أنفاس"وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
            يظنان كل الظن أن لا تلاقيا"
- ابن زيدون-


هل كان عليّ أن أتسلق أغصان شجرة العائلة لأبحثُ بين الأوراق والفروع من جدي الأول حتى جدي السابع الذي- سامحه الله- أورثني جيناته المختلفة وليست المتخلفة، فأنا حتما لا أمتُ بوصف يتطابق مع أحدٍ من أفراد أسرتي الحالية ـ لا من جهة الأم، ولا من نسل الأب شكلا ومضمونا، ولولا معرفتي وثقتي بأمي لقلت أني ابنة (حرام) في ليلة عابرة..!؟
عرفت أني طفلة  معجزة حين حسم أبي الأمر في جلسة مغلقة جمع فيها أمي، إخوتي العشرة بما فيهم أنا.. وأفتى بصوت صارم وواضح :
  - أختكم.. لا يركبها عفريت ولا يصاحبها جان، ولا (مرفوع عنها) الحجاب.. وليست قديسة أو ولية من أولياء الله الصالحين..
 - لكنها تعرف كل شيء ومناماتها تتحقق سواء كانت خيرا أو شرا..

أنفاسوأنا أتبعها كظلها, كنت أضحك. قلت البارحة في نفسي : إذا أردت أن أعجبها فيجب أن تراني ضاحكا. أضحك, ليس ضحكا تماما لكنه أشبه بذلك؛ ابتسامة عريضة جدا.
في لحظة استدارت إلي. توقفت. توقفت أنا. عقدت ما بين حاجبيها في غضب. لملمت ضحكتي, أقصد ابتسامتي. لم تقل شيئا. بل قالت. لم أسمع. أم أنني لم أرد أن أسمع؟ قالت شيئا ربما يجعل الدمع ينفجر من عيني. لم أسمع شيئا.
استدارت وذهبت. تبعتها. لماذا أكذب؟ لم أتبعها. خفت منها وقفلت راجعا. لم أضحك هذه المرة أو لم أبتسم.
لم أعجبها إذن! أم لم تعجبها ابتسامتي؟ ابتسامتي الضاحكة؟ لماذا يضحك علي "رأسي" عندما يوهمني أنه إذا رأتني كذلك فستعجب بي وتكلمني وأكلمها - لكن فيم سنتكلم وماذا سأقول لها؟- وستضع يدها في يدي حتى يسح منهما العرق وتذهب معي إلى الحديقة وتطلب مني أن أشتري لها شيئا مالحا وساخنا. ونجلس على مقعد حجري تحت شجرة وافرة الظل ونضحك. نضحك بصخب حتى ينزعج الآخرون ويطلبوا منا أن نخفض من صوتينا. فنذعن نحن لذلك أو أذعن أنا وتطلق هي بعض الشتائم –لا أدري إن كانت ستفعل بصوت مرتفع حتى يسمعوها- ويدها لا تزال في يدي تتصببان عرقا, تأكل الأشياء المالحة والساخنة التي اشتريتها لها من بائع ما في الحديقة. هل ستعطيني منها ما "أملح به أسناني"؟ لذلك طلبت من أمي أن تعطيني بعض الدراهم. أعطتني. لم تعطني إلا بعد أن صبت على مسمعي أسفارا من التذمر والشكوى واللعنات على هذا الجيل الذي لا يجيد شيئا غير الأكل والنوم بلا فائدة ترجى منه.

أنفاسبدأت قطرات المطر ,بعد ليلة عاصفة ,تنساب بهدوئها الناعم الأخرس على زجاج النافذة المطلة على فناء المنزل.فناء ملأته أقفاص طيور الحسون التي كانت أيضا تملأ صباحاتى باحساس تواصل الربيع حين تشدو.
   عمر شاب في عقده الثالث,يسكن الطابق الأرضي.وحيدا مع طيور الحسون.
يشتغل سائقا لحافلة نقل المستخدمين,يدخن الحشيش ويشرب الخمر مع كل موعد صرف الرواتب.يقضي وقته وسط طيوره,يحدثها " بس بسس بسسس..." يزاوج بينها ,يعتنى بفراخها,يعلمها الشدو بواسطة اشرطة واقراص تكرر النغم آليا دون كلل.
 كلما جالسته ,كان يكشف لي عن نوادر كبار المبدعين .بادرنى بالسؤال مرة
" أتعرف ذلك الكاتب الذى كانت ترافقه سلحفاة؟"
" نعم ,أعرفه انه كاتب عظيم رجم عوض أن يكرم .."
لم يفهم كلامي على مايبدو,لكنه أضاف " لا أحب ما يكتبه العرب ـ ونطق "العرب "برطانة فيها عداء ـ
  عمر لا يقرأ كالكثيرين,لكنه يطلق احكاما كالكثيرين أيضا.يداوم على اقتناء جريدته الاسبوعية,يلوك ما جاء فيها مع قليل من الحذف وكثير من الاضافات التى توافق هواه,فيتفتق خياله عن تخريجات ماشاء الله...

أنفاسيثور غاضباً في وجه سحنته المُتجعِّدة أمام المرآة ، تكاد سباته المعقوفة إلى الجهة اليمنى أن تلامس  أنفه :
أنا من أنا ، أقف عاجزاً لحد الهزء بين حُثالة هؤلاء القرويين  . 
يَرتدُّ إليه صوته المنحبس في جوف محاصر بحموضة مقززة ، كم  نصحته زوجته بقلع أسنانه  :
هذه الرائحة الكريهة ، لن تزول إلا بتغيير الفم المُسوَّس حتى ضرس العقل  .
في المدرسة الابتدائية التي ودعها غير آسفٍ على طرده لغير رجعة , لقّنوه مفردات الكرامة والعزة والإباء وما جاورها , فظل يربطها بهذا الأنف اللعين ، تحسَّسه ، لم يشعر بأدنى أسف على تضييعه لتلك القيم منذ تولَّى رئاسة المجلس البلدي بالاسم ، حتى الحزب الذي زكَّى ترشيحه باسم شعارات أدبياته ، لم يعُدْ يقبل العمل بها في الواقع ، لمس حرج الإخوان من التعرُّض لما كان يُسَمَّى إلى حين ، بالمبادئ الحزبية في أوَّل لقاءٍ بالزعيم القائد   .
غطَّتْ بدانته أمام اللوحة الزجاجية على ما خلفه ، فلم يلمح وقوفها مشدوهةً تعاين الرجل مُكلِّما نفسه ، للمرة الثانية ، تضبطه في حالة تلبُّس ، لن تحاول إيقاظه من غفْوته ، سوف يتهمها بالتوهم  : 

أنفاسلو تعرفين وهل إلاَّك عارفة هموم قلبي؟ رددت الكلمات مرارا وأنا أحس كأنما هي كلماتي آتية من الأعماق يغلفها الحزن ويجللها إحساس بانكسار في داخلي. كادت أن تهمي دمعة من عيني. ترقرقت ولكنها تحجرت في الجفن. تذكرت أمس حزني المكبوت وقهري الصامت وبكائي في سواد الظلام كي لا تحس بي أمي فيصيبها الحزن وتشرع في البكاء والنشيج.
كانت فيروز تغني بصوتها الملائكي والدنيا تألقت باشراقة نورانية. كان الفضاء صحوا والهواء باردا عليلا في صباح من صباحات نيسان. لكن الأمر لم يخل من إحساسي الدائم بالحزن يسري في أعماق القلب وفي شراييني فأحس باضطراب داخلي . بدت الدنيا كلوحة انطباعية بألوانها اللازوردية الزاهية من ريشة فنان كرذاذ أثيري رائع. لكن إحساسي بالحزن صار غريزيا. لقد تغير شيء ما في داخلي. لم أعد أنا ذاتي. أفكر بالألم قبل اللذة، وأستشعر الحزن قبل الفرح. نيسان يثير فينا ذكريات. يوقظ الشجن وينكأ الجراح. نيسان وما أدراك ما نيسان. تذكرت اليوت حين قال انه أقسى الشهور ينبت الزنابق في الأرض اليباب. أحس نفسي مثل صحراء جرداء لم يعد ينبت فيها نخيل وجفت واحاتها. صار البيت عالمي الوحيد وأرضي اليباب. كنت أشعر بالضيق والاختناق أول الامر، لكنني تعودت عليه وطوعت إرادتي وآمالي وأحلامي لتعيش فيه بغير شكوى أو حزن. لم تعد الوحدة ترعبني كما كانت أول الامر.

أنفاسهرولت مسرعا ومن فراش نومي الى مفوضية الشرطة , رغم أن الساعة تجاوزت منتصف الليل , لكن الطارئ الذي حدث في منامي أرغمني على الهرولة الى هناك!
وجدتني أمام شرطي نائم ملقي بجسده ذو البناء العشوائي على الأرض مباشرة أمام المفوضية ويغط في نوم ثقيل , دلفت ومباشرة   أمرت قدمي بالتوجه الى درج البناية لأجدني واياها في غرفة مضاءة من مجموعة مغلقة , ودون أن أشتم رائحة كائن بشري هناك. ولأجلس على كرسي هو كل ما هنالك!
وشرعت أصرخ وبصوت رخيم ورومانسي: لقد سرقوا الشمس! أعجبني هذا الموال وأعدت : لقد سرقوا الشمس!
أحسست بثقل على كتفي , وبيدين بحجم جبل تجثمان علي , وبرعشة تغمر كل جسدي وصوت جهوري يستفسر أي شمس؟
_ قلت: الشمس التي خلق الله!
لكن اليدين توزعتا , واحدة ربتت على كتفي وأخرى التفت حول رقبتي , و بالصوت يهدأ من روعي وبلطف لا تخف ستعود الشمس؟!!!!
بعدها ما عدت أذكر الا أن تيار الكهرباء في جسدي انقطع , ولاستيقظ صباحا مهشما كلوحة زجاج سقطت من اعلى, بالكاد بقيت بضع أضراس في فمي, ووجدتني ممددا وسابحا في بركة من دمي , وخشيت أن أكون تعرضت لإتلاف سلطوي , لكن حذاء أسود لمحته عينياي وصوتا يدغدغ - هنيئا لك - تمتصه أذناي بل وتحدث عن فشل محاولة قلب النظام باعترافي الخطير عن أسرار " عملية شمس" ورمى أمامي كتبا من حجم أربعمائة صفحة لتوقيعه.

أنفاسفسحتها الوحيدة، نافذة بشباك حديدي.. تعودت أن تقف أمامها لساعات طوال رغم اعتراض أبيها.. يأتي صوت الجدة، حادا:
هل نادى المؤذن على الصلاة؟
باقي.. تجيب بصوت غائب
وتواصل وقوفها هناك.. تخشبت رجلاها.. تغير زاوية الرؤية.. تلتفت إلى يمين الشارع.. تتابع حركة المارة، وتستنتج آخر أخبار الجيران..
منذ منعها والدها من متابعة الدراسة قبل سنوات، قلّت فرص احتكاكها مع الناس.. بالكاد تخرج مرة أسبوعيا للذهاب للحمام..
تلك الجارة كانت حاملا قبل أسبوع.. وهاهي تنزل من سيارة الأجرة برضيع بين يديها.. وصديقتها نورة التي تلتقي بها في الحمام، قد غادرت للتو لملاقاة حبيبها.. وعدها أن يتزوجها الصيف القادم..
هي، كانت تتوقع زيارة من أهل ابن البقال، لكنه أتى بعروس من قريته قبل شهرين.. أخبرتها نورة أن العروس صغيرة جدا ولا تعرف شيئا من أشغال البيت ولا ال....

أنفاس- توقف يا إبراهيم، توقف وإلا أطلقنا النار عليك.
هربت كمجنون يسابق الريح، هربت وأنا لا أرى شيئاً سوى الفراغ، صحراء من الخوف تحاصرني. أعدو رافعاً بنطالي إلى أعلى كي لا يتسخ، لكنه رغم ذلك يغرق في أوحال القمامة.
عند مفترق للطرق تواجهني زحمة غريبة. جميع ركاب الحافلات يحدقون في وجهي، أصحاب السيارات يشيرون ببنانهم تجاهي أيضاً. وأنا لا أعرف شيئاً سوى الفرار. شيء واحد يهزني من الداخل، "ماذا حدث؟!"، وفجأة أصطدم بسيارة تمر من أمامي مسرعة فأسقط أرضاً، أهذي، أترنح بين الإغفاءة والحلم، كأنه أغشي علي، أو كأنني مت، كنت أسمع خلال ذلك بعض الهمهمات، واللغط واللعنات.
عندما استيقظت وجدت نفسي مكبلاً بالقيود داخل أحد الكهوف، وعلي عينيّ عصبة سوداء، حينها خشيت أن أكون قد عميت، أو أن عينيّ غاصتا في بحيرة من عتمة. خلال تلك الأوهام بصق أحد الأشباح في وجهي وهو يلج المكان، فصرخت في وجهه:
- اللعنة عليكم.
- ............
- لماذا أنا هنا؟ ومن أنتم بحق السماء؟