" أعترف بأني ولدت وفي نفسي نزعة عقلية تجعلني أجد اللذة القصوى في اكتشاف الحجج بنفسي، لا في الإصغاء لحجج الغير" [1]
إذا كان ديكارت، إسوة بأفلاطون، قد جعل من العقل الإنساني صورة من العقل الإلهي ينطبق عليه ويعبر بالضرورة على آثاره في مخلوقاته بصورة رياضية وظل واثقا من قدرته على فهم أسرار الكون واكتشاف قوانين الطبيعة التي تتماثل مع قوانين العقل المطلق ، فإن كانط تحت تأثير هيوم ونيوتن قد وضع حلا نقديا لمبدأ المطابقة وشيد العقلانية النقدية لتحل محل العقلانية المطلقة الديكارتية ، وجعل شروط التجربة الظاهرية تفرض بالضرورة على الطبيعة قوانين الفكر ، وألح على أن تمتثل الطبيعة لأطر العقل حتى تتم معرفتها وانتبه الى أن الذات العارفة هي المشرعة على الصعيد العلمية ولكن رأى أنها لا تدرك من العالم الخارجي الا ما يتم تمثله وفق مبادئ العقل وقوانينه التي يضعها بنفسه.
على هذا النحو تكمن الإشكاليات الرئيسية التي أثيرت حول حاجة المقاربة العقلية للمراجعة النقدية في الأسئلة التالية:
هل من تعارض في أن يكون العقل ملكة نقدية وأن يحقق التواصل بين الذات ونفسها والعالم والآخر؟
هل يشتغل العقل بصورة بديهية أم وفق مبادئ وقوانين؟ وهل هذه القوانين فطرية أم مستمدة من التجربة؟
هل هناك عقل كلي واحد ينطبق على جميع الناس أم توجد فقط عقول فردية تشتغل وفق خصوصية معينة؟
العنف وثقافة التحريم، أو في لزوم العنف عن المقدس ـ خلوق السرغيني
من البديهي أن موضوعة العنف تثير اليوم جدلا واسعا بين أهل النظر من الفلاسفة والمفكرين، ولَإن صادروا على واقعيتها، فإن الاختلاف بصدد المصادر التي يمتح منها السلوك العنيف يظل سيد الموقف. وإذا كانت هناك بعض التصورات تؤكد على الطبيعة الطبيعية للسلوك العنيف، فإنه يمكن القول بالمقابل أن للمعطى الثقافي الدور الوازن في بلورة أسس دوافع هذا السلوك، خاصة حينما يصبح هذا المعطى ضمن المسكوتات/المحرمات الاجتماعية المحاطة بهالة من التقديس التي لا يجوز انتهاكها. فكيف إذن تنتج ثقافة التحريم السلوك العنيف؟
في البداية يمكننا التأكيد أن ثقافة التحريم التي تتحقق في العبارة التالية: "من الحرام أن..."، لا يمكن إلا أن تكون ثقافة واحدية وأحادية: واحدية لأنها لا تعترف بمشروعية أية ثقافة موازية، وترتد بالمقابل على نفسها في إطار انغلاقها الثقافي التشريعي، فهي الخصم والحكم في نفس الوقت، وأحادية لأن الغاية التي تنشدها واحدة، وكل غاية لا تنتمي إلى الغاية-المجموعة التي تدعو إليها تعتبر لاغية، ولما كان الأمر كذلك فإن ثقافة التحريم هاته هي ثقافة لا يمكن أن تنتج إلا التعصب، هذا الذي يكون المشرع الأول للعنف، فبأي معنى يلزم العنف عن التعصب الذي يسم ويصم ثقافة التحريم المقدسة؟
إن التعصب هو عنف تمارسه الذات تجاه الغير اعتقادا منها أنه على خطيئة(رمت هنا المعنى الديني ،حيث يكون العنف مقدسا تجاه الفعل المدنس الذي ليس إلا خطيئة مصدرها الغِوَاية الشيطانية ،يمكن أن نستحضر هنا فعل الأكل الآدمي ،أو فعل القتل القابيلي) أي أنه فعل نبذ يقوم به الإنسان -فردا كان أو فئة- للمختلف عنه لا للمشارك ،وقد يكون هذا الإختلاف في الملة أو في السياسة أو في العلم ...عموما في تصور الأنا للعالم ،وذلك من منطلق أن هذه الأنا الأخرى على ضلالة ،بينما الأنا المتعصبة تكون دوما مصيبة في أحكامها وأفعالها أيضا ،كما أنها تمتلك اليقين والصدق التامين بصدد ما تتعصب من أجله ،طالما أنه مقدس ،والذي يمكن أن يكون قولا أو فعلا أو مكانا ،شخصا ،رقما...لكن إذا كان الأمر على هذا المنوال كيف يمكن لفكرة أو قول أو رقم حتى ،أن يكون جدرا للتعصب ودافعا لممارسة العنف؟
ديمقراطية المواطنة وشرعية الحقوق ـ د.زهير الخويلدي
" إن الإنسان يكون قيما على نفسه بقدر ما يكون عيشه على مقتضى العقل وبالتالي لأن المدينة تكون أشد بأسا وأكثر استقلالية بقدر ما تقوم على أساس العقل وتحتكم به"[1]
تمهيد:
لا يكسب الإنسان صفة المواطنة إلا ضمن إطار الدولة والانتقال من وضعية الفوضى الطبيعية إلى الحالة المدنية ولا يصير فردا يمتلك جملة من الحقوق ويحترم قيم العدالة إلا في إطار سيادة الدولة. وكأن الفرد دون مواطنة هو كائن بلا إنسانية ودولة دون سيادة هي كيان بلا وظيفة ودون نجاعة، ولذلك استوجبت النظم الديمقراطية احترام العدالة الاجتماعية وتوفير الحقوق الأساسية للمواطنين.
لكن هل يكفي إيجاد نظام ديمقراطي في دولة ذات سيادة لكي يتمتع معظم الأفراد بصفة المواطنة؟ ماهي شروط قيام الديمقراطية في الدولة؟ هل هي توفير المواطنة بالحق أم حماية السيادة بالقوة؟ ألا يعود تفشي الاستبداد والظلم وإنتاج الفوارق الاجتماعية إلى الحوكمة السيئة للموارد والثروات؟ والى أي مدى يتطلب إعطاء الحقوق للأفراد إيجاد آلية تسهر على توفير مطلب العدالة الاجتماعية؟
الرّهان الذي يمكن استهدافه من خلال دراسة هذه الإشكاليات يتمثل في تفادي كراهية الديمقراطية والتخلص من العوائق التي تحول دون تجسيدها على أرض الواقع ( الطغيان، الاستبداد، الشمولية، العنصرية) والسعي لتحقيق الموازنة بين حقوق الأغلبية وحقوق الأقلية وإعطاء الفرد منزلة لائقة.
المهارة البيداغوجية التي تبقى موضوع اشتغال في الساحة الحقوقية راهنا هي تنمية الشعور الوطني وتعزيز قيم التعاون والتكافل والارتقاء بالروح التشاركية والمنزع البنائي وتثمين العقل الجمهوري والذكاء الاجتماعي وربط الهوية الفردية بالذاكرة الجمعية والتراث القومي والرأسمال الرمزي.
1- الفرد بين المجتمع والدولة
قراءة في الفصل الرابع من كتاب الماركسية وفلسفة اللغة "ميخائيل باختين" ص63-84 ـ ياسين إيزي
المرام من هذا المقالة المصغرة هو تقديم قراءة في الفصل الرابع من كتاب الماركسية وفلسفة اللغة لصاحبه ميخائيل باخيتن، وهو الفصل الذي يعرض الاتجاهات الفلسفية-اللسانية التي تحدد موضوع فلسفة اللغة، وهو ما يبين لنا أن الإشكال الأصلي لهذا الفصل هو موضوع فلسفة اللغة، إذ أن تحديد هذا الموضوع هو الذي سيبين لنا المنهاج الأصلح لمعالجة هذا الفرع المعرفي، وهو التحديد الذي يمكن أن يقدم عبر تعريفات شاملة للغة والكلمة، كما أنه يمكن القول ولو على سبيل التأويل أن الهدف من عرض باختين لهذه الاتجاهات الفلسفية، هو البحث عن حدود الاتصال والانفصال فيما بينها من أجل ضبط قولها والانتقال إلى نقدها في فصول أخرى.
فما هو المنطلق الذي يقدمه ميخائيل باختين من أجل تحديد موضوع فلسفة اللغة؟ يقول:
"ليس الذكاء هو الذي يبحث، في بداية العملية الاستكشافية – بانيا القواعد والتعريفات- وإنما العيون والأيادي هي التي تجتهد من محاولة القبض على الطبيعة الواقعية للموضوع." ، فهل تتجلى واقعية اللغة بما هي الموضوع المعرفي المدروس، في كونها ملموسة ومحسوسة بالتعريف الضيق للمادية؟، يجيبنا باختين بأن هاته العيون والأيادي غير قادرة البتة على الإمساك بطبيعة اللغة، وهو الشيء الذي لا ينفي أن لها طبيعة محسوسة ممثلة في "الصوت"، لذا نجده يعبر فيقول بأن الأذن ربما هي الأقرب للإمساك بهذه الطبيعة المحسوسة، غير أن ذلك يفتحنا على إشكال آخر، فدراسة الصوت بما هو ظاهرة فيزيائية من اختصاص الفيزيائيين، بالتالي كان الصوت لا يعبر عن الحقيقة الكاملة والطبيعة التامة للغة، أما إذا تم الاقتصار على الميكانيزمات العضوية المنتجة للصوت أو كذا النشاط الذهني/الفكري المولد للغة، سيتم اختزال ما يسميه باختين "الواقعة اللغوية" في ما هو نفسي وعضوي، وهذه الجوانب الثلاثة المكونة لطبيعة للغة دون أن تكون هي ذاتها الطبيعة الكاملة للغة، تضعنا أمام مستويين، الأول: أن طبيعة موضوع فلسفة اللغة هي طبيعة متشابكة ومركبة، الثاني: أنه بالرغم من عدم إقصاء الجانب الفيزيائي (الصوت) والعضوي والنفسي، لم نصل بعد إلى الطبيعة الواقعية الكاملة لواقعة Factum اللغة، مما يدعونا وبحسب باختين إلى البحث عن جانب آخر مما يجعله شرطا في تحديد اللغة، وهو ما تم التعبير عنه بـ الشرط الاجتماعي. يقــول باختين:
تجديد التربية من خلال إيتيقا الفكر المركب ـ د.زهير الخويلدي
" يجب إصلاح الذهنيات لفهم القيمة الحيوية للفهم وهذا ما يفترض بطريقة تبادلية إصلاح التربية"[1]
تقوم البيداغوجيا المركبة التي يقترحها موران على ثلاث مهارات يفترض أن يقتدر عليها كل مدرس:
- الوصل بين المعارف نظما وتأليفا وربطا وتركيبا وليس تجميعا أو مراكمة أو تكديس أو خلط.
Relier les connaissaces ويكون الغرض هو استهداف معرفة المعرفة.
- شحذ الذهن بشكل تام la tete bien faite وذلك من خلال التمرين والتحضير والتركيز والإعداد من أجل عرض وتدريس المشاكل الجوهرية والضرورية بدل أن تظل مخفية وجوهرية.
- إدماج الاختصاصات الموجودة من أجل رفع التحديات التي تعترض حياتنا الفردية والثقافية والاجتماعية والكشف عن الألغاز العميقة التي تتعلق بالكون والحياة والكائن البشري .
على غير عادة الحداثة الغربية يدشن موران حقلا يند عن كل قرار تجتمع فيه الأفكار الفلسفية والمعتقدات الدينية دون الوقوع في الوثوقية والاختزالية والتبسيط والمراوحات ودون الارتداد للتعصب واللاّتسامح.
لقد أعلن موران عن خطته المتمثلة في التداخل بين الاختصاصات ملكي فعل تربوي من أجل مستقبل قابل للتطبيق والحياة والنمو وواعد بالممكنات.
من هذا المنطلق تتمثل المعارف الضرورية من أجل إصلاح التربية في النقاط التالية:
1- إدراك المعارف العمياء les cécités de la connaissance
من اللازم تحقيق التواصل بين المعارف في مستوى الأدوات والصعوبات والمطالب من أجل معرفة ما يتم معرفته والتعامل مع المعرفة على أنها أداة وقائية من المخاطر الدائمة وعلاجية من الأخطاء والأوهام.
" من الضروري أن يدشن التعليم ويطور دراسة في الطبائع العصبية والذهنية والثقافية للمعارف البشرية، ولمساراتها وكيفياتها واستعداداتها سواء الفيزيائية أو الثقافية التي تكون تحمل خطر الخطأ أو الوهم"[2].
مغامرة العقل الفيزيائي ـ عمار طرابلسي
فجأة سقطنا في أطوار المدارات المبهمة، فبعد الإعلانات العلمية الكبرى من كوبرنيكوس وغاليلي والمعرفية من بيكون وديكارت ولوك دخلنا مرحلة جديدة تنزع إلى العودة لأزمنة ما قبل الإنفجار العقلي والعلمي الحديثين، وعلى حد وصف الفذ الفلسفي نيتشه "العائد الأبدي" فهي تكرر صورة من شكلها الماضي في الحاضر والمستقبل، وبالرغم من أن قول نيتشه يصب في تأويل الوجود والكون إلى أنه يرتقي لتفسير حركة التاريخ فيم هو قائم من صراع حاد حول مرجعية البُنى العلمية التي قَدِمت في إعطاء صورة مطلقة صدقتها كل المؤسسات العلمية والدينية حول شكلية الوجود الكوني.
لحد الآن؛ كل ما وردنا من تفسيرات فيزيائية حول الوجود الأول وطرق تكوّنه انطلق من أزمة برهنة علمية وانتهى إلى مواقف فلسفية وفي أحيان كثيرة تخفى وراء معاني لغوية تنشد التعميم لا التجزيء بخلاف ما يريد العلم أن يصل إليه؛ أي تفتيت المشكلة وإدراك أجزائها ثم تركيبها على نحو الكشف الكلّي لها مضيفا لها الأحكام العامة والخاصة لتشكيل نتائج واضحة غير مبهمة أو غامضة.
وحريٌّ –بنا- أن نتساءل بدئيًا وبصدق قبل تسليمنا المطلق والمتراخي بشدة حول ماهية النموذج الذي اعتمده الفيزيائيون في استوضاع مجال للمقارنة الرياضية؟ وبشكل أكثر وضوحًا ما الذي يجعلنا نُسلم بدقة الكون محل مجال البحث والإثبات؟
تقول الأصول العلمية لنظرية "الإنفجار العظيم" مثلاً أن السؤال القديم لا يزال مطروحا وهو ذلك المتعلق بالمادة والدائرية المحدودة والانكماش الحاصل لهذا الكون، ويذهب منظرو هذا الموقف إلى إقراره بالسؤال الحقيقي حول "المادة اللامتناهية في كتلتها وعمل الزمن عليها" فهل هي محدودة الكتلة ولها منطلق زمني؟ وفي إجابتهم على هذا يتصورون أن الكون دائري الشكل بطريقة واسعة لأن به مادة محدودة، فلو كان سطحيا لتصوره العقل على أنه لا متناهي زمنيا، وكتلته غير محدودة، لكن دائريته هي التي تفرض السرعة القصوى لحركة الأجرام السماوية بسرعة الضوء. وعلى هذا النحو -حسب اعتقادهم- فإن هناك مادة أولية نشأ منها هذا الكون، وبداية زمنية محددة.
فلسفة الحياة اللاّفلسفية ـ د.زهير الخويلدي
" كل سبل الحياة الفلسفية هي أنماط حياة طباع متعددة حددها العقل والعادة وكلها منعطفة نحو ملذات الحياة ونحو تحقيق الكينونة"1[1]
في البدء تبدو الفلسفة philosophie على خلاف تام مع الحياة، فهي تمكن المرء من الانتماء إلى دائرة التفكير وترتبط بحب الحكمة وتحتل مكانة بارزة في نطاق المعرفة وتشتغل على الاستدلال البرهاني، في حين ظل المرء يتحرك ضمن غريزة الحياة وينتج تصورا للعالم وينمي مقدرة ذاتية للتصرف وفق جملة من التوجيهات الحياتية ويرهن التقدم الاجتماعي بالمعرفة العلمية ضمن رؤية علمانية للوجود تعتمد على الإنسانوية ومبادئ الأنوار وتناهض الدين. ترتبط الفلسفة بمحب الحكمة الذي يظل في مرتبة وسطى بين الجاهل الذي يعتقد في المعرفة والحكيم الذي يمتلك علم المطلق ويدرك الغايات النهائية والعلل القصوى.
كما يمكن التمييز بين الحياة البديهية التي تمثل ميدان عمل رغبات الجسد وتحقق الحاجات المادية والمصالح الدنيوية والحياة الفكرية التي تتغذى من استعمال العقل والتدرب على طرح الأسئلة وتتحول إلى مغامرة فكرية ورحلة وجودية تبحث من خلالها عن المعنى والقيمة وتراجع البديهيات وتحرك السواكن.
نقيض اللاوعي أو تأملات ما فوق العقل الاعتيادي ـ عمار طرابلسي
لم يحظ أي مشروع فكري أو ثقافي مُعرب أو عربي ببلوغ القدر الكافي من الوصول إلى العقل والتعمّق فيه ودراسة أشكال السيطرة عليه ومحاولة تحريره منها؛ بل إن أغلب المساع غرقت في التنظير لأسئلة القيم ومجارات الحركة العلمية الغربية أو الحديث عن الثقافة بمنظور شاحب لا يعطي ملامح التفكير والبناء.
إنّي على قدر من القول: "بأن كل محاولاتنا لم تخرج عن أحاديث السوق الشعبية" والذي يسميه البعض مشروعات ومشاريع فكرية وفلسفية وثقافية هو مجرد تنظيم للأفكار البدائية المستمدة من العقل المجتمعي واستوضاعها في الكتب تحت طائلة مجموعة من المفاهيم المقتبسة عن الثقافة الغربية أو التفلسف بطريقة غربية في أفكار جماعية معروفة ومدركة سلفا.
بالأساس لم نكلف أنفسنا عناء خوض غمار مشكلتي المعرفة والوعي، فمن اللامعقول أن نُشرّح مشكلة نكوصنا الحضاري من منظورات الثقافة والقيم، بل أن نعود للأقسومية البدئية "حالنا مع المعرفة"، و"تقدمنا في مراحل الوعي" وما الثقافة والقيم إلا نتاج تقدم الحركتين الأوليتين لإدراك الإنسان "ذاته" بوصفها عارفة ثم واعية.
وهذه الغفلة التي تطال من يسمُّون أنفسهم "مفكرينا" أي أولئك الذين يعتقدون أو يعتقد المتأثرون بهم أنهم -حاملو لواء الصراع الحضاري- ما بعد الفترات الاستعمارية الكبرى، بدأت من حيث أن هؤلاء حاولوا تأسيس نصوص فكرية انطلاقا من المقدمات الغربية وفي الغالب هو ذلك "الاندهاش" بما قدمته المذاهب الغربية الكبرى من فلسفات ومناهج ومفاهيم ورؤى غيرت مجرى تاريخ بيئتهم نحو مستقبل جديد مستقل عن الماضي الفوضوي الذي غمر أعمار كبرى من أزمنتهم السابقة.
تأملات أولية في حدث ظهور ما هو موسيقى ـ عبد الناصر حنفي
"لو لم تكن هناك موسيقى لكانت الحياة خطأ"
نيتشه: "غسق الأوثان"
-----
"وأما الأوتار وسائر النغمات التي ليست مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيرا عجيبا ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الآثار وقد يعبر عنها بالشوق ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه فهو عجيب والذي اضطرب قلبه بسماع الأوتار أو الشاهين وما أشبهه ليس يدري إلى ماذا يشتاق"
أبو حامد الغزالي: "كتاب السماع والوجد"
من الصوت إلى الموسيقى
1-
ثمة لغز عصي على التأمل في طبيعة "ما هو موسيقى"، ذلك الذي يقدم نفسه بوصفه تلك الساحة التي يمكن أن ينفلت فيها الصوت دائما من كل ما يعود إلى المعنى أو الدلالة (بطبعاتها المختلفة)، ومن كل ما يمكن العودة به إلى ما هو متعين أمام الوعي، بحيث سيبدو وكأنه ذلك الفضاء الذي يتجاوز فيه الصوت أي ترابطات ضرورية يمكن افتراضها، أو أي ترابط مستقر ومتكرر مع ما هو خارجه.
ما هو موسيقى إذا هو فضاء تحليق الصوت المنفرد بذاته، والذي يمكنه أن يستقطب التفات العالم إلى حيث يذهب.
وبرغم أن الصوت الموسيقي هو في النهاية مجرد "حدث معاش على نحو مباشر"، إلا أنه يبدو نمطا فريدا للغاية في إطار كل ما هو معاش.
2-
كل "حدث مباشر" هو "ظهور" مصمت وممتلئ بذاته، ومنقضي في الزمان على نحو لا يسمح باستعادته، بحيث إنه ما إن يظهر حتى يتلاشى تجاه ما هو عدم، وبالتالي فلا سبيل لحفظه أو استبقائه معرفيا إلا عبر دمج تكرارات حدوثه -غير المتجانسة بطبيعتها- في ترابطات أوسع نطاقا، وأكثر تنوعا، مما يفضي إلى ظهور ما يمكن النظر إليه بوصفه "مكون معرفي كنائي" *، أي ذلك المكون الذي يضم سلسلة الوقائع المتكررة لظهور "الحدث المباشر" في كتلة مصمتة تتبدى وكأنها وحدة واحدة.
ثقافة الذكاء بين اللّغوي والإرادي ـ د.زهير الخويلدي
" الذكاء هو القدرة على الاستفادة من الخبرات السابقة في حل المشكلات الحاضرة والتنبؤ بالمشكلات السابقة" – جودارد godard
لم يقتصر التفكير الذي ينخرط ضمنه الإنسان على أدوات الإدراك وسبل المعرفة ولم ينحصر على الحواس والخيال والذاكرة والموروث بل شمل أيضا تحليل قدرات الذكاء وطرق استعمال اللغة ووظيفة الإرادة والميول والدوافع في توجيه الأفعال وتجسيم الأفكار والانتقال بها من حقل النظر إلى حقل العمل.
في هذا الصدد أين تناقش قضية صناعة الذكاء؟ هل ضمن دائرة البيولوجيا الموروثة أم ضمن التجربة الإدراكية المكتسبة؟ وهل الذكاء وظيفة نفسية أم مهارة عرفانية تتكون من تفاعل جملة من العناصر؟
إذا كانت الثقافة هي بنية مادية ومعنوية في نفس الوقت تسعى إلى السيطرة على الطبيعة وتغييرها المفيد من اجل مصلحة الإنسان عامة وإذا كانت تمثل طريقة حياة متميزة تحتوي على مجموعة من الأنماط السلوكية والمنتجات المادية والفنية فإن الحضارة هي حكم تفضيلي يرتبط بالتقدم التقني والعلمي ويقوم على نكران الغرائز والإكراه على العمل وتعمل على ضمان بقاء المجتمع واستمرار ازدهاره.
اذا كان مجتمع الوفرة يتميز بقدرة صناعية وتقنية هائلة ومستوى مرتفع من المعيشة وتركيز على القوة الاقتصادية وتحكم في السلوك الفردي والجماعي في أوقات الفراغ ضمن أداء وظيفي موحد فإن مجتمع المعرفة يتصف بالقدرة على الإنتاج باستخدام الذكاء الاصطناعي وتحول المؤسسات الحكومية إلى هيئات ذكية تعتمد على رقمنة نظم المعلومات وتمارس ديمقراطية الكترونية والتواصل الافتراضي.
الفرد بين السلطة والمهارة.. ! ـ عمار طرابلسي
كرس الجهد الفلسفي عبر تاريخه عملية تثمين جهود اللاإنقياد لفلسفات الشمول والركوع للفرد أو المجموعات التي تسيطر عليه تحت ظلال الدوافع الدينية أو النظرية الإنسانية؛ وأخذ هذا المسلك في التقادم عبر العديد من المفكرين الذين أسهموا بالتنظير لنزوع الفرد نحو استقلاليته الذاتية في إطار مسؤولياته الاجتماعية بحيث لا تبعثه على التصادم والاحتدام بل تقوي فعله الحرياتي في اختيار أنماط الحياة بمستوياتها المختلفة.
يتمظهر الفرد بوصفه كائنا حرّا بأنه يحمل مشروعات حضارية وتاريخية تبعثه على التطور في الإبداع ولا يتحقق هذا إلا من خلال النظر في حالة الفرد داخل منظومة المجتمع وعلاقاته الموسعة فيه وكذا من خلال علاقته بالنظام السياسي في شكله الديمقراطي أو الشوري الذي يبدأ بأول ركيزة مهمة هي دوره في الاختيار الخادم لطموحاته المتعددة وفق ما يخدم كينونته ومستقبله.
وهذا الحديث عن الفرد يتجاوز كينونته البيولوجية بحيث يتعمق الطرح في تباحث روابط الفرد مع الأنماط البشرية أو الأنماط الاجتماعية أين يسائل حول وجوده وقيمه وأُفقه وبأي معايير يمكن له الانخراط في المنظومة في شكلها بتركيباتها المختلفة. ومن خلال هذا نتوجه لطرح السؤال التالي: كيف يفصل الفرد بين سلطة التاريخ وذاته المستقلة؟