أنفاسغرفة المكتب صغيرة ، أو هي كبيرة ، لكنها مزدحمة بأجساد الموظفين . يجلسون متقاربين ، متقاربة دائما وجوههم ،  الأكتاف ، الأفواه ، السيقان ، الأيدي . تختلط أنفاسهم مع همساتهم ، تمتزج تمتمتهم مع نحنحاتهم ، يتداخل كلامهم مع غمغمتهم ، في صوت واحد لزج مشوش متذمر ينوء بالشكاوي التي لا تفنى ، كأنها سرمدية ، مشاكل العمل ، البيت ، الراتب ، الأولاد . كل أزماتهم الصعبة المستعصية الكثيرة تجمعت في هذا المكان على سعته الضيقة بهم ، لم تتجمع الشكاوي للبحث عن حلول ، إنما بالعادة تقال وبالتعود تثار في محاولة لتخفيف ضيق الصدور.. المكتب على ضيقه هو المكان الوحيد الذي يريح صدورهم ويفضفض ما بها من كروب ، ربما لوجود آذان تسمع و فقط تسمع ما في ثنايا حناياهم من هموم ، هذه الآذان هي آذانهم ، و الأفواه هي أفواههم .. وحين تجتمع مشاكلهم تبدو مشكلة واحدة كبيرة ثخينة مجدولة وحول جسد واحد ضخم مبرومة .
كل شيء في غرفة المكتب داكن وشاحب ، الشيء الوحيد الذي يلمع هو صلعة عبد العال المرفوعة فوق جسد ربع أبيض ، ينبثق منه بطن بارز ممدود باتساع من الخصر إلى الخصر كما الهضبة .. جلس عبد العال كالعادة إلى طاولته ، يتناول الفطور بفم معوج متذمر ليس من الدنيا وحسب ، إنما من زميلته سميرة التي تكرر يوميا مليون مرة على مسمعه ومسامع الجميع حكاية فسخ خطوبتها ، وهو مضطر أن يسمع كل حكايتها من جديد كلما قصتها على زميلة حميمة إلى قلبها ، أو زائرة عابرة ، يستمع عبد العال بقرف مصوبا نظراته إلى رأسها المستدير المطبق مثل علبة السردين .. ثم يخرج من المكتب متصنعا شم الهواء ، متبرما ، و في دخيلته يشتم ويلعن أهلها ويشتمها ، ويهدر بعصبية وتوتر مخاطبا نفسه بصوت حاد  رفيع مدبب : 

أنفاسمنذ عام كامل وهو يهاتفها كلَّ أسبوع ليسألها عن أحوالها ويدعوها للقاء في عطلة نهاية الأسبوع. ولكنّها كانت تتهرب من ذلك اللقاء باختلاق العذر تلو الآخر: مرّة لديها امتحان في كلّيّتها، ومرّة لا بدّ أن تسافر لزيارة أهلها، ومرّة ستأتي أُمّها لرؤيتها، ومرّة عليها أن تكتب رسالتها الجامعيّة. وفي كلّ مرّة يحتضن إحباطه وفشله معه إلى فراشه البارد، كما يحتضن الجريح جراحه،  ليحلم بأنوثة جسدها.
 لم يستطع النسيان.
    رآها أوّل مرّة مصادفة في موقف السيّارات في إحدى باحات الاستراحة على الطريق السيّار. كان في تلك اللحظة يترجّل من سيّارته أمام المقهى لينال قسطاً من الراحة ويتناول فنجان قهوة. وما إن فتح باب السيّارة حتّى كانت هي تهمّ بدخول سيّارة مجاورة. فتريّثت واقفةً حتّى يخرج من سيّارته. وعندما انتصب خارج سيّارته وجد نفسه إزاءها وجهاً لوجه. التقت عيونهما فومض البرق، ودوى الرعد، وهطل الغيث. أحسّ فجأة بوجيبٍ في القلب، وارتعاشٍ في اليدين، وظمإٍ في الشفتين. غضّ من بصره، ولكنّه سرعان ما عاد يتطلَّع إلى ذلك الوجه المشرق إشراقة شمس دافئة في يوم ممطر شديد البرد. وجْه يجمع بين فتنة الأنوثة وبراءة الطفولة. وجْه اجتمع الحُسْن كلُّه فيه. له عينان نجلاوان يعلوهما حاجبان مقوسان مثل سيفين مُشهَرين، وخدان أسيلان التقت عليهما حمرة الخجل بتورُّد الشباب، وشفتان قرمزيّتان ممتلئتان تزيدهما إغراءً انفراجةٌ خفيفة كأنّها دعوة للتقبيل والضمّ. آسره قوامها الرشيق، وشعرُها المنسدلةُ خصلاتُه على كتفيها وظهرها، مثل سنابل الذهب المبتلّة. ابتسمتْ له ابتسامةً راضيةً فيها كثير من الحنان، ثم دخلت السيّارة.

أنفاسبجوار ذلك المبنى المدمر أحضروا جثتي، وضعوها أسفل قيعان من أرض جرداء، رتلوا معها صلاتهم، ثم أهالوا عليّ التراب الصلد. صمت كئيب كان يغشاهم جميعاً، خصوصاً ولديّ الحبيبين. لحظات مكنونة بهدوء رتل فيها الشيخ آيات من القرآن، بكى خلالها أقاربي وأصدقائي، انتحبوا حتى أغشي علي بعضهم. وأنا بالداخل أتضور شوقاً للخروج إليهم، التحدث معهم بكل ما كنا نقوله دائماً، بكل الأساطير والقصص والأخبار التي نختلقها من أجل قتل الوقت، لكنني كنت عاجزاً عن ذلك، عاجز ولأول مرة عن تنفيذ ما أصبوا إليه. تمنيت أن أعود إلى زوجتي، فراشي لكن هيهات أن يحدث ذلك بعد هذه المصيبة. فقد انطلقوا يتتابعون واحداً تلو الآخر إلى بيوتهم، غير آبهين بوجودي في هذا السكون الموحش، حتى ولديّ الذين لم أترك أياً منهم يوماً، غادروني كأنهم لا يعرفونني، فقط محمد من بكى بجوار قبري ودعا لي بالجنة التي أحب وأشتهي.
هنا بقيت وحدي، لا ألوي على شيء، أتأمل الظلام الذي يحاصرني، الخوف الذي يتملكني من هول المشهد، وبين فينة وأخرى أشعر كأن الأرض تهتز من تحتي، ترتجف كمحيط يوشك على ابتلاع بقايا اليابسة. حاولت بيني وبيني أن أعرف السبب، فلم أصل إلى نتيجة تذكر، طرقت الكوة التي بيني وبين جاري الأيسر فلم يرد، ترددت أن أفعل مرة أخرى، شعرت بأن كبرياءه لن يسمح له بالحديث مع شخص مجهول العظمة، فقبره منمق بأجمل الزخارف واللمسات بينما أنا بالنسبة له لم يظهر مدى نفوذي ونقودي بعد، فظل الصمت يلازم قبري إلى وقت غير قصير.

أنفاسراودته أحلام اليقظة مرات عدة ، وهو في المكتب ، أو في السيارة أو في أي مكان معلوم ، لم يكن يدري سبب هذه الأحلام ولا المغزى منها ، ما الدافع إليها بعد هذه السنين ... وبعد هذا العمر المديد ، ماذا عسى أن يكون في نفسه من طموح ، وقد حقق كل ما كان يصبو إليه ، نجاح باهر في مهنته كأستاذ جامعي  ، هل ثمة مطمح لشيخ جاوز الستين ... ؟ تساءل مرات ، هل من حق مسن مثله أن يحلم ؟ وما الجدوى من حلم لن يتحقق وإن تحقق ماذا عساه يقدم أو يؤخر ... حينما ينطلق القطار مخلفا وراءه غبارا أو دخانا أو فراغا ... ماذا في وسع المتأخر أن يفعل ؟ أيوقف الزمن أم يوقف القطار ...؟ وماذا لو أوقف الزمن أو أوقف القطار ؟ ما ذا سيجديه وهو لا يعلم أين يتجه ولا ما يريد ... لقد تحدى نفسه ألف مرة : لو سئلت : ماذا تريد أن تحقق ؟ أطلب نحقق لكل ما تريد ، لو سئل هذا السؤال لما أجاب ، بل الأسوأ من ذلك ، لو قيل له : حدد رغبتك أو ادفع غرامة ، لقال : أن أدفع غرامة أهون علي من تحديد هدف ، وأخوك مكره لا بطل ، في بلد تعود فيه أمثاله أن يستسلموا للظروف ... لكل الطوارئ ، المستعجل منها والبطيء ، يستسلمون للفقر وماذا عساهم أن يفعلوا ، يرضخون ويرضخون ، ثم يرضخون ... وبلا توقف ، وهم صغار يخضعون للأب والأم ... ثم للفقر والمرض ...

أنفاسغارقا في الأزرق رأيته يمشي الهوينا. خلت البحر ضاعف في مدّه فلملمت ثيابي خوف البلل , لكنّ الرّمل تحت قدميّ كان جافا وأصابعي أصابتها الدّهشة فبدت غير ثابتة تتحسّس مرّة وجهي وأخرى صدري وذراعيّ كأنّما أخشى أن ينفلت بعضي منّي ولا أعي. لم أستطع رصد الجهة التي انبثق منها ولا مكان يبدو في الفضاء غير المنارة والمنارة تلك بعيدة وماخلته يمشي فوق الماء, والكبائن الخشبيّة التي يتخذها المصطافون منتجعا كانت في الناحية الأخرى ولا شيء فوق مزقة الأرض التي أقف عليها غيري وغير الماء عند الشطّ فمن أين يكون خرج ؟ لم أكن مهيّأة لقبول أيّ مفاجأة ولا كان عقلي يرى أبعد من الصّفحة الزرقاء الداكنة والتي تضجّ حتما بملايين الأسماك والقواقع والطحالب وبقايا الهياكل البشريّة التي حنطها الملح,لكني في حياتي لم ألمح تنّينا أو عنقاء أو عريس بحر , حتى العرائس تلك ذات الأجسام الفضّية والوجوه المقمرة والتي تسكن قلاع المرجان كانت تنام داخل الكتب التي كنت اقرؤها وأنا طفلة ولم أرها يوما عند النّهر حيث تسكن خالتي جلّوزة ولا عند البحر مكان اصطيافنا ولا حتى في قصعة الماء الكبيرة التي كانت في السقيفة والتي كم كان يطيب فيها استحمامنا أيّام الحرّ, فمن أين يأتي الرجل إذن وإلى أين يمضي؟

أنفاسفي ذلك الفصل الدراسي الفقير الذي يلوذ بقدم الجبل، عرض المعلم الأشيب على تلاميذه أن يشاركوا في كتابة قصة جماعية عن رجل غني سعيد قدم لقريتهم البائسة لينشر الفرح والمحبة.
قال المعلم للصغار وهو يفرك يديه باحثا عن دفء:
- لنصفه أولا.
فكر أحد التلاميذ في لباس الرجل ثم قال:
- إنه يرتدي وزرة بيضاء.
هم المعلم بالكلام عندما اندفع تلميذ آخر قائلا:
وهو ليس من قريتنا، شعره أبيض كالثلج وبيده قضيب من الزيتون.
خلع المعلم وزرته البيضاء ووضع قضيب الزيتون وراء مكتبه المتهرئ وقال:
هذه ليست أوصاف رجل غني، صفوا لي أملاكه.
تحمس أحدهم فقال:

أنفاسأقبل نحوي مندفعا كالملسوع، كان يعرف أنني أكرهه أو قل على الأقل كان عليه أن يعرف بأنني لا أستشعره وأتجنب دائما الالتقاء به وبالتالي تحيته أو مصافحته ، كنت أشعر أنه نجس باستمرار، ليست بالضرورة النجاسة المتفق عليها ، ولكنه كان نجس الروح والماضي والسيرة ، كنت أشعر أنه هو النجاسة ، وبالتالي كان يستحيل عليه أن يتطهر، طبعا كانت لي مبررات  تجلس عليها قناعاتي، ولست مضطرا إلى إبدائها ، ولكن ذلك كان موقفي منه.
 كان ثقيل الظل والروح ، يحمل اسما محليا يعني "المنبوذ" سماه والداه بذلك في اليوم السابع من مولده  دفعا للعين وحسد الحاسدين ولكن الله أعطى للاسم ذاتا تناسبه.
- كنت أبحث عنك منذ عدة أيام ؛ دلوني على الطريق الذي تسلكه إلى مكان عملك، فكنت أجلس على رصيفه ، وقد أمسكت بك اليوم ، قال ذلك وهو يشد على يدي بقوة كأنه يخاف أن أفلت منه وفي نفس الوقت كان منهمكا في تقبيلي يمنة ويسرة كأني أحد أقاربه غاب عنه أمدا طويلا .
- قلت : خيرا إن شاء الله.
- قال: كل الخير، ولن ترى مني إلا خيرا، لقد بحثت عنك لأنني أحتاجك، لقد ظلمت، احتقرت.
- قلت: وما شأني أنا؟‼.

أنفاسالشارع واسع ونظيف,على طول حافتيه تراصت أشجار شذبت أغصانها بمهارة فائقة فبدت كشريط أخضر ممتد لتتعانقا قرب قوس شامخ ...
الحركة يحكمها انضباط دقيق,لا زعيق منبهات , ولا ايادي تتوعد مخترقة النوافذ بألفاظ بذيئة أغلب الاحيان...كما هو حال شوارعنا الضيقة.
المطر غزير ,لم يتوقف منذ البارحة ,تمنيت لو ان الله أرسل هذه الامطار الى أهل قريتي,الذين يسندون الآن ظهورهم الى حيطان حجرية,تستلذ أجسامهم الباردة دفء  أحجار خزنت حرارة النهار,وجوههم بسواد الارض وشحوب الزنابق...
اشتقت أن يبللني المطر,أن أغتسل,أن أقيس مدى قدرة القطرة على الاختراق فهمت دون مطرية,الامر الذى ادهش من صادفنى ـ على قلة انتباههم للآخر ـ " يا لهذا العربي ,لم ينسلخ عن صحرائه ..."
تحت غزارة المطر,تذكرت البرك التى بللتني بالكامل...
تذكرت نصوص القراءة الابتدائية التى كانت تتساوق بشكل مريع و ومظاهر فصول السنة...
فقراء ابناء قريتي...حتى حجرة درسهم...اليوم أفقر من الأمس...
ـ زياد...زياد...تناهى الي اسم لم اسمعه منذ ثلاثين سنة...
الصوت لم يكن غريبا ,لكن الأمد طال والاصوات اختلطت...