التاسعة صباحاً، في مخيم منسي في فلسطين، أو قرية منسية في صعيد مصر، يكون قد بيع ملايين من صحون الفول، وملايين من أقراص الفلافل، في خضم سيل بشري متلاحق متلاطم، سيل ينبثق من الصباح، كتفجر البركان العارم.
التاسعة صباحاً، جدران وأسطح، شوارع وأرصفة، يدخل في روعك، ومرة واحدة أنك تدور في صحراء من غير اتجاهات، تضرب عيناك المرهقتان الأفق المغلق بالبنايات المتفرقة هنا وهناك كتفرق الدمامل في الوجه الملطخ بالجدري، قفر يسانده قفر، وصمت يغلفه صمت، وأرصفة تشكو معبدها لشوارع تشكو إرهاق الوحدة والانطواء، تداهمك كآبة مفاجئة، تذكرك بمقابر التراث، تستوقفك إشارة ضوئية تشخص نحو اللاشيء، تقف، يأتي اللون الأخضر، تقطع الشارع وأنت تبحث عن صرصار أو ذبابة، تدور برأسك، تخترق ذاكرتك الوحدة، وتستقر بأعماقك الوحشة.
تدور بين الأزقة، الأرض مرصوفة بقطع من صخر صغير، تتخلل عقدها حشائش شديدة الخضرة، يخرق أذنيك هدير محرك، وعلى بعد، حيث ترقد مجموعة من البواخر، تشاهد ظل سيارة يزحف كظامئ يبحث عن ماء في سراب.
مدينة ستافانجر، في أقصى الشمال الأوروبي، حيث تتجلد الأشياء وتتصقع، وتنحني الأشجار تحت ضغط الثلج المتراكم، أشجار عارية، حزينة، متهدلة، تنازع البقاء، أشجار جرداء، تغزو النفس بقشرتها المتشققة الجافة، وبحيرات متناثرة هنا وهناك، وبعض الأنهار والشلالات، وكنيسة تنتصب وسط مركز المدينة، مغلقة الأبواب والنوافذ، تشخص نحو البلاط المرصوف فوق الطريق، ونحو أعمدة من نور ضئيل شاحب.
تجلس على مد خشبي مصقول، تحدق في الأشياء، تلاحق المسافات المفتوحة بعينين حادتين كعيني صقر أضناه الجوع والسغب، تبحث عن دودة أو حشرة، تبحث عن ظل شخص، تركز انفك، تدفعه نحو الأفق بحثا عن رائحة طبخ أو رائحة بحر، تنبش الأرض بجانبك علها ترسل أنفاسها، أو تشهق، أو تئن، تدور بعينيك في كل مكان، وفجأة، يصل إلى مسمعك، صوت كريه، كزعيق الموت، رف من النورس يقتحم الأفق مرة واحدة وهو يصدر أصواتاً تحرك الشؤم في النفس الملوحة بالوحدة والقفر، تشعر بإحساس مركب، معقد، لا تستطيع فهمه، قبل لحظات كنت تبحث عن دودة، عن حشرة، بعيني صقر معذب، والآن، تنفر من أكوام النورس، وتمج أذنك أصواتها وزعقيها.
ومن بعيد، يضرب عينيك ظل شخص، يعالج باب مجمع تجاري بكرت وأرقام، ترتفع البوابة، تثب من مكانك وثوب فهد، تغذ الخطى، ولكنك تعود من حيث أتيت، فليس هناك بعد مكان يمكنك دخوله لترى وجه إنسان.
تغادر قليلاً، تسحبك قدماك نحو الجانب الآخر، كل شيء مكانه، الأرصفة والشوارع، اليافطات وأعمدة النور، حتى حاويات القمامة ما زالت مكانها، تنظر أمامك، فيفاجئك البحر بلون غريب، لون رمادي قاتم، تدهش، وتغور في بؤرة حوام جارف، بحر بغير رائحة تدلك عليه، بحر رمادي قاتم، بلا صوت، بلا موج، بلا رائحة، قد يكون هو الآخر لم يستعد لحياة الصباح الباكر، قد يكون مؤجلا انتشار رائحته ولونه لساعات قادمة، ولربما لم تفق أحياؤه بعد من سباتها.
ينتشلك من كل هذا نفير سيارة ضخمة، تغادر من قربك إلى مكان ما، شيء من حياة بدأ يدب في جسد المدينة الميت، بعض الناس بدأت تتحرك، بعض معدود، موزع على مساحات بعيدة متنافرة، ومقهى فتح أشرعته الزجاجية، مقهى لا يشبه المقاهي إلا باسمه، ففيه تقدم القهوة كشيء ثانوي، قهوة تتقيأها آلة كهربائية، دخلت، وأنا أعرف أن الدهشة ستنعقد فوق جبهة النادل، فليس هناك من يصل في مثل هذا الوقت أبدا.
تقيأت الآلة الكهربائية كأس القهوة، كان حاراً، وجلست على أحد المقاعد، وجهت نظري نحو الخارج، للتملص من نظرات النادل التي انفتحت على دهشة واستنكار، أرسلت نفسي نحو هواجس الماضي، لكن الوحشة المستبدة بالمكان والشوارع والأرصفة، بالمدينة، عادت لتغوص بأعماقي، فتورثها كآبة ممتزجة بنفور غير مستحب، جاف، ملمسه غريب، جاهدت بكل قوة للتخلص من الذوبان في اللاشيء، للدخول ببحر من أفكار، تحمل شخوصا وحركة، لكن الوحدة، القفر، الخلاء، الصمت، السكون، الجدران الكئيبة المغطاة بعذاب الصقيع، والمحلات المغلقة على كآبة مكدسة من سنين وأعوام، كلها عادت لتغزو عقلي المتعب المجهد من جديد.
لعبة جيدة، لو اختلست النظر إلى وجه النادل، بطريقة حذرة غير ملفتة للنظر، لأرى تقاسيمه، ولأبدأ بتفحصها على مراحل، فكل نظرة مختلسة، تكون جزءا من ترتيب في الذاكرة، وحين تكتمل الصورة، تكون اللعبة جاهزة، بكل أساليبها، وكل مكوناتها، وإذا ما أضفت إلى تلك الملامح، زعيق النوارس، أكون قد مزجت بين أمرين، دخلا ذاكرتي منذ الصباح.
قواعد اللعبة بدت صعبة تماماً، فكلما حاولت اختلاس نظرة، وجدته يحاول نفس الشيء، لكنه يختلف عني، فهو يختلس نظراته استغراباً ودهشة من وجودي في مثل هذا الوقت على شوارع مدينة معزولة بطريقة مريبة عن خطى الناس والبشر، وأنا اختلس النظر، لأني أود استخدام تفاصيل وجهه التي تشبه المدينة، ووحشتها وحزنها وكآبتها، لتحليلها، من أجل الوصول إلى وقت متقدم، حيث تفتح أبواب المجمعات التي تظل خالية من الناس والحرارة البشرية، الآدمية، وإن حوت أفواجاً ممن يحملون شكل البشر وملامحهم.
شعر أشقر، على رأس أبيض، الاختلاسة الأولى، بعض من النمش، موزع على الرقبة والوجه دون تناسق، وكأنما أحدهم نفضَ فرشاةَ ألوان على رقبته ووجهه، وعينان تضخان بعضا من اللؤم غير المبرر، وبعض من الخبث غير المسبب، الاختلاسة الثانية، وجه مرقوق مستطيل، يتوسطه انف ضخم، وفم يتسع لالتهام نصف دجاجة مرة واحدة، مع ذقن فيه علامة جرح قديم، الاختلاسة الثالثة، جسد طويل، سواعد متينة، بعضلات متورمة، وصدر واسع رحب، الاختلاسة الرابعة، كرش صغير مندفع فوق الحوض، وقدمين طويلتين، يحملان جسداً مثيراً للدهشة.
هو لا يختلف كثيراً عن غيره، فالنظرات المرسلة كشعاع من نار نحوي، هي نفس النظرات التي تأتي من كل من أقابل، صحيح أنهم يستطيعون امتهان البسمة الميكانيكية ببراعة لا توصف، لكنهم لا يملكون إخفاء الشعاع الناري النابت منها رغم محاولاتهم المستميته لإخفائه بين فينة وأخرى، فالشعر الأسود، والبشرة السمراء، تستفزان الشعاع بقوة للظهور والتأصل والثبات، اختلست نظرة سريعة نحوه، فالتقت عيوننا، لم أزحزح بصري، رسم الابتسامة التي يتقن رسمها، في محاولة لإخفاء لؤم عينيه، لكنه فشل.
غاصت نظراته في عمقي، فازدادت مساحة الوحشة، واتسع القفر، بدأت المجمعات بفغر أفواهها، حييته وخرجت، شعرت بالراحة التي انقضت عليه فور خروجي، كل ملامحه تبدلت، وعادت إلى طبيعة تختلف عن طبيعتها فور دخولي.
دخلت أحد المجمعات التي يعتبرها الناس ضخمة، مذهلة،-احد أصدقائي قال لي بأن مساحتها تساوي مساحة مراحيض مجمع تجاري في دبي- رائحة طعام ماكدنونالد المغثية النتنة، تهاجم انفي، اتقيها بمنديل معطر، تتراجع حاجتي بالتقيؤ، أغذ الخطى للخلاص من تأثيرها، فأعرج على معرض للملابس، الديكورات رائعة، ملفتة للنظر، مرتبة بشكل يجعلك تعترف بذوق ممتاز، لكن المعروض، يفاجئك بتفاهة الذوق وانحطاطه، جينز، ممزق، مخزًق، مثقًب، وقمصان ملونة بذوق إنسان الغابة الأول، وبلوزات منكمشة وكأنها تعرضت لأثار حرارة قاسية، وكلما دققت النظر، كلما ازددت دهشة، فالذوق الرفيع في التوزيع والعرض، يشوهه الذوق في التصنيع واللبس.
نفس اللعبة، فليس بإمكانك وأنت تحمل الشعر الأسود، والبشرة السوداء، أن تكون بمنأى عن نظرات البائع، لأنك وبشكل ما، تمثل قناعة بأنك سارق، لذلك عليك أن تكون تحت رحمة نيران المراقبة، طوال فترة تجوالك داخل المعرض، وأنا، بنوع من ردة الفعل، قررت البقاء فترة أطول، والدوران بشكل وخطى مريبة، كي أضعها تحت سلطة مراقبتها لي رغم انفها، واعتبرت ذلك نوعا من عقاب يتناسب مع حجم شكوكها وتفكيرها العدواني غير المبرر، فأخذت أمد يدي نحو الأشياء الصغيرة، ثم أضع يدي بجيبي، وهكذا، انتقل من مكان إلى مكان، ومن جهة إلى جهة، حتى بدأت هي تفقد توازنها، وخرجت علامات الضيق والعدائية ككائنات حية تتجول في ملامحها.
كنت أعرف، بل وعلى يقين، بأنها تتعذب، تتلظى على نار خطواتي وحركاتي، ولكني كنت بنفس الوقت اشعر بالمتعة، باللذة، على خفقان صدرها الذي يستعد للقفز بصورة ما، وكنت اشعر أيضا، بحقي المطلق، بِشَيِها على نار الترقب والانتظار للحظة خروجي، فهي تتمنى ومن كل قلبها، أن يرن جرس المراقبة فور خروجي، كي تغذي شعورها العدائي نحو لون شعري وبشرتي، وكنت أنا، بحركات خبيرة، أغذي هذا الشعور، حين أضع يدي على الأشياء الصغيرة، ثم أدسها بجيبي وأنا أوهمها باختلاس النظر نحوها.
وحين استعر شعورها بالغضب، وعجزت عن انتظار خروجي، تقدمت نحوي، وهي تخلع كل انفعالاتها السابقة، كما تخلع قميصها، لتضع بسمة ميكانيكية مزورة بشكل متقن، تظهر خبرتها المتوارثة باحتراف منقطع النظير، وسألتني إن كنت بحاجة للمساعدة، حدقت فيها وأنا صامت، لم أجبها بشيء، كان بودي، ومن كل قلبي، أن اسألها عن مراقبتها الشديدة لي مذ دخلت، ولكني ابتلعت السؤال، لأني أعرف كيف يمكنها احتراف ضحكة مزورة وهي تنفي بكلمات مزورة صحة الأمر، أطلت الصمت قليلا، وأنا اغرس نظراتي بعينيها، بقوة وبرودة، شعرت بشيء من الاستهجان، وتراخت نظراتها أمام قوة نظراتي، وأعادت السؤال بصوت اقل ارتفاعا، ولكن بدون البسمة المركبة، أجبتها بالنفي، فاستدارت، وما أن خطت بعيدا عني، حتى أطلقت زفرة غيظ مكتوم.
خرجت وهي تلاحقني بنظرات نسر أيقن باستقرار مخالبه بفريسته، لكنها، جللت بالخيبة والانكسار، حين ظلت صفارة الحماية والتحذير صامتة، ولحظة استدرت للتحديق بوجهها، وجدتها، محملة برياح من الهزيمة والخسارة، وزوابع من الحزن والأسى، ابتسمت لها، وأشرت بيدي نحو روحي وقلبي، وأنا على يقين بأنها لا تفهم لغة الروح أو مفردات القلوب، ولكنها على اقل تقدير، تفهم معنى البسمة والإشارة، اللتين ختمتا المشهد.
بدأ بعض من حياة يتخلل أوصال المدينة، قليل من أفراد متناثرين هنا وهناك، بفوضى المكان الموحش، يبدون كنقاط مشوهة بغير ترتيب أو اتصال بالمكان، النعاس يبدو على وجوههم، واثر من برودة الصقيع والثلج يطفح على كل وجودهم، فلا تملك حين تراهم وهم مندفعين نحو أعمالهم، أو مجمعات التجارة، إلا أن تشعر بالشفقة والرثاء لهم وعليهم، هم مجرد أرقام، تتحرك ضمن معادلة رياضية موضوعة بقالب من عبودية جديدة مبرمجة لتسييرهم داخل مساحتها بدقة متناهية، لكنهم يسيرون ضمنها، وهم يعتقدون جازمين بأنهم يسيرون باختيارهم ووفق إرادتهم.
عقولهم بسيطة، طموحاتهم لا تتعدى طموحات دودة، تخرج من الأرض لاستنشاق بعض الهواء، والتقاط بعض من شعاع الشمس، ثقافتهم الجريدة، والرائي، وان ابتعدت عن ذلك، فانه التخصص، بمجال من العمل، أو مجال الاستعداد لعمل، مطبوعين بالجهل بالأشياء والحياة والتاريخ، لكنهم يشعرون بتفاهة الحياة والوجود، رغم عدم اعترافهم بذلك، إلا من خلال نمط حياتهم، الذي يجلي ويكشف عن أسمى معتقداتهم وأمانيهم.
سرت في الشوارع، دون وجهة أو هدف، تماما كمن يسير في صحراء من غير شوارع أو علامات، وجوه تمر وتختفي، لا تشعر بوجودك وأنت تكاد تلتصق بها بسبب ضيق ممر أو باب، تنظر نحو الأفق، فتعتقد بأنها تتأمل، ولكنك سرعان ما تكتشف، لحظة التعرج نحو زاوية أخرى مكتظة بالجدران المختطفة للأفق، بان النظرة نفسها بقيت كما هي، دون أن تتنبه للجدران الفاصلة بينها وبين الأفق، حتى الجدران ذاتها، بتركيبتها، تشعرك بأنك من مكان آخر، لا ينتمي بأي شكل من الأشكال إلى هذا المكان، والذي لا يريد المكان ذاته قبولك فيه، بطبيعة الحدث وسلاسته، وإنما بحشوك في أمعائه التي تظل مضطربة بسبب دخول جسم غريب فيها.
الثالثة بعد الظهر، بدأت حركة السير تأخذ طابعاً نشطاً، والفتيان والفتيات يتجمعون للعودة إلى منازلهم بعد انتهاء يوم دراسي، بينهم وبين الطلاب علامات فارقة، فالفتيات يشعلن الدخائن، ويسحبن الأنفاس بنهم شديد، يصرخن بأصوات عالية، تدوي في المكان، صخب من نوع ممجوج، يتلاشى منه الحياء، ويهجره الخجل، قبلات مفعمة بالشهوة، وحركات على الأقفية، وفوق النهود، احتضانات تقطر بالشهوة، مع ملامسات على أماكن غريبة، بخبرة ومهارة، نوم على مقاعد الانتظار، بصورة تثير التقزز والاشمئزاز.
قفر جديد، ووحشة تغرق في وحشة، وجدران تبث في النفس كآبة مميتة.
الحادية عشر ليلاً، القطارات والحافلات، تغص بالناس، فاليوم جمعة، عطلة نهاية الأسبوع، البارات والديسكوهات وحانات الخمر، تفتح أبوابها بجوع أيام خوت معدتها من الناس، إلا قليل، المحطات تغص بالراجلين، وزعيق النساء والفتيات والرجال والفتيان يملأ الأفق، فهم يتناولون الخمر بالبيوت استغلالا لرخصها، كي لا يضطروا لدفع مبالغ كبيرة في الحانات.
على أبواب الديسكوهات صفوف طويلة ممتدة، تنتظر دورها بالدخول، يتراصون خلف بعض، كتراص الألواح الخشبية على بعضها، يتدافعون بسبب الزحمة، يلتصقون ببعض، ككومة من أشياء متلاصقة، وحين تقودك قدماك للداخل، تضرب أذنيك موسيقا صاخبة، تحدث هزات في الأرض والجدران، ويعود الصدى ليمزق السكون، والناس تدور بجنون الخمر المستبد، وجنون الموسيقى الضاجة بمحيط يهتز على أنغام الانخلاع من الصحو والحياء والخجل، شاب هناك، يضم فتاة خلعت نصف ملابسها، بشبق محموم، يتمرغ على جسدها الخافق بالشهوة والحرارة، وفتاة تمتص شفاه شاب آخر، بنهم وشغف، وتبادل بين جسد وجسد، وشفاه وشفاه، وانزلاق نحو حركات تندى لها حيوانات الأرض.
جمع من النساء، يكون فور خروجه، قد رسم خطط شائكة، مغلفة بالعسل، للإيقاع باللاجئين القادمين والأمل يحدوهم بالعثور على امرأة تقبل بهم ولو لليلة واحدة، فتراهم، من بعيد، يدورون حول النساء اللواتي تخطين سن الشباب منذ زمن بعيد، كالثيران التي تدور حول ساقية وهي معصوبة العينين، تدور بغريزة الدوران والطاعة، لا بغريزة الرضا والقبول، يتعثرون بسباب مقذع، فيبتسمون، وكأنهم حصلوا على ترياق الحياة وسر الوجود، لكنهم، سرعان ما يقعوا بشباك النساء التي لفظهن شباب المدينة، بعد أن جففن كالتين ونشفن.
تغادر الأصوات والموسيقا، يداهمك الشارع بضوضاء لم يعهدها منذ أيام، تتداخل الاختلافات والتناقضات في مخيلة لا تستطيع أن تلم فوارق الأيام واللحظات المتداخلة بين صحراء مقفرة تضربها شموس غاضبة وزوابع متأججة بالغضب والثورة، وبين اللحظات التي يغص الشارع بالناس المترنحة المفرغة من العقل والإحساس.
على رصيف قريب، وأمام الناس جميعا، تخلع فتاة في عمر الورد ونضارته وجماله سروالها وتقرفص للتبول، الجميع ينظر نحوها بنوع من الشهوة، وبنوع من التشجيع والمؤازرة، ترفع سروالها أمام الناس دون أن تنظف نفسها أو تتخلص من أثار نتانة البول.
تمسك بيد عشيقها ويندفعان معا نحو زقاق بين أبنية، أو نحو شارع فرعي للغوص في لذة يفجرها الخمر المستبد بالرؤوس، والحياء المفقود.
سيارات الشرطة تدور في الشوارع، من كل الاتجاهات، تراقب حركات الناس ونشاطاتهم، يرمقون رجلاً بشعر اسود، تدور السيارة بحركة خبيرة فوق الرصيف، تحاذي الرجل، يسير والسيارة تسير إلى جانبه، يشعر بالتوتر والضيق، بالاهانة، ينحرف بحركة إلية نحو شارع معاكس، تنحرف السيارة نحو الشارع المعاكس، تحاذيه من جديد، يبدأ بالغليان، بالقهر، لكنه يبقى على ما هو عليه، فليس أمامه شيئا غير القبول بشعور الغليان والقهر اللذان ينتجان شعورا مركبا من الاهانة.
ينحرف نحو أحد الملاهي، يدخله هروباً من الضغط النفسي الذي يعانيه بسبب سيارة الشرطة، يصعد إلى الطابق الثاني، يجلس على كرسي فارغ، تلتفت الرؤوس نحوه، يتهامسون، وما هي إلا لحظات حتى تتحول الطاولة إليه وحده، مرصوصة بالكؤوس، ولكن دون بشر.
يحدق في الملهى، أجساد تدور بفعل الخمر، بحركات هستيرية، لا تناغم فيها ولا تناسق، ونساء ينتقلن من حضن إلى حضن، وشفاه تنتقل إلى شفاه، وحركات سفلية من يد إلى يد.
تقترب منه امرأة، بها من تقاسيم الغيلان والأشباح شيء، وبها من حكايات البشاعة الكثير، تجلس بقربه، تمد يدها نحو يديه، يتهامسان قليلا، ثم يخرجان.
تلحظه سيارة الشرطة، تقترب منه، لكنها تبتعد عنهما للبحث عن شعر اسود من جديد.
تريح نفسك فوق قطعة من الخشب منصوبة في احد زوايا الشارع ، تتناول بعينيك المارة ، مجموعة من الفتيات يجأرن بصوت يخرق سكون العتمة ، بأغان غير متناسقة ، فيها من همجية الغابة وشراستها الكثير ، ينتقلن إلى الجأر بألفاظ جنسية ، تتوقد بالشهوة وتخفق بالاهتزاز المتسارع نحو اللذة ، يقفن على حافة الرصيف ، يغمسن ذاتهن بشهوة الشذوذ ، يقبلن الشفاه ، يتحسسن مناطق حذرة ، يتأوهن ، يشهقن ، ثم ينطلقن .
على الرصيف الآخر ، شاب طويل ، ضخم ، يترنح على الجدران المقابلة ، يقف وهو يهتز كلولب ، يقذف كومة من القيء ، ويقع فوقها ، تتأمله جيدا ، تجده غارقا في البول قبل القيء ، تصل سيارة الشرطة ، تحتجزه بالنظارة إلى أن يصحو .
تقترب منك فتاة ، تطلب منك دخينة ، تمنحها إياها خوفا من دوار الخمر العابث بمساماتها وتكوينها ، تجلس بجانبك ، تغزوك رائحة فمها الكريهة ، الممزوجة بروائح الخمر ، تتحرك من مكانك ، يوقفك شاب ، يطلب دخينة ، تمر من أمامه ، يداهمك فوج من الشباب والشابات ، مستلقين فوق الرصيف يقهقهون ويعبثون ببعضهم البعض .
يمسكك التقزز ، تشعر بغثيان فوار ، تضرب التوترات جدار المعدة ، تحس برغبة للتقيؤ ، تتمالك نفسك ، تدور في زقاق جانبي ، تعرج على طريق فرعية ، تغذ الخطى نحو البيت ، تغرق تحت حمام ساخن ، تخرج وقد التصق الوضوء ودعائه بذاتك ، تمسك بالمصحف ، تشعر بالخشوع ، تنساب الدموع غزيرة ، تقف على سجادة الصلاة ، تغوص بعالم الرهبة ، ياتيك الاطمئنان من كل الجهات ، تحدق بحقيبة السفر ، تتأوه ، تشعر بحرارة تجري فوق الخدين .
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم