جاب أزقة الحي العشوائي ذات ربيع، خاطها ذهابا وجيئة، تتفرسه الوجوه الواجمة لا يلقي لها بالا: كان غريب الأطوار في كل شيء، على الأقل بالنسبة للأهالي المعتادين على إلقاء الكلام على عواهنه لكل جار أو مارّ... بات حديث النزالات الهامشية للاعبي الورق وغيره، حتى إنه أصبح مثار شك وريبة، سيما وقد عمد رفقة مجهولين إلى بناء حوش في الظلام، اتخذه ملاذا وسكنا، بل مخبأ يقيه شر النظرات والألسنة.
وسرعان ما أغلق باب بيته المطلي بالجير الأحمر، واختفى عن الأنظار أياما معدودات، فتناسلت خلفه عشرات الأسئلة، تستنطق تخميناتهم حول كيفية حصوله على بقعة مهجورة لصاحبها المهاجر، واستغلاله فرصة الربيع العربي للبناء دون ترخيص، وابتعاده المفاجئ عن الحي ... لكنهم في نهاية كل حديث، كانوا يثنون على شخصه الهادئ الكتوم ... يذكرونه كلما مروا أمام بيته، فيتداولون سيرته باسم الغريب. وبعد شهور من الغياب زعم أحدهم أنه رآه ذات مساء في أحد الأحياء البعيدة يوزع منشورات تدعو الناس للتصويت على الدستور الجديد...
بعد هدوء العاصفة،تحركت دوريات قائد المقاطعة من أجل هدم البنايات العشوائية التي نبتت كالفطر خلال تلك الآونة ، فاستعصى عليها أن تطال البيوت المسكونة، فكان بيت الغريب الفارغ هدفا سهلا للجرافة المترددة...
انتظر الأهالي عودة الغريب، وانتظروا ردة فعله حين أتى، فلم يختلف حاله عن السابق: لم يكلف نفسه عناء السؤال، بل لملم ما تبقى من قطع متناثرة ورمى بها في ركن متبقي من أركان البيت المهدوم ثم انصرف. لكنه عاد بعد أيام ليقيم أركان البيت من جديد ، فتعاطفوا معه ليلا وساعدوا العمال الغرباء دون أن يعرفوا منهم شيئا... تجرأ أحدهم وطلب من الغريب أن يقيم بالبيت شهورا كي يتجنب جرافة الهدم، فبدا وكأنه يستجيب ...
كانت مفاجأة الأهالي كبيرة جدا عندما ترشح الغريب لخوض غمار الانتخابات البرلمانية بعد المصادقة على الدستور، وأخذ يتجول بين الأحياء والأموات يتوسل بعض الأصوات. ولما لم يعد مطرب الحي يطرب، ولما شم الناس رائحة تغيير ممكن، أصبح الغريب نائبا محترما تظهر صورته عبر شاشة التلفاز... انتظروا أن يزور الغريب بيته يوما دون جدوى، وانتظروا أن تعود اليه جرافة القائد دون جدوى، فشاع بينهم أن الغريب كان يتاجر في العشوائيات منذ زمن بعيد...