anfasseأخذته؛ لتضربَ في سجادِ ربيع؛ فظللتهما أسرابُ نوارسَ؛ رآها الصغيرُ تحت قرصِ الشمسِ غيمةً تعدو، وجواره أمّه رفعت جذعها؛ كان في عينيها خبرٌ يرتجُّ؛ يدُها النحيلةُ أخذت أمامها تطوف، ومع تنهيدةِ نارٍ سمعها تقول:
- هناك!
لم يفهم؛ لكنها أشعلته:
- تحت تلك الجُمَيزةِ يرقدُ أبوك!
لحظتها مسّه جان، ولقد اهتزّ؛ حتى جاءه من الجوِّ جناحٍ؛ أصعده؛ وتحت جذعِ الشجرةِ أسقطه كملتاع، فطفق يبوسُ الجذعَ، ثمَّ يدققُ في التربةِ كمسحور!
أكملت:
- وحدي دفنتُه يوم قتلته اليهود!

anfasseحذار أن تمدّ يدك مصافحا، سيتخمك الموقف وتردّها خائبة، منكّسة إلى جيبك، بكلمات مقتضبة ستحيّيك، ونظرة سريعة سترمقك، ولأنك كريه أو بدون رائحة.. ستحتفظ بمسافة تليق بشممها.. تصعير الخد والتعالي جزء منها، وعلّتها مذ تسنّمت مقعدا أرجوانيا، جدك ربما هندس أركانه!  ادبرها أنت الآخر، واستعد رزانتك ثم انكأ جرحا قديما.. " يحسن بي تفهّمها، ردود أفعال ليست إلا! " هكذا علّل صفاقتها. تمش على الرصيف الندي، دعها تنقره لتقرر أمرا.. قبالة المدخل الزجاجي تسمّر، وتأمل الحياة في المحطة بتلويناتها.. شاب يطارح حبيبته الغرام، تنهّد ملء ذكرياتك، وزُمّ شفتيك ثم همهم معلقا.. وقبل أن تلوي عنقك لتصيّد خربشة أخرى، ينتصب الجسد أمامك، بالكاد ينعكس.. الاكتناز ذاته، والشموخ نفسه.. يستحيل الانوجاد بدونك يا قذرا في عينها! حافظ على هدوئك والتفت، دعها تُبحر في عينيك، تتفرّس، تبحث عن ألق يؤيدها بروح الجلد والصبر، فلن تجد غير خواء يصلبها، يدعوها لحمل خطاياها  وإدانة شطحاتها وحبها الوهمي في الجسد، اتركها تبادر بالكلام.. فلست في ورطة، لم تقطع عهدا أو خالفت وعدا،  وقبل أن تنخرط في أي عتاب أو حوار، شقّ صدرك، واعصر قلبك، واستعذ بالعقل من الحب الرجيم!

anfasseهل كان عليها أن تبحث عنه طوال كل هذه السنين؟ وأن تجتهد في الطواف حول كرة الثلج كمجنونة لا تهدأ؟ هل كان عليه أن يحبها ويختفي دون وداع؟ أسئلة تطن في رأسها كبندول ساعة لا يتوقف، ثم ينتهي كل شيء.
***
إبريل 1987
... هاجساً وحيداً ما كان يؤرق مضجعها، يحاصرها فلا ترى سواه. وجهه الشاحب، عيناه المغمستان بحزن المخيم، وشوق لأنفاس معطرة تراوح المكان، تحاصرها، تجيش بصدرها فلا تنام بغير الحلم، والحلم ما كان في تكوينه.
يومها حاولت أن تدرك طريقه بأي وسيلة كانت، وبأي ثمن. فدفعت من أجله كل ما تملك. اتصلت بأصدقائه، برفاقه الذين تعرفهم والذين لا تعرفهم. تاهت في أرجاء المدينة البعيدة، دون أن تحظى بإجابة تشفي غليل روحها. حتى نبوءة العرافة لم تصدق معها، وباتت ضرباً من جنون. فالتعاريج والخطوط التي تسللت عنوة إلى كفيها خانتاها في سبر أغوار الطريق إليه. والعرافة تنزوي، لتدرك فشلها في طريق العارفين.

anfasseلم تـكـن تـادلا سـاحرة فـي عـيـنيه كما كانت ذاك الصباح … لقد اخترقها النهر منذ آلاف السنين لكنها ظلت مجرد محطة يرسو على غربتها وهم الصيادين وشرود القوارب الصغيرة .
هـا الـنـهـر اليوم يـجري كعادته ، لـكـنـه عـلـيـل ، مـتـرهل ومنكمش حد الإغماء … الماء لم يعد ماء بعدما اخـتـلـط بالمجاري الراكـضة ومـات الـسـمـك بـيـن عـفـونته … فقط بعض الأماكن البعيدة ما زالت تهب ماء النهر صفاءه وعفوية الانسياب بلا فواصل أو نقط تفتيش .
ففي الأماكن الموجودة بين هضبـتـيـن يـنـسـل هـذا الـمـجـرى الـعـذب الذي أصبح ملجأ هادئا لحياة يتهددها الموت المؤجل في كل اللحظات … هـنـاك ، دأبـت مـاريـة أن تـصطـحـب قـصـبتها لتنسى شحوب العالم وتتذكر شـيئا من طفولة مترفة على ضفاف السين حيث الحلم ينتعش دائما بروايات الفنطازيا التي ظلت ذاكرة الطفلة حريصة على تتبع خطى أبطالها .
وهناك ، أيضا كان حيدر ينبعث من رماد كتاباته لينفلت من غربـة سحيقة لفت خاطره بأزمنة كثيرة وسؤال واحد .

anfasseضرب الأخماسَ في الأسداسٍ كعادتِه في كلَّ مساءَ، فصالَ مرعدا، وجال، فذبحَ ألفا أو يزيد ذبحَ الخراف الراجفات، تخيّر فيهم متلذذا مواضعَ سيفِه، فحزَّ الرقاب، وبقرَ البطونَ؛ ثمَّ مال على السَّبايا، فاركا كفيّه، فانتقى الفارعاتِ المستسلمات، ثمَّ ساقهن مهمهما إلى فراشِه كما القطيع، فضاجعَ ألفا، أو يزيد، ولمّا فرغ؛ عاد إلى الغنائمِ؛ يجمعُ ما استطاب، فكنسَ الأراضيَ بنظرةٍ، وأشار بإصبعه، فامتلك كلَّ المزارعِ في الجوار، ثم مال فاحتضن ما شاءَ من ذهب، وكنزَّ الحقائبَ، ثمَّ استفاض؛ فاستزادَ بضربةٍ، نظفَ الكونَ مما تبقى، أو رآه فيهِ قد علق، بعدها أغمض عينيهِ، وقد ارتضى، فاستراح، وعلى وجهه ارتمى مثل غريقٍ، وقد غفا!

anfasseرياح الفراق هبت..بثت الرعشة في جسد الليل الهادئ ... تدفع بمراكبي نحو المجهول...و أنا ما عدت قادرة على التجديف... همومي أثقلت كاهلي ، هزائمي شاخت لها آمالي قبل الآوان، مجاديفي اهترأت ... لا بصيص أمل يهديني لبر الأمان... و مراكبي ما عاد لها شراع يضحك لمداعبة النسيم .. و يزمجر أمام العاصفة.....
ظلام في الأفق و غضب يشق السماء...أنظر خلفي فلا أرى سوى شبح فرحة هزيل يعذبه مارد الحزن...فيصرخ من الحسرة و الأسى. إنها رحلتي الأخيرة في بحور الخيبة، الأخيرة تحت سماء المرارة...فقد قررت أن لا أبحر من جديد.. لن أبحر لجزر الوهم ألاحق سراب الحب، أنقب عن كنوز الغرام...و أجني خيبات الأمل.

parabole.jpgعلى سريرِه؛ في غرفة بيتِ المسنين؛ جاءه الصوتُ الأنثويُّ متأوِّها، يقطِّعُه شيءٌ من الأنين، رأسُه سخن؛ ثمّ صار يغلي؛ قام كما لم يقم منذُ زمنٍ، صيحةٌ ناعمةٌ أخرى ممطوطة نادته؛ فاندفعَ إلى السلمِ بسروالِ البيجاما؛ ثمَّ بيديه الناحلتين بدأ يتسلَّقُ حافتَه، فُتح بابٌ جواره؛ وعجوز مثلُه أطلَّ بملابسِه الداخلية، فوقهما كان الصوتُ ينتفضُ، ثم يتراخى ناعما مثلُ الحرير، انتفضت مآقيهما، وقد تبسما، شيءٌ من الدمع أيضا أطلَّ، تفتحتِ الأبوابُ في العالي، والهياكلُ خرجت زاحفة، صاروا مسيرة سيقانٍ راجفة، لكنَّهم على السطحِ توقفوا يفتشون حائرين، لم يكن هناك سوى لاقط الإرسال يتأرجحُ مع الريحِ، ويصفرُ مثل أنثى جريحة!

السماء ملبدة بغيوم داكنة. الطيور القريبة من سطوح العمارات تحلق- بوداعة- في أرجائها، ثم ترحل بعيدا في الأفق، وتغيب في السحب كما  أنهاتتلاشى.جلس –كعادته-  على كرسي بلاستيكي جامد وبارد، والذي ينوي أن يستبدله بآخروثير متحرك، حين تعيد له أخته مبلغا كبيرا، كان قد أعطاه قرضا لها .اشترت به  عقد عمل باسبانيا.
 قبالة شاشة الانترنيت في البيت، وعلى جانبه الأيمن نافذة  عريضة من زجاج يرى من خلالها- من حين لآخر- العالم المقلوب على رأسه، من الطابق الخامس، الذي يسمح له أيضا بأن يفكروهو يرمي بنظراته الى العصافير المحلقة في السماء.
الأم التي جاءت من مدينة تحبها حد الموت،لتشاركه الأيام وتتقاسم معه الحياة في بعض تفاصيلها – لوقت غير مسمى- تركت هناك عمرا وتاريخا طويلا، تجره معها في كل اللحظات، وتستعيده في صمت البيت وسكون الليل.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة