أنفاسداخل العين ..عين الجبل الجريح ، الواقف في ساحات حرب الأشقاء ، في مكان ما جنوب الروح ، تنمو أغصان تاريخ موج صديق ، يسكن في مدن تحلم بجني ألوان الشمس ، و تستعد الآن لركوب الغموض الحجري ،  دون أن تثير شهية سلطات الرياح ،  لضرب أعناق الكلمات ، لأنها ببساطة الورد و الياسمين ، سلطات تؤمن بفصاحة الليل ، أكثر مما تعترف ببلاغة المساءات .
طفلا كنته ، بحبالهم الدامية ، و المكشوفة المعنى ، ينسج عنكبوت الذات المحترقة ، بيوت السؤال اللعين ، هو الجسر القادر على الفصل بين الشمال و الجنوب .
هي حروف من رماد الوهج ، لا محالة ، حبلى بأجنة الضجر .
لن يغسل هذا الليل السيد ، من تفاصيل جبروته الخبير بأسرارنا ، سوى شيء من جنون البحر، يمزج ساخنا مع بعض عناصر خمرة الأزقة الموصدة ، و يشرب في عراء مساء جميل ، بمعية مجلس قمر وهاج .

أنفاسعندما دلفت من الباب كان ثمة شيء يشبه عطرا أنثويا, نفس امرأة ما مألوف لدي بصورة غامضة انقذف إلى أنفي الذي استلذه. هاأنذا في وسط البيت. كانت جالسة مع أمي على كنبة أمامهما صينية الشاي وبعض مما يؤكل على المائدة الصغيرة.
رعشة غريبة ألمت بأعضائي وفرحة صغيرة تلبستني وأنا أرمي التحية. ياه, كم زاد جمالها! ابتسمت هي في اقتصاد. مدت لي كفها. انحنيت مادا لها خدي. تصلبت ذراعها. ارتبكت  وأنا أتراجع بوجهي وأعدل قامتي. بحر من العرق البارد يغرق أدق شعيراتي.
- كيف حالك؟ سألتها.
- بخير والحمد لله.
سلمت على أمي وجلست. وجهي يتلون. الملعونة. كانت تعانقني فيما مضى.
عيناها مسمرتان على شاشة التلفاز. أرقبها بطرف خفي يخترق كتفي أمي الجالسة بيننا. انتبهت إلى شعرها الذي اختفى. أبصر مكانه منديلا يحدد تخوم وجهها. أهو غطاء الرأس ذاك ما منعها عن عناقي كما كانت تفعل قبلا عندما كانت تأتي لزيارتنا؟
هدأت قليلا. صبت لي أمي كأس شاي. وأنا أنحني قليلا لأتناول الكأس من الصينية استرقت إليها النظر من زاوية ضيقة جدا. لا تزال مركزة على التلفاز.

أنفاس(هناك نوع من الرجال هم في الواقع اشبه بالملائكة. بيد أني لست منهم  )
                                     جوزيف كونراد – الإعصار
ارض شاسعة تمتد أمام البصر لا يحدها شئ أبدا .. تعطلت سيارتي في طريق ترابي مقطوع ..  لا غيري هنا ، لم يمر أحد منذ ساعات .. خمنت ان الآخرين سلكوا طريقا آخر ربما يعرفونه جيدا يقيهم هذا التيه الصحراوي الممل .. أو انهم قد مروا من هذا الطريق ولم ارهم ، ربما ..
تندفع حوصلتي كما الطير ، ابلل رأسي بأخر قطرات الماء وأطفئ ظمأ روحي عندها تتطاير كلمات أخي فوق رأسي كخيط دخان  وتتقافز فتوحي بأن كل من عليها فان .. كل من عليها يرجع إليها .. أول مرة منذ سنوات ، اندهش !
لم يثرني أي شئ منذ قرأت خبر ضبط جودي فوستر في مطار بوسطن وهي تهرب الكوكائين تحت ملابسها الداخلية .. أثارني وتصورت بأنها لا تستطيع النوم دون جرعة مخدرة فما كان منها إلا أن تخبئها في منطقة مثيرة ظل يتقاتل عليها البشر منذ بدء الخليقة ..
 لم يثرني أي مشهد آخر منذ سنوات .. الطريق يمر بصخور وأدغال وأوحال ثم يبدأ  الرمل يغطي مساحة الأرض القصية .. ليتني اعرف طريقا آخر ، مررت بكل مآسي المكان ، تسلقت صخور جثمت منذ ان وجدت ، واجتزت الأوحال  وأنا اردد أناشيد الفروسية والبطولة ، رباه كم رجلا استطاع اجتياز المكان منذ خلق ؟

أنفاسالعائلة السعيدة
تُطل عليه من فتحة الباب، عاري الجسد يلهثُ خلف الجهاز..
- تريدُ شيئا حبيبي؟..
- شكراً!..
- تصبح على خير، أتركك تمارس هوايتك مع مواقعك الخليعة في هدوء ..!
- تصبحين على خير، أتركك تمارسين هواية الكتابة والقراءة في هدوء!
تمضي الأيام، والتفاهم يغمر البيت!...

جيران 
- القلب سليم، أحوّلكِ على اختصاصي عظام..!
تركض كفي تعانق كفه الرحيمة.

أنفاس(1)
أرْبَعُونَ قطْرةٍ على نصلِ خنْجرِهِ تترنَّحُ متماوتةً أبطأَتْ خطاها المنحدرةَ تخشى الهبوطَ فاستبقَها الخوفُ فباتتْ على الرّكودِ كأَنّهَا...باتَتْ على الرُّكودِ...
(2)
خَدِيعةٌ تصبّرُنا فنخلعُ جذعَ الفكرةِ نمضِي.. نَمضي .. لا وجهةَ لمنْ لا وجهةَ لهُ .. قالتْ ولِّ وجهَك شطري ينزّ جبينُ الوقتِ مسافةً وتقصرْ عباءةُ الزمنِ تتعرَّ كإلهٍ منفي في بحرٍ منفيٍّ بلا صيفٍ بلا غزلِ بنات تتكاسلُ الشمسُ على جباهِهِنَّ ويرتعشُ القلبُ الخافِقُ من لسعةِ خوفٍ. من يراكَ يا وحدكَ اللاهث خلفَ دماكَ البحريةِ سنوات تتضورُ جوعَها في أمعائِك الخشنةِ على بقايا نشيدٍ وقبلَةٍ تحرقُها  على شفتين منَ العَلقمِ وتموءُ كقطٍّ برّيٍّ على فراءِ هرّةٍ بائسةٍ .. وترجو إلَهًا ينجيك من إلهٍ مزروعٍ على عرشِكَ اللَّزجِ وتُطوِّحُ الشِّعرَ على ثمالةٍ من نبيذٍ خائنِ الطعمِ واللَّذةُ تلسعُ شهقتك المرّةَ، تناجي جموعَك المتناثرةَ مفقوءةَ البصرِ والبصيرةِ تخدعُكَ مراياها المكسورةُ بخيطِ النَّدى الذي ترتقُ وقتَك البالي...لنرتقَ ما تبقى من وقتِ عباءةٍ تدثرُنا من حزنِنا المقيمِ...المقيم.

أنفاسكان النهر يتلوي متألما  ، تدخل له  خاصرة هنا وتبرز الأخرى هناك ليمتص في كبرياء  قساوة الطعنات التي أنهكته فكسا الاصفرار ماءه ، وغزا الجفاف جوانبه  و تجرأت الطحالب فطمعت في تمكين مستعمراتها على شفتيه  ولم يجد ما يستر به هوانه فراح يحفر بين الصخور أخاديد عميقة ليندس في باطن الأرض بعد أن جرد من عنفوانه
  صار من الصعب سماع خرير مياهه من ضفتيه  وكانت ألحانه مذ طفولتي   قد حفرت  في وجداني حقولا للإيقاع ، تمتد شلالات من نور وسنا؛ من إيحائها تفجر الحب، والأسى ، والحياة والإبداع .
ناديته:  يا نهرنا  يا راوي تاريخنا، ورفيق أجدادنا ، وساقي أعمارنا  ما دهاك ؟ لما البين ولمن تتركنا؟ والى أين؟ انتظرت ردحا لأتلقى الجواب الحزين.
وجاءني الصدى ،  يشكو العدى ،  ويحمل أوجاع الردى: كرهت عداواتكم وأحقادكم ، وغباءكم و قذارتكم  التي أفسدت مائي وهوائي،  وجشعكم الذي  نهب رمالي ؛ ودمر  جمالي.
 سممتم  أسماكي وضفادعي ، وجففتم روافدي ومنابعي ،  ولوثتم ضفافي وقطعتم  شراييني فزادت مواجعي ، شكوت ظلمكم فقطعتم أصابعي، فوجدت أن بطن الأرض للعزيز إذا ذل خير حام ومانع.

أنفاسقالت: حرُمتَ عليّ شرعاً، فكيف تتمسح لاختراق المسافة بيننا خلسة عن وجهك في المرآة ؟
ثم أطفأت المصباح وعيناي ما تزالان تتابعان مشيتها متمايلة الردفين ، وددت لولا خجلي من أرق كبريائي ، أن أغازلها بما يسوس لي جسد يغلي كالمرجل في بركة جمر خامد .
أسندت وجهها للباب المغلق ، بعدما غرزت في العمق سهماً أحدّ من زمن مقيت ينخر صدري ، لعلها اطمأنت على لدغ كلماتها منتهى ذكورتي . لا أنكر أني سبحت منشغلا بها في دوامة الظلمة ، متمنيا لو أن الأرض تنشق لابتلاع سخافتي ، جمدت كل النوازع فجأة ، واستبد بي تضخم الصمت في متاهة البحث عن معنى أداري به ضعفي ، سبق لها أن سخرت مما اعتبرته تناقضا صارخا وظللتُ أعتبره مفارقة غريبة ، كنا ضفتين لفراغ عمودي تمدد بيننا جثة هامدة ، أخذتها سنة حسبتها خلالها نائمة ، وأخذتني غيبوبة التفكير في جواب بين رغبة الإصرار ورهبة الاعتذار.
عدت إلى البيت يؤويني سقف لم تشدني إليه حاجة الاحتماء به مما يغويني ، بعدما تركته وفي النفس هواجس صارت في حديث الأهل عنوانا على جنوني ، اتجهت صوب نفس شجرة التوت نهاية الطريق ، لمحت ظلها الدائري منعكسا بين رفرفة وريقات تعاند السقوط ، وجدتني أستحث الخطى للركون إلى جذعها ، كعادتي حين تسود الدنيا في عيني ، فأتسمع نفس الصوت الجارح صاعدا من قرار الإشفاق :

أنفاسمنذ أن سمع من أمه تلك العبارات القاسية التي سممت حياته : إنك ولد زائد عن الحاجة ، لقد حاولت مرات عدة وأنت في بطني أن أتخلص منك بكل الطرق والوسائل ، لقد تناولت من الأعشاب والأدوية ما يكفي للقضاء على أمة من الأمم إلا أنك كنت ولدا منحوسا ولم يؤثر فيك كل ما تناولته من أدوية ، كأنك كنت مصرا على أن تعيش عالة على نفسك وعلى الآخرين ، لم يكن بد من أن تولد ، لكنك لم تشأ أن تترك الفراغ لإخوتك ، لقد اقتسمت معهم الطعام والشراب وزاحمتهم في الهواء وفي المكان الضيق  الذي ما فتئنا ندفع بعضنا بعضا فيه ... كلما تذكر هذه الكلمات اسودت الدنيا في عينيه ... كان في أحيان كثيرة يلجأ إلى التساؤل ، يسأل نفسه ... وهل كان في إمكانه أن يسأل غير نفسه ، لكن أسئلته كانت عقيما ، بحيث إنها لم تكن تلد أجوبة ... أسئلة تشبه الاستنساخ ، كما قرأ عنه وكما فهمه ، أسئلة تلد أخرى ... الاختلاف أمر مهم وضروري ... توالد الأسئلة وتكاثرها ينسخ بعضها بعضا يزيد من ألمه ومعاناته ، يشعره بالعجز ... هذا العجز الذي زاده المرض قسوة وشدة ، كانت الحيرة تملأ عليه كل كيانه ، كيف يمكن لأم أن تكون بهذه القسوة ؟ قلب الأم مركز الحنان والعطف ورمز الدفء ، كيف يصير حجرا ؟ ما ذنبي ؟ تساءل في قرارة نفسه ، ماذا صنعت حتى تكون حياتي بهذه الدرجة من التفاهة ؟ هل لوجودي معنى ؟ هل من حق أمه أن تمنعه من الحياة ؟ هل من حقها أن تقرر إن كان زائدا عن الحاجة أو كان وجوده ضروريا ؟ ما جدوى أن تخبره بذلك بعد أن ولدته ؟