رجلان منبوذان من مجتمعهما منذ لحظة ولادتهما، يقتاتان يوميا من السرقة، الأول تركته أمه لقيطا على عتبة المؤسسة العامة لرعاية اللقطاء في ديسمبر/كانون الأول 1910 ولم يكن قد أتم عامه الأول بعد، والثاني وُلد في 1935 لعائلة تترنح أوضاعها بين الفقر والفقر المدقع. والد الأول ظل مجهولا، أما الآخر فعرف أباه، ولكنه عرفه أبا قاسيا قتل أخاه أمام عينيه. احترف الأول ممارسة كل أنواع الشرور، أما الثاني فعرف صغيرا كيف ينتقي من بين أكوام القمامة طعامه، كلاهما عاش على أطراف المدينة حيث الفقر والجوع والجريمة، كانت باريس موطن الأول، أما الثاني فطنجة مدينته.
الفرق بين مولدهما 25 عاما، كلاهما كتب سيرة ذاتية تضج بالخيانة والجبن، الشذوذ والعهر، حاولا تفريغ ذاكرة محملة بصقيع النوم على الأرصفة وبرودة جدران السجن، كشفا عن وجه المدينة المظلم وعالمها السفلي. فنرى من خلالهما حياة المحرومين بلا زيف، تمتلئ أعمالهما بالجماليات ولكنها جماليات القبح، وإن شئت وصفا أدق فإنها جماليات الشر، تركا خلفهما أعمالا أدبية كإرث باقٍ، كانا مهمشين منسيين ولكنهما نالا شهرة واسعة، فجمعا بين اللصوصية والأدب، وإن أردت التعرف عليهما، فهما الفرنسي جان جينيه والمغربي محمد شكري. حسنا، سنسعى عبر هذا التقرير إلى الاقتراب من عالمهما الواقعي والأدبي من خلال سيرتهما الذاتية، "يوميات لص" لجينيه و"الخبز الحافي" لمحمد شكري، ونقارن بينهما لنرى هل يجعل الأدب من اللصوص قديسين؟ ونبدأ بأوجه الشبه بينهما.
التشرد المشترك الأكثر أصالة بين شكري وجينيه:
أول مشترك بين جينيه وشكري هو حياة الفقر والتشرد، هذا المشترك الذي دفع الكُتّاب والنقاد لتسمية شكري بجينيه طنجة، فيقول شكري في خبزه الحافي:
"تحتفظ ذاكرتي ببعض ملامح هجرة المجاعة الريفية، وليس بكل ما حدث أثناء الرحلة، لا أذكر بالضبط كم مشينا على الأقدام لكي نصل إلى طنجة، الفردوس آنذاك! غير أني أذكر الناس الذين كانوا يسقطون أحيانا مرضى وأحيانا موتى. رأيتهم يدفنون حيث كانوا ينهارون، الجوع والإعياء كانا قاتلين، عندما بلغنا طنجة لم نجدها ذلك الفردوس الموعود، لكنها لم تكن جحيما، من سوء حظنا أن أبي كان جنديا هاربا من الجيش، فقبض عليه وسُجن سنتين قضاهما بين طنجة وأصيلة، اضطرت أمي إلى بيع الخضر والفواكه في أسواق المدينة، وأنا كنت أقتات من أزبال النصارى الغنية، لأن أزبال المغاربة المسلمين كانت فقيرة". (1)
أما جينيه فقد عاش بين السنوات 1933-1942 حياة الفقر والتشرد، متنقلا في عدة بلدان أوروبية، إسبانيا وإيطاليا وألبانيا والنمسا وجيكوسلوفاكيا وبولندا وألمانيا النازية، وأمضى فترات متقطعة في سجون مختلفة، سرق وباع نفسه من أجل البقاء، واختلط بأرباب السوابق والساقطات والقتلة، الذين وظّفهم فيما بعد كنماذج لشخصياته كما فعل شكري كذلك. (2)
جينيه وحب زهرة الوزال وشكري مجنون الورد
ثمة مشترك آخر بينهما قد يبدو غريبا قليلا، وهو علاقتهما مع الزهرة، فقد كتب جنينه عن زهرته الخاصة "زهرة الوزال" التي طالما شعر بأن ثمة رابطا عميقا يجمع بينهما، يصف جينيه علاقته بها، قائلا:
"كلما مررت عليها كنت أرنو إليها بخشوع ومحبة، ويبدو أنّ مشكلتي تكمن في الطبيعة التي تحكمت في عاطفتي، واتسقت معها، فأنا وحيد في هذا العالم، ولست متأكدا إذا كنت ملك هذه الزهور أو شيطانها، فهي تُبدي لي الإجلال حين أمرّ فتنثني دون انحناء، لكنها تعرفني، هي شعاري، ومن خلالها تمتد جذوري في تلك التربة الفرنسية التي تغذت على العظام المسحوقة للأطفال والشباب، وهكذا عبر اسمها الذي أحمله، أصبحت المملكة النباتية هي أليفتي، أنظر إليها باحترام لا بشفقة، فهي أفراد عائلتي، وإذا ربطت نفسي بالممالك السفلى، فإن هبوطي هناك كان لأجل الطحالب ونبات السرخس ومستنقعاته، وابتعدت أكثر عن البشر". (3)
بينما اعتبر جينيه زهرة الوزال صديقته الأليفة بعيدا عن عالم البشر، لُقب محمد شكري بــمجنون الورد، ففي يوم من الأيام ارتاد شكري إحدى حانات طنجة، فدخلت فتاة حسناء تبيع الورد، فاشترى منها وردة، ولكنه لم يجد من يهديها إليه، فشم رائحتها وراودته فكرة مجنونة -ولكنه جنون يليق بشكري على أي حال- وهي أكل أوراق الوردة، ظنا منه أن تلك الرائحة الطيبة المنبعثة منها يمكن أن تُذهب روائح البطن الكريهة، فنزع أوراق الوردة وأكلها، وحين جاءت بائعة الورد مرة أخرى اشترى وردة ثانية وأكل أوراقها، ثم أتبعها بوردة ثالثة حتى أصيب بالتسمم، مثيرا دهشة رواد الحانة، فأطلقوا عليه "مجنون الورد"، وكان ذلك عنوان مجموعته القصصية "مجنون الورد". (4) أما جينيه فله رواية أسماها بــ"معجزة الوردة".
ولكن جينيه كان أكثر ارتباطا بالطبيعة مقارنة بشكري، ففي أعماله يُكثر جينيه من وصف الزهور والنخيل وقطرات المطر على النوافذ. وفي أولى صفحات "يوميات لص"، يبيّن جينيه أوجه الشبه بين السجناء والزهور، فيقول: "لو رسمت سجينا لزينته بالزهور، حتى يختفي تحتها، ويصبح بدوره زهرة جديدة عملاقة"، فهشاشة ورقة الزهور -عند جينيه- تشبه هشاشة السجناء رغم البلادة والوحشية التي يتصفون بها.
حكايات مسيرة الكتابة بين جينيه وشكري:
لكلٍّ من جينيه وشكري حكاية مع الكتابة، فيذكر جينيه أن رتابة السجن هي التي دفعته للكتابة، فلجأ لحياته الماضية ودوّنها في أعمال أدبية، وبعد خروجه من السجن كتب ليتكسّب، ولكن الكتابة عند جينيه أكبر من كونها دفعا للسأم أو مصدرا لكسب العيش، فالكتابة عنده إعادة اعتبار، فيقول: "حينما تفحصت كتاباتي بصبر، وجدتها محاولة لرد اعتبار لأشخاص وأشياء ومشاعر تتصف بالفساد والضعة". كتب جينيه عن الخيانة واللصوصية، ولم يكتب ليعتذر عنها أو يبررها، فالجريمة عنده تمرد ورفض للعالم الذي رفضه، فجعل جينيه الجريمة وخاصة السرقة فعلا مقدسا، وكتب عن الشر النقي كمقابل للفضيلة الخالصة، فيذكر في يومياته:
"لا أريد أن أخفي في هذه اليوميات الأسباب الأخرى التي جعلتني لصا، أبسطها على الإطلاق: الحاجة للطعام، فإن القسوة والتمرد والغضب لم تدخل قط مجال اختياري، كل ليلة أحصل على قليل من المعلومات يصنفها خيالي، الضحية والمجرم يتولدان داخلي، وأجمعهما في مكان ما، قرب الصبح أهتز طربا وأنا أرى الضحية يقترب من الموت والمجرم ينساق إلى مستعمرة العقاب أو تقطع رأسه بالمقصلة". (5)
وحينما شبه جينيه أوضاعه شبهها بحكاية سيدة وضعت طفلة على هيئة مسخ، فخبأتها بعيدا عن الناس، صارت هذه الطفلة جوهر حياتها، وقررت أن تحب هذا المسخ، أن تحب القبح الذي خرج من بطنها، وتعتني به، فنذرت حياتها لرعايتها بيدين رقيقتين -رغم كل آثار الكدح اليومي- بحماسة البائس العنيدة. وكانت الكتابة صورة من صور العناية بهذا المسخ الذي وُلد به جينيه، مسخ الظروف التي فُرضت عليه، فما كان إلا الحفاظ على هذا المسخ بقبحه.
شكري.. كاتب تعلّم القراءة والكتابة في سن العشرين
أول ما تدفق قلم جينيه كان بين جدران السجن، أما شكري فأمره أعجب مقارنة بغيره من الكُتّاب عامة وليس جينيه فحسب، فلم يتعلم شكري القراءة والكتابة إلا في سن متأخرة في العشرين، حينما سخر منه أحد رواد المقهى الذي اعتاد شكري الجلوس عليه بطنجة، ومُنع من المشاركة في حوارهم عن الشأن العام لأنه -ببساطة- كان أُمّيًّا، رغم أن صاحبه ذاك لم يكمل تعليمه، غضب شكري وقرر تعلم القراءة والكتابة، وأشبع نهمه بالاطلاع على الكثير من المؤلفات، ومن القراءة بدأت رحلته مع الكتابة، ولكن لم يتصور شكري أن يصبح يوما ما كاتبا حتى رأى الكاتب المغربي محمد الصباغ، ملهمه الأول.
فقد كان شكري يرى أن الكُتّاب أناس غير عاديين، ينبغي أن يكون لهم احتفاء خاص، فلا يظهرون أمام الجماهير، ولكنه حينما وجد الصباغ يرتاد ذات المقهى الذي يجلس عليه، ويخطب في الناس ويشاركهم النقاش، وجد أن هالة الكتابة قد تُخترق، وأنه كمتسكّع مشرد قد يصبح أديبا. وبدأ بكتابة سيرته "الخبز الحافي" التي نُشرت مترجمة بالفرنسية أول مرة، ثم بالإنجليزية والإسبانية، قبل أن تظهر بنسختها العربية الأصلية، فذاعت شهرة شكري على إثر خبزه الحافي. (6)
سارتر وشهرة جينيه
أما جينيه فقد ذاع صيته في عالم الثقافة الفرنسي بعدما اكتشفه الفنان الأديب والمخرج السينمائي الفرنسي كوكتو، ثم انتقلت شهرة جينيه لمدى أوسع وأكثر انتشارا منذ لقائه بالفيلسوف الفرنسي سارتر في عام 1942، وتوطّدت الصداقة بينهما، فقد كتب سارتر عن جينيه كتابا من أكثر من خمسمئة صفحة واصفا إياه بــ"القديس" وحمل الكتاب عنوان "القديس جينيه ممثل هزلي وشهيد". (7) فقد نشر سارتر أعمال جينيه الكاملة مضيفا إليها مقدمة بيوغرافية ونقدية كتلك التي وضعها لأعمال باسكال وفولتير، ضمن منشورات "كُتّاب فرنسا العِظام".
يصف الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي كتاب سارتر عن جينيه بأنه تحفة سارتر، متعجبا كيف وضع سارتر كاتبا -مهما كان تفرّده وتمتعه بموهبة فإنه كاتب مُقلق من الجانب الإنساني- على صعيد مجد الكتاب الكبار نفسه. (8) لم يدعم سارتر جينيه فكريا ومعنويا فحسب، ولكنه ساهم في رفع عقوبة السجن عنه، فقدم سارتر التماسا للعفو عن جينيه مع أربعين مثقفا فرنسيا آخرين، وبالفعل صدر العفو عن جينيه.
هل شكري جينيه طنجة حقا؟
بالرغم من الحفاوة التي استُقبل بها محمد شكري في العالم العربي والغربي على السواء، فإن ثمة آراء معارضة لهذه الحفاوة التي حظي بها، وتلك الشهرة التي نالتها كتاباته، أبرزها رأي د. جلال أمين، الذي رأى أن أدب محمد شكري ما هو إلا عنوان لأدب فضائحي غير أخلاقي استند في شهرته إلى خبزه الحافي دون لغة أدبية مبدعة، أو جوهر فكري أو منطق فلسفي تدور حوله رواياته، فقدّمت أعماله الجنس المُعرّى بلا زيف ادعاء بأن هذا هو الأدب، ووفقا لجلال أمين فتوظيف علاقات الجسد في روايات الطيب صالح أو جينيه لم تأت هباء من أجل الوجود والتقليد الأعمى، ولكن تحمل خلفها قضايا حقيقية وإبداعا فنيا افتقره محمد شكري. (9)
ولم يستند جلال أمين في نقده لشكري إلى أعماله الأدبية فحسب، وإنما انتقد تشبيه شكري بجينيه لاختلاف مواقفهما السياسية كذلك، وقارن بين مواقف جينيه السياسية ومواقف شكري، فبينما أعلن شكري رفضه للربط بين الأيديولوجيا والأدب، وترفّعه عن الحديث عن السياسة، وإعلانه عن علاقته الجيدة مع كل الأحزاب السياسية (10)، كان لجينيه مواقف قوية كرفضه للاستعمار الفرنسي بالجزائر، ودعمه للقضية الفلسطينية، فقد شهد جينيه جريمة مخيم شاتيلا وكتب شهادته عما رأى موثقا بشاعات الاستعمار الصهيوني. (11)
ولكن هل يُقدّر وزن الكاتب الأدبي بمواقفه السياسية كما أشار جلال أمين؟ حينما سُئل الكاتب التشيكي ميلان كونديرا ذات يوم:
- هل أنت شيوعي يا سيد كونديرا؟
= لا، فأنا روائي.
- هل أنت منشق؟
= لا، أنا روائي.
- هل أنت اليمين أم اليسار؟
= لا هذا ولا ذاك، أنا روائي.(12)
ولكن على أي حال فنقد جلال أمين لشكري يفتح الباب نحو مقارنة أوسع للاختلاف بين شكري وجينيه، وينقلنا لمساءلة هل الأدب ينطبق عليه المعايير الأخلاقية ذاتها للأفعال البشرية؟ أما عن أوجه الاختلاف بين شكري وجينيه، فتتمثّل في ذاك البُعد الغائب في كتابات شكري وتفيض به أعمال جينيه، وهو جماليات الشر.
"كلما كبر ذنبي في عيونكم تكون حريتي أكبر".. جماليات الشر عند جينيه: كان الأدب وسيلة جينيه للكتابة عن جماليات الشر والقبح معا، فبينما أخذ شكرى يسرد حياة المشردين في خبزه الحافي، عرض جينيه في "يوميات لص" جماليات الجريمة، فكيف ذلك؟ يرى جينيه بأن الجريمة بقدر ما تعكس من جبن واستحقار فإنها على الناحية الأخرى تمنح أصحابها مزايا أخرى، كالجرأة مثلا، تلك الجرأة هي التي جعلته غير خائف من اندلاع الحرب العالمية الثانية رغم توجس الناس خيفة من حوله، فيذكر جينيه:
"بينما خاف الناس من قدوم الحرب العالمية الثانية، اتجهت إلى داخلي، وهيأت لنفسي مكانا وحشيا بهيجا، أراقب به غضب الرجال دون أن أخافه، أتشوّق لصوت المدافع وأبواق الموت، لأغزل لنفسي فقاعة من صمت لا نهائي، أبعد نفسي عنهم بطبقات متضاعفة من مغامراتي السابقة"
وعن الشحاذة وما تضفيه على صاحبها من فضيلة الشجاعة، يقول جينيه: "إن ثقافة الآلام والأحزان التي اكتسبها الشحاذون هي وسيلتهم للحصول على نقود قليلة يعيشون عليها، مع أن ما قادهم إلى ذلك قد يكون كسلا ما بسبب حياة الفقر التي يعيشونها، إلا أن الكبرياء الذي يحتاجونه لرفع رأسهم عاليا فوق الاحتقار المنغرسين فيه، كما أن مواصلة الإذلال لممارسة الشحاذة تتطلب فضيلة الشجاعة".
كان جينيه لصا عجيبا، فليس من المعتاد أن نسمع عن لص يُهدي سرقاته الأولى لرفاقه، ولكن هكذا فعل جينيه، حيث أهدى سرقاته إلى جمال وهدوء وبساطة صديقه "ستلتانو". فعل السرقة يُضحي فعلا مقدسا عند جينيه، فيشبّهه بالطقس الديني، حيث يتم في قلب الظلام والناس نيام، يستلزم الصمت والسير على أطراف الأصابع، والأيدي المتلصصة، ويزيد بأن السرقة تكثف شعور اللصوص بذواتهم وحواسهم، فيقول: "أنت تشعر بأنك تحيا في هذه اللحظات، فالأذن منتبهة والحضور العصبي الخفي للشريك المتواطئ وفهم أدق إشاراته، كل ذلك يكثف شعورنا بذواتنا". (13)
بالطبع ليس عليك أيها القارئ أن تسرق ليتعمق شعورك بذاتك، ولكن عليك أن تُصغي لجينيه ووصفه لعلاقته بالسرقة لندرك مفهوم الشر النقي عنده، فقد أصبحت السرقات التي ارتكبها جينيه في نظره عملا قاسيا ونقيا ومتألقا لا يماثله إلا تألق ماسة، ولكن لأجل أن يبلغ تلك المرتبة من القسوة والنقاء معا، كان عليه أن يدمر الروابط الحميمية للأخوة ليحقق نموذجه المثالي للشر النقي.
فيحكي جينيه موقفا غريبا، حيث إنه في مرة اشتبك صديق له في جريمة سرقة وقتل، وأعطاه النقود التي سرقها قبل إلقاء القبض عليه، فظل جينيه محتفظا بها حتى يردها إليه أو يرسلها إليه في محبسه، ظل جينيه مؤرقا طيلة الوقت، حتى صرف النظر عن إرسالها ودعا نفسه إلى وجبة غداء فخم رغم تيقنه بأن صديقه يتضور جوعا في السجن، رأى جينيه أنه بهذه الجريمة الشنعاء قد حرر نفسه من الانشغال بالمسائل الأخلاقية، ولكنه بعد أيام قليلة أرسل كل ما معه من مال لأجل صديقه في السجن.(14)
يبدو من يوميات لص أن السؤال الأخلاقي ظل يُرهق جينيه، فبدا الشر المحض والخيانة الخالصة والسرقة بمهارة هي الصور المقابلة للخير المحض. يقر جينيه في يومياته بأنه كان ممسوسا بفعل القتل، كان القتل هو الحلقة المتبقية ليعلن انقطاعه النهائي عن عالم البشر. فيحكي جينيه أنه في رحلته إلى ألمانيا النازية، كان الإجرام فعلا متسقا مع مُثُل ألمانيا آنذاك، فشعر بغربة حينما سرق، لأن إجرامه كان متسقا مع الإجرام العام في ألمانيا النازية، فلم يكن ثمة تمرد أو رفض في فعله. وإذا أردنا أن نلخّص علاقة جينيه بالجريمة، يمكن أن نختصرها في عبارة جينيه تلك: "كلما كبر ذنبي في عيونكم تكون حريتي أكبر وعزلتي أكثر كمالا وتفردا، وأكسبتني ذنوبي حق الذكاء، فالإهانة الشديدة التي واجهتها في طفولتي أطلقتني في الحياة بسهولة". (15)
كان لسارتر فضل كبير في وضع أيدينا على فلسفة الشر عند جينيه، فيشير جورج باتاي إلى أن سارتر تعامل مع النص الأدبي لجينيه بحسه الفلسفي متأثرا بالتحليل النفسي، معالجا لمشكلة الشر، فوجد سارتر في جينيه تأكيدا للعلاقة بين الفضيلة والشر. ولباتاي تفسير للشر عند جينيه باعتباره صورة من صور السيادة، مشبها الجرائم التي ارتكبها بجرائم الملوك بمصر القديمة، فبينما كان السِّفاح محرما على الجميع، كان محللا للملك صاحب السيادة، وفي كل الحضارات -وفقا لباتاي- تتمتع بعض الأفعال التي تعد جريمة بصبغة المقدس والتضحية الأبدية، كأضحية الطقوس في الأعياد الشعبية، حيث يُضحي فعل القتل فضيلة لا جريمة.
فيفرق باتاي بين الزمن العادي والزمن السيادي، ففي الزمن العادي يتم رفض بعض التصرفات المتناقضة مع القوانين، ولكن في الزمن السيادي كما في العيد يتم قبول التصرفات المتناقضة ذاتها، وذلك يعني -وفقا لباتاي- بأنه لا يمكن للسيادة العظمى أن تقوم إلاّ بشرط لجوئنا إلى الشر، أي بخرق المحرم. 16 لذلك رأى فلاسفة فرنسا كسارتر وباتاي بأن جينيه بحث عن السيادة ضمن الشر، والشر عينه ما يمنحه، في الحقيقة، الشعور بالسيادة. ربما بحث جينيه عن الشعور بالسيادة في الشر، أن يبحث لنفسه عن تاريخ سري يجعله في مرتبة العِظام ولكن بطريق آخر غير طريق المجد، ربما السرقة، وفي ذلك يقول جينيه:
"ما نوع الكمال الأخلاقي الذي أنشده؟ السرقة لا يمكن تدميرها وكأنها لم تكن، فقد قررت أن أجعلها أصل حالة الكمال الأخلاقي، إنها جبن وضعف وخسة وانحطاط، رغبت في مجد مرئي باهر يظهر على أطراف أصابعي، رغبت أن ترفعني قوتي على الأرض وتنفجر داخلي، تحللني، وتذروني في اتجاهات الريح الأربعة بحيث أهطل فوق العالم، ويلمس غباري النجوم". (17)
ويضيف أيضا:
"ذهلت لكوني تحت السماء نفسها التي رآها الإسكندر وقيصر، أنا مجرد شحاذ ولص كسول عبرت أوروبا كلها بوسائلي الخاصة التي هي على النقيض من طرق المجد، هأنذا اكتب لنفسي تاريخا سريا مفصلا قيما مثل تاريخ العظام، ولذا كان من الضروري أن تجعل مني هذه التفاصيل الشخصية الأكثر تفردا وندرة، وواصلت تجربة أكثر طوالع السوء كآبة".(18)
هل الكتابة تُجمّل الأفعال، فتصبح الجريمة بالكتابة فعلا له قداسة؟
ماذا لو لم يُسجّل جينيه وشكري أعمالا أدبية، هل سيظل لهما المكانة نفسها أم سيتم تسكينهم في خانة اللصوص المشردين فحسب؟ هل تمتلك الكلمات قوة إلى الحد الذي يجعل من اللصوص أشخاصا عِظاما؟ كان لجينيه رأي آخر، ففي حواره مع الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس حينما أخبره سعد الله ونوس بأنه كاتب كبير ذو شهرة واسعة، فرد عليه جينيه: "تقول إني كاتب له وزن، هل أنت جاد؟". رد عليه ونوس قائلا: "أتريد أن تتواضع؟ كم مرة أعيدت طباعة مؤلفاتك؟ وإلى كم لغة تُرجمت؟" أجابه جينيه: "هذا صحيح، ولكن هل تعرف لماذا يشتري القراء رواياتي أو ما يهمهم فيها؟ سأقول لك: ما يهمهم هو سيرتي الذاتية؛ الوجه الفضائحي في حياتي هو الذي يشغل فضولهم، يدفعهم لشراء كتبي". (19)
أما محمد شكري فقد ظل غاضبا من اختزال مسيرته الأدبية في سيرته الذاتية "الخبز الحافي"، خبزه الحافي -بالنسبة لشكري- بمنزلة تصفية حسابات مع ماضٍ لم يعد موجودا، فشهرة الرواية سحقته، مطالبا النقاد والجمهور بالتعامل معه كجزء من واقع أدبي لا كفقاعة اسمها ظاهرة محمد شكري. (20) ففي رأي شكري فإن "الخبز الحافي" ليس فيه قيمة فنية أو أدبية متطورة مقارنة بأعماله الأخرى كـ "زمن الأخطاء" و"السوق الداخلي"، وأنه برغم من كونه صنيعة لدور النشر فإنه ضحية لها، لاعتمادها على الوجه الفضائحي في حياته الماضية فقط. (21) فهل الأمر لا يعدو عن كونه الوجه الفضائحي المُرضِي لفضول القراء الذين جعلوا بسببه من هؤلاء الكُتّاب ظاهرة أدبية؟ أم أن للكتابة قوة تقدر على منح الأشياء العادية أو الحقيقة العارية والجرائم التي يندى لها الجبين خجلا فخرا خاصا؟ هل تمنح الكتابة الجيدة الأشياء القبيحة جمالا خاصا؟
في فيلم "قبل الشروق" (before sunrise) تخبر البطلة البطل قصة تعرفها على صديقها السابق وأنها ذهبت لطبيبة نفسية بسبب علاقتها السيئة به، فطلبت منها أن تكتب لتخرج كل مشاعرها وتعبّر عنها، فكتبت البطلة قصة فتاة تقتل صديقها، وتعد الخطط وترتب لأجل الجريمة دون أن يكتشف أمرها، تعاملت الطبيبة النفسية مع هذه الكتابة بمحمل الجد، وطلبت لها الشرطة!
أخذت الفتاة تردد على مسامع الطبيبة مستهجنة رد فعلها: "إنها مجرد كتابة"، إنها كتابة وليست واقعا رغم سخرية الفتاة من جنون الطبيبة التي دفعت لها مبلغا ماليا ضخما لأجل أن تصفها بالجنون والإجرام، فإن الفتاة تنقلنا لتعامل آخر مع الكتابة، هل نحن لا نأخذها على محمل الجد بالقدر الذي نسمح فيها بتسجيل كل الخواطر الشريرة، ويُضحي فعل الإجرام المكتوب بقدر من الجمال فعلا جميلا، أم أنه مجرد كتابة! فلا يقع عليها العبء الأخلاقي لتصرفات البشر العادية! لماذا ظل جينيه مخلدا وبقيت أعمال شكري مستمرة مهما اختلفت معهما أو مهما كان موقفك مع ماضيهما أو تفهمك لظروفهما أو رفضها؟ يبدو أن للكتابة سحرا تمنحه للأفعال، سحرا قد يبخسها قدرها أو يرفعها مرتبة التقديس كما حدث مع جينيه وشكري.
فقد ظلت سيرهم الذاتية وثيقة تاريخية تكشف لنا أن الهامش واحد لا فرق بين معاناة مهمش في بلد مُستعمِر أو مُستعمَر، وأن القهر والجريمة متلازمان، وإن اختلف النقاد والباحثون في تقدير أدب جينيه أو محمد شكري، ولكنهما صوتان خرجا من بين الأصوات الموءودة لكثير من المهمشين في عالم الإجرام، وسيرهم الذاتية وثيقة أدبية للشوارع الخلفية في فرنسا والمغرب.