كما علمني أبى، وبشيـئ من عدم الاكتراث: الضباط العظام لا يضعون غطاءً للرأس في كل الأوقات!.
دعوني أُســـــــلِّم بأن أبى كان يملك مثل هذا الصندوق الأسود الكبير؛ والحقيقة هي أنني متأكد من أن هذا الصندوق، نفسه، كان يخص "الجاويش الشوربجي"، زوج "الست أم محمود"، جارتنا بالبيت الكبير، في ( غيط العنب ). تسللت يوماً إلى حجرة النوم الملحقة بـ "المقعد الكبير".. كان الصندوق مفتوحاً، تفوح منه رائحة الملابس والمهمات المخزونة، وكان به بذلات الشاويش البيضاء الصيفية والسوداء الشتوية، وأحذية غليظة، وبطاطين ذات ملمس خشن؛ كان هدفي أن آخذ غطاء رأس أسود، وأن ألمس المساحة النحاسية المستطيلة اللامعة في حزام الشاويش الشوربجى؛ ولكن الوقت لم يسعفني. كانت أم محمود مستلقية عارية فوق السرير .. لم تنهرني،ولكـن أطلقت ضحكتها الرنانة ذات الذيل، وقالت بلطف: " عايز إيه يا ولد إنت يا عكروت؟! ".