أنفاسأزاحت الملاءة الهفهافة عن جسدها المشبع بالنوم و نهضت . تثاءبت وتمطت . ثم وقفت أمام المرآة تحدق في وجهها الذي لم يعد يعجبها أبدا ، هي ترغب في التخلص منه وتغييره .. فالفكرة قد اختمرت في رأسها ونضجت كما ينضج الخبز في الفرن .. على الرغم أنها في السبعين من العمر إلا أنها أسيرة الماضي البعيد .. أيام الصبا والشباب .. و المرآة تلح عليها مع كل نظرة فيها بضرورة تعديل كل شيء بجسدها وتبديله : الوجه والأنف والنهدان والبطن و الفخذان والأرداف و الأسنان و الشفتان .
باتت مصممة على إجراء عمليات التجميل لكل هذا الجسد المليء بالتجاعيد و الحفر ، والأنف الكبير الذي يلازمها و ينتصب في وسط وجهها كل هذه العقود ، فهو ضخم كأنف العجل ، و تتمنى لو بمستطاعها أن تمد يدها لتخلعه و تستبدله بأخر صغير وجميل ، لم تعد قادرة على تحمل رؤيته ، أبدا لم تعد قادرة . ولكن الأمر محفوف بالمشاكل ، فيجب إقناع زوجها ، هل سيوافق ؟ و من أين ستأتي بالنقود لإجراء عدة عمليات متتالية ؟ لكنها عجوز خبيرة في الحياة والرجال ، فلن تقف عاجزة أمام زوجها والنقود ، فقد سلحها الله بعقل نسائي فعال ، وروح امرأة .
لمّا عاد زوجها من عمله في المساء استجمعت شجاعتها و أخبرته عن رغبتها الغائرة عميقا في طيات نفسها .. فغرق في الضحك و القهقهة و اخذ يحدق بها على غير عادته ليتأكد من سلامة عقلها .. و ضحكت هي أيضا و بان كل ما في فمها من أسنان ، هي أربعة أسنان فقط آيلة للسقوط في أي وقت .

أنفاسقالوا لي عندما وصلت ، لا تخرج في الليل ، فسماء الغابة تقصف الغريب بالحجارة .و رغم ذلك لم أهتم بالأمر ،فخرجت .في أحيان كثيرة ، يجب ركوب التحدي .هذه هي عقيدتي .بعدها أقبل النتائج مهما كانت .
لم أخبر أحدا من زملائي عما أنوي القيام به .كان الجميع منكبا على لعبة الورق ،ككل مساء .. إلا ابراهيم الذي فضل ،كعادته ،أن يغرق قارئا في أعماق حروف كتاب في التصوف ،في ركن من أركان الغرفة . أسميه الإنسان الورقي ..يكاد لا يتحدث .بل يبدو في بعض الأوقات ،و كأنه شلت شفتاه و أصيب بالخرس .لكن عندما يكون في يومه ، لن تسكته رعود السماوات السبعة ..، ...يحصل له كما لو انفجر في جوفه نبع من ينابيع عيونه الباطنية ..يتحدث لك في كل شيء ، و بأدق التفاصيل. ..سألته يوما عن سر هذا الصمت الصارخ ، الذي يختاره في الكثير من الأحيان ..أو ينزل عليه كالصاعقة من السماء ..فرد علي قائلا :
"لا أختار الصمت ..،بل هو الذي يأتيني سعيدا و يختارني ، و بدوري ، أجد نفسي ملزما لمصاحبته و  استضافته ..بين دواليب دمي و فمي ..إذن ، بما أنه يختارني ، عن دون باقي الناس ..فلم تريدني أن أخون ضيفي ، بالخروج عن الصمت ، لأكون عند حسن ظنك ، و توقع الآخرين معي ..؟؟".
 لقد كان يتحدث و ملامح وجهه الدائري الشكل ، تكاد تقول كل شيء عن طموحه الزائد ، و عدم اقتناعه بالكيفية التي تسير بها أمور الحياة بصفة عامة ..أتفق معه في بعض أفكاره ، لكن لم يحصل أن نجح في إقناعي بحالة سكوته و لغز صمته ، الذي يبقى في نظري سؤال الجرح /البطل الإشكالي ، في مجتمع مريض ، و عبقري في نفس الوقت ..مجتمع موزع بين تسلط العصا ، و الرغبة الجامحة في الانفلات منها .

أنفاسفي تلك المقهى المعزولة بين أشجار حديقة السندباد بمدينة الدارالبيضاء، جلس ليقرأ صحيفته الحزبية وهو يرتشف قهوة فاحمة السواد. تصفح العناوين دون أن يجد موضوعا واحدا يستحق القراءة. طوى إذن الصحيفة وأسلم بعد ذلك نفسه لأحلام اليقظة وسط ركام هائل من الهموم تنفجر داخل رأسه بين الفينة والأخرى لتعيده إلى التفكير في هذا الوضع المزري الذي أصبح يعيشه.
انتبه إلى حذائه الذي تقادم ولم يعد ينفع تلميعه بعد أن بدأت جوانبه تتفتق. أخذ على نفسه وعدا بأن يشتري حذاءا جديدا حين يقبض راتبه مع حلول آخر الشهر. فكر لو كان لديه بعض المال، لذهب لزيارة أحد أصدقائه بمدينة إيفران خلال العطلة الربيعية القادمة. لكنه بعد أن محص الأمور، وجد أن اقتناء الحذاء أولى من السفر. أخذ الصحيفة مجددا ليقرأ كلمة العدد. بعد دقائق معدودات رمى بها وهو يردد بصوت خافت: صحافيو آخر زمن، منتحلون لكلام الآخرين، هراء في هراء، كلام مزيف ليس إلا....
جال بنظره مجددا في الكراسي التي من حوله، لا شئ يثير الاهتمام. نهض ليتمشى وسط الأشجار تحت شمس دافئة تغري بإمضاء اليوم كله خارج البيت. لم يكن يعلم أنه سيمضي الليل واليومين الموالين أيضا خارج بيته.
في جولته هذه، سيلتقي المسماة نادية. امرأة قد يتجاوز عمرها الأربعين بقليل. يبدو رغم جمالها الطافح أنها عانس لم تتزوج قط. يحب هذا الصنف من النساء اللواتي يكبرنه سنا، لأنه يعلم أنهن أكثر عطاءا ولا شروط مسبقة لديهن، خصوصا إذا ترأءى لهن بصيص من الأمل في إمكانية الزواج منه. هو لا يكترث، يتركهن يحلمن كما يشأن. لا يقطع عليهن بصيص الأمل هذا، إنه بالمجان ولا يتطلب منه شيئا يذكر. ثم ما أن يقضي مآربه، حتى ينتصب واقفا ويولي هاربا خوفا من إحكام قبضتهن عليه.

أنفاسالصورة الأولى: كاريكتير
المدرسة حجارة في مقلاع عون خمول، جالس بمنامته المتسخة على كرسي يتصفح جريدة مقلوبة .المعلمون تحت ظل سقيفة متداعية في حالة شرود .والمدير برشاقة وسط الساحة ينظم الصفوف .
 الصورة الثانية: في  حضرة الشباك الأوتوماتيكي
يغالب رغباته ـ يصارع أحلامه ـيمني نفسه وهو ينتظر راتبه ..في اليوم الموعود نهض باكرا لأخذ مكانه في طابور الشباك اللعين ، وقد اغتالت الديون والقروض أحلامه ، ينتظر لساعات يزجي وقته باقتيات حسراته ودخان سجائره الرديئة، وبالمشدات الصاخبة مع غيره لأتفه الأسباب .
الصورة الثالثة:سيد النمل 
 وهم يمشون منكسي الرؤوس المثقلة بالهموم كل صباح ، يتحاشون ركوب الحافلات والناقلات ، كاظمين حسراتهم ، ونظراتهم اتجاه كل ملذات الحياة ،  قابضين على دراهمهم  المعدودة بقوة . كان رب المصنع يفتل شاربه  و هو يتفرسهم داخلون  تباعا نحو خليته ، لما أغلق عليهم الأبواب ، عاد بمنامته  لينام . في المساء  حمل عسلهم  ورحل لإيداعه في مستودعاته  معلنا  عن بداية يومه الجديد .

أنفاسما حدث هو أن حجيبة المحمودي اختفت ..
فيما بعد سيأتي فريق للشرطة القضائية, مكون من ضابط وحارس أمن , وسيطرحان الأسئلة المعتادة في حالات الإختفاء , باللامبالاة نفسها التي يسقط بها المطر :
من تكون حجيبة المحمودي هذه؟
لماذا اختفت؟
وأين؟
يعدان باستكمال البحث فيا بعد, ويعودان الى المفوضية.
من:
امرأة متوسطة الجمال..لها خال على الخد الأيمن ونظرة ظل بريقها يخبو مع توالي السنين ..كلما حل شهر مارس, تسمع عن يوم عالمي للمرأة , ثم لا تسمع بعد ذلك سوى أفعال أمر ونهي : " صبني, فرشي, طيبي , آجي سيري , ما تمشيش, ما تعيقيش, اسكتي, كلي ماتاكليش.."
وفي يوم أحد..
أحد عادي جدا..طلعت فيه الشمس من مشرقها ونقلت نشرات الأخبار الصور المعتادة عن الحروب وبذاءات الساسة والإحتباس الحراري, نادى أحد الأولاد:

أنفاسفي البدء كان هدوء ، ليس كأي هدوء ، إنما هو هدوء يشبه الفناء . و الشمس في عليائها متوهجة مشعشعة ملهبة أقاصي الفضاء ،  تصب جحيمها على أجساد بشرية حية أنهكتها الدنيا  لتشويها بهدوء وتسلقها . والطقس  خماسيني مغبَّر . والرئة تبذل قصارى جهدها لانتزاع نصيبها من هواء الأرض الساخن . الرطوبة خانقة مالحة وللنفَّس كاتمة . وسط هذا كله وصلت سيارة الإسعاف ، كنت اسمع صفيرها يوِّن من بعيد .. نعم من بعيد .
في قاع سيارة الإسعاف جسم ممدود ، هو جسد نسائي يتقلص و يتلوى ، والبطن منفوخ كقبة المسجد بجنين ينتظر الخروج إلى دنيانا.. هي لحظات الطلق . المرأة تصرخ بشدة ، و بشدة تتأوه متألمة و تئن . و الجندي الإسرائيلي على الحاجز يبتسم بهناء بعدما لوَّح بيده إيماءة إغلاق الحاجز.. تتابع وصول أرتال السيارات لتحيط بسيارة الإسعاف من اليمين واليسار والوراء حتى ازدحم بها المكان و ضاق ، كأن القيامة قامت وبعثت السيارات من القبور .
 تمر الدقائق وتتحول إلى ساعات مؤلمة و يزداد الصراخ علوا ، هي لا تصرخ فقط بحنجرتها ، إنما قلبها يصرخ و كبدها ، و الجنين يصرخ ، صرخات وراء صرخات حتى غرقت الدنيا في عباب من صراخ .
في البداية كانت تصرخ : آه .. ثم : أخ .. ثم : أي .. ثم : آخ .. ثم : وي . ثم صرخة قوية مزلزلة ابتلعت كل الصرخات و الأصوات المحيطة ، هي صرخة جريحة طويلة ممطوطة و مذيلة بآهة خشنة كمواء قطة كسر عمودها الفقري للتو ، أو كأن شفرة سيف تقطع أوصالها ..

أنفاسكالأمل نهض الأب العتيد، من عفن مزيج برائحة كبريتية بالغة الثقل، وساوى خصلات صلعته المتصعلكة في فضاءات ضائعة من يوم اغبر، غامض كبقية أيامه التي مضت دون مستقبل سيستحق الفخر.. متمنيا إبدال حرف (ص)* إلى حرف (هـ)،* ومتنفسا بكل مساحة صدره الذي كان يخشخش مثل كيس مثقوب، و كأنه يشخب مذبوحاً بفوضى كل حروف الموسيقى المعزوفة في وقت واحد. نهض من فوق الركن البارد في الغرفة الوحيدة الرطبة المزدحمة بروث أولاده الغرّ الميامين، فأول مرة كان يشعر أن يودع فراشاً امتص منه أطنانا من العرق في الاصياف المتخاذلة، و لم يصدق بأنه فارق ذلك العفن وبقي متيقنا إلى الأبد بأنه تخلى عن ظله الذي تراكم في نقطة قطرها اقل من الصفر، وانه خلف فيها أطنانا من الأحلام المقموعة بألف حاجز، و قليلا من رائحة (يوريا) السجن الانفرادي التي تعود عليها انفه بديلة رائحة الشبوي الليلي التي كلما كان أيام زمان يشمها في طرقات بلده وأهليه.. يتذكر امرأة غاصت ملامحها من البعد السحيق قد ضاعت كالأمل الذي كان يملؤه.. يتذكر كالومض الخاطف الأشياء التي جعلته حياً، صورة، تلو صورة، كما يتهيأ المحتضر للموت، فأول مرة عاوده إحساسه بأنه قد ظلم جوقة حشرات طيبة كانت تعيش بفضل نومه الطويل، ذلك الظلم الذي يفكر فيه سيستدرجه إلى تغير في قراراته المستقبلية، فعهد الظلمة الدبقة في كل الأرجاء، بدأت تذوب كالجليد بعد أن كانت تغلف الألوان المفتوحة بالحزن المغلق، ولكن الزعيق الهستيري المتواصل إلى أذنيه هديرا، بقي يدور في الذهن كالزلزال، لم يكن إلا انعكاسا واضحاً لنقص في الطعام، والاوكسجين.. الجوع الذي حجر معدته الخاوية قد جعله يعرف الطبيعة البشرية، التي تنفجر من أي تصرف، وربما تؤدي الى كوارث ليست في الحسبان..

أنفاسطردوني ...
هكذا دون أن أفعل لهم شيئاً، ودون أن أؤذي أيّاً منهم. طردوني وقد كنت واقفاً بينهم كجدار آيل للسقوط. وقفت أنظر إلى تلك الحفلة التي ضجت بالمهنئين، بعضهم يرقص، وبعضهم يغني، وأنا كما أنا، أتراوح بين الظل والنور، أعبث ببعض الحجارة بين قدميّ، أعبث ببقايا قطعة خبز في فمي. مللت الوقوف جانباً، فحاولت الخروج عن صمتي، نظرت نحو هاوية الموت، حيث شبان المخيم كله، يرقصون حتى الثمالة، حتى الموت، ورقصت، كلبيب أدرك الجنون أخيراً، رقصت حتى شعرت بالجفاف، بكيت وأنا أرقص، تطايرت دموعي مطراً مولعاً في الانفراج، وفجأة، جاءني أحدهم، طويل القامة، سامقٌ، ذو أنف مدبب، أمسك بتلابيبي وألقاني كورقة بالية في مستنقع للقمامة، وكحاوية كبيرة أحتضن المكان، حاذيت جدران المخيم المتصدعة، هربت من عينيه، ووقفت أنظر مرة أخرى إليهم، يتهافتون كأغصان تتراقص طرباً بمقدم الربيع، وقفت جانباً وأنا ألوك نفسي غيبةً، أهتف في نفسي:
-    لماذا أنا؟!
أصمت، صمتاً مدقعاً كجبال لم تبرح أماكنها...
-    لماذا أنا؟!
أقسم بأني آخر العقلاء في هذا الزمن المريب، وبأنهم أدنى مني جميعاً، أقسم بأنني لا أعرف شيئاً من سوءاتهم، ولا أفكر بها، أنا لا أعرف شيئاً عن حكاياتهم الحمقاء، لكنني .. لكنني - ودموعي تتناثر رغماً عني - أعرف بأني قبيح الخلقة وذميمها، نعتوني بالأبرص، ذي العين الواحدة، نعتوني بصاحب أسنان القرد، واحتملت إساءتهم لي، لم أشأ أن أضرب أيّاً منهم، بعيني الواحدة أرى الكون كله قبيحاً، أقبح من هيئتي تلك.